q
إسلاميات - الإمام الشيرازي

المحيط المعرفي وبناء الإنسان

رؤى من أفكار الامام الشيرازي

لدى الانسان مهارات تكوينية تدفعه نحو معرفة الاشياء، والتعامل مع المحيط المجهول ومكوناته كافة، مندفعا نحو اكتشافها ومعرفتها، ولا يهدأ له بال أو عقل، إلا عندما يكون عارفا بما يحيط به، وهذه احدى مكونات النفس، فلا يمكن للانسان ان يبقى مكتوف اليدين والعقل والفكر، اذا كان يعيش في محيط يجهله، لأنه لا يستطيع التعامل معه ولا يمكن له العيش فيه.

والمعرفة بحسب توصيف المعنيين هي الإدراك والوعي وفهم الحقائق، أو اكتساب المعلومة عن طريق التجربة، أو من خلال التأمل في طبيعة الأشياء، وتأمل النفس، أو من خلال الإطلاع على تجارب الآخرين، وقراءة استنتاجاتهم، والمعرفة مرتبطة بالبديهة والبحث لاكتشاف المجهول وتطوير الذات وتطوير التقنيات.

ويحدد قاموس أوكسفورد الإنكليزي المعرفة بأنها: أ- الخبرات والمهارات المكتسبة من قبل شخص من خلال التجربة أو التعليم؛ والفهم النظري أو العملي لموضوع. ب- والمعرفة تمثل مجموع ما هو معروف في مجال معين؛ كالحقائق والمعلومات، والوعي أو الخبرة التي اكتسبتها من الواقع أو من القراءة أو المناقشة. ج- وتدخل ضمن هذا الاطار المناقشات الفلسفية في بداية التاريخ مع أفلاطون لصياغة المعرفة.

وطالما أن المعرفة هاجس انساني لا يمكن إهماله او تجاوزه او القضاء عليه في اعماق الانسان، فإن الانسان لا يقرّ له قرار إلا أذ كان ذا معرفة بالمحيط الذي ينشط فيه، لأنه لا يشبه الكائنات الاخرى التي تتوقف تطلعاتها عند حدود الطعام وما تتطلبه الغرائز الحيوانية، لذلك لا يكف الانسان لحظة عن التفاعل والتلاقي مع محيطه بشتى الطرق والوسائل.

يقول الامام الراحل، آية الله العظمى، السيد محمد الحسيني الشيرازي (رحمه الله)، في كتابه القيّم الموسوم بـ (الفقه: الاجتماع ج1) حول هذا الموضوع: إن (الإنسان يتلاقى مع المحيط الطبيعي أو الاجتماعي أو الصناعي، وقد أودع الله في الإنسان ذخائر، كما قال علي عليه السلام في حكمة بعث الأنبياء: [ ليثيروا لهم دفائن العقول] وبهذا التلاقي تنعكس حالات المحيط إلى داخله، مما يسمى بـ أول المعرفة).

علما أن الانسان يولد ويولد معه حب الاستطلاع، وهذا بدوره يدفعه لمعرفة كل ما يدور حوله، لاسيما تلك القضايا التي تتعلق بحاجاته التي تؤمن له متطلبات الحياة اولا، ثم التفوق والصعود الى مراتب أعلى وأفضل، فيدخل في سلسلة من المنافسات مع اقرانه او مع من سبقوه ايضا من خلال الاحتكاك بالتجارب، فيغدو في حالة بحث دائبة عن المعرفة.

يقول الامام الشيرازي في هذا الجانب بكتابه نفسه: (لقد أودع الله في الإنسان حب الاستطلاع، ولذا نرى الطفل منذ صغره الباكر يهتم بالأشياء، يأخذها ويقلبها ويتذوقها ويستمع إليها، ليعرف خصوصياتها وطعمها، وأصواتها، وملمسها، وأحياناً يشمها لمعرفة روائحها).

نبتة العقل تنمو

يُعرف الانسان على انه متميز على الكائنات الاخرى ببعض الصفات والسمات، ومنها تكوينية تتعلق بالخلْق، فالعقل الذي وهبه الله تعالى للانسان هو الذي جعله سيدا على الكائنات الاخرى واكثر ذكاءً منها جميعا على الرغم من انه ليس أكثرها قوةً، وبهذا العقل يجمع الانسان شتات المعرفة ويبدأ يزيد ثروته منها، حتى تبدو وكأنها الكنز الذي يعيته على التطور والعلوّ، كما ان هذا العقل ينشأ مع ولادة الانسان صغيرا مثل نبتة ثم ينمو!.

يقول الامام الشيرازي في هذا الشأن بكتاب الفقة الاجتماع: (هناك في داخل الإنسان جهاز العقل، وهو كالنبتة، تنمو وتنمو، فإن شذب وهذب نما نمواً مستقيماً، وإلا نما نمواً منحرفاً، وهذان: [الحس والعقل] يتعاونان ليكونا للإنسان المعرفة، إن قليلاً أو كثيراً). إذن لا يكفي وجود العقل وحده لدى الانسان، وإنما ينبغي أن تتم المحافظة عليه من الانحراف، لأن العقل اذا انحرف نحو الشر، فهذا يجعل من صاحبه كائنا شريرا لا يمكن للبشرية ان تستفيد منه، بل سوف يمثل خطرا عليها، وعلى نفسه بطبيعة الحال.

لذلك هناك تأثير متبادَل بين الانسان ومحيطه، فكلاهما يؤثر في الآخر، والانسان الناجح هو ذلك الذي يتفوق بتأثيره في المحيط الذي يتحرك وينشط بحدوده ومجالاته، بمعنى ينبغي أن يكون الانسان متنبّها لمحتويات محيطه ومغرياته، وينبغي ان يكون عارفا بها، فينبذ السيّئ منها، وينادم ما يناسبه ويدفعه خطوة في الطريق القويم، وبهذه الحالة يكون قد وظّف المحيط لصالحه، ويمكنه أن يؤثر في المحيط فيجعله افضل واكثر تطورا وقدرة على تحقيق طموحات الانسان المشروعة.

لذا يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور نفسه في هذا المجال: (إن تلاقي الإنسان والمحيط، يوجب تأثير أحدهما في الآخر، فالمحيط بأقسامه الثلاثة يؤثر في الإنسان، عن طريق الحواس الخمس، ولذا كان المحكي عن ابن سيناء أنه قال: - من فقد حساً فقد علماً- أي سلسلة من العلوم المرتبطة بتلك الحاسة كما أن الإنسان يؤثر في المحيط تشذيباً وتهذيباً وتنظيماً وإصلاحاً). هكذا يمكن ان يكون للحس دور كبير في تحقيق المعرفة بالاشياء مهما تنوعت او اختلف، فالحس هنا يضارع المعرفة قيمة وقدرة في دفع الانسان بالاتجاه الصحيح نحو المعرفة التي تخدم مصالحه وليس العكس.

حضور الثواب والعقاب

قد يخطئ الانسان اذا اعتمد كليا على المعرفة المنبثة من ذاته، بعيدا عن الاحتكاك بالتجارب الاخرى، وهذا يؤكد أهمية تلاقح العلوم والمعارف، وتلاقي الانسان بالمحيط الذي ينطوي عليها، وهكذا ينبغي على الانسان ان لا يثق تماما بما يعرفه ذاتيا، وعليه ان يتفحّص ويدقق أكثر مخافة الانزلاق في الخطأ، فقد يتوهم الانسان بأنه عارف لشيء ما ولكنه مخطئ في ذلك.

يقول الامام الشيرازي حول هذا الموضوع: إن (المعرفة الذهنية المستفادة من الحواس، والعقلية التي تتكون عند الإنسان من داخله ليست صحيحة دائماً ولا باقية دائماً، بل أحيانا تكون اشتباهاً، كمن يرى ماء البحر أسود، أو الشيء الكبير ـ من البعيد ـ صغيراً).

كذلك هناك ما يؤكد بأن المعرفة لا تبقى ساكنة عند حدود معينة او نتائج ثابتة، بل هي معرضة للتغيير، سلبا أو إيجابا، وهذا يستدعي نوعا من التنبّه واليقظة مخافة السقوط في الخطأ غير المقصود، فلا ينبغي منح ما نعرف من امور ثقة مطلقة، ولابد ان نبقي هامشا للمراجعة من اجل التأكّد ومن ثم التصحيح.

إذ يؤكد الامام الشيرازي في كتابه المذكور آنفا: (إن المعرفة أحياناً تتغير من الصحيح إلى الغلط، وبالعكس، أو من الغلط إلى الغلط ونادراً يمكن أن يكون من الصحيح إلى الصحيح، باعتبار أن الصحيحين لهما جامع صحيح هما جزئيه). فلا ثبات لنتائج المعرفة بصورة مستمرة، لأنها محكومة بالظروف في حالات كثيرة.

ويبقى عقل الانسان هو الفيصل في قضية الانتقاء المعرفي، فليست المعرف كلها صالحة للانسان، بل لابد ان يدر الناس أنهم مهددون ببعض المعرف التي تعمل بالضد من حاضرهم ومستقبل في مجالات متعددة من الحياة، بعضها مادي يتعلق بأساليب العيش وما شابه، وبعضها فكري يتعلق بالمنظور الفكري الذي يرسم للانسان حدود الحاضر والمستقبل، ونظرا لأهمية العقل الحاسمة في الانتقاء المعرفي والتطوير والحسم، فإنه سيبقى عرضة للعقاب والثواب الدنيوي والاخروي ايضا.

كما يؤكد ذلك الامام الشيرازي في قوله الدقيق: إن (الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة مرتبطان بالعقل، وإلا فالمجنون يحسّ ولا يعاقب كما لا يثاب، لأن لا عقل له، وفي الحديث: إن الله لما خلق العقل قال له: بك أثيب وبك أعاقب).

اضف تعليق