ليست لدى اجهزتنا الاستخبارية في العراق أية موازنات مالية خاصة بابواب الصرف للعمليات السرية او لكسب المصادر والعيون والعملاء!، معلومة قد تبدو صادمة للكثير من المواطنين، لكنها للأسف حقيقة مُرّة أدت الى انهار من دماء ابنائنا من المدنيين والعسكريين على حد سواء.

وحين نتحدث عن موازنات الاجهزة الاستخبارية، فاننا لا نتحدث عن الشق الاداري منها والذي يشمل كافة المصروفات الادارية والمكتبية واللوجستية والمرتبات، ولكننا نتحدث عن شق المصروفات المتعلق بالجهد الاستخباري وبالاخص ماتصرفه المؤسسة الاستخبارية على عملياتها السرية وعلى مصادرها وعيونها، وهو ما نسميه بالموازنة السرية او الموازنة الاستخبارية او النفقات السرية وتسمى في بعض البلدان بالموازنة السوداء اي غير القابلة للكشف والمراقبة الحكومية العامة.

وبمعنى اشمل، هي موازنة الحصول على المعلومة الاستخبارية، تلك المعلومة التي بدونها لامعنى لوجود المؤسسات الاستخبارية، وهي في ذات الوقت موازنة كافة العمليات الاستخبارية السرية.

اهمية الموازنة السرية

ان العمل على ملف الارهاب هو جهد استخباري دوماً، سواء كان صراعنا مع العدو صراعاً مسلحاً ميدانياً، كحالنا الان او في حالة التعامل مع الارهابيين وتنظيماتهم في حرب سرية، كما كان الأمر قبيل احتلال الموصل تحت الارض، لأن الاستخبارات هي رأس الحربة لمواجهة الارهاب بكل وسائله.

ان العمل الاستخباري من الاعمال المكلفة والمجهدة لميزانية الدول، بالرغم من ان الموازنة الاستخبارية مما لايمكن رؤية آثارها المادية على الارض، كما هو حال المشاريع او البنى التحتية او الآليات او الطائرات، وانما تُدفع لإستحصال المعلومات التي ترفد الجهاز الامني بالسبق الامني وترفد القوات المسلحة بنوايا العدو وترفد الحكومة بماتحتاجه للتخطيط الاستراتيجي ولتحمي اقليم الدولة وشعب الدولة.

لذا نلاحظ ان الدول المتقدمة تنفق الأموال بسخاء على المؤسسة الامنية لتكون دوماً صاحبة المعلومة والمعرفة ولتخطط بشكل صحيح وعلى ارض الواقع، وتكون مطلعة على نوايا وخطط جميع منافسيها واعدائها.

ففي امريكا تصرف سنويا حوالي 100 مليار دولار للجهد الاستخباري اي بما يعادل خمس نفقات الجيش البالغة 500 مليار دولار.

وبالرغم من ان العمل الاستخباري مكلف، ولكن المعلومة لا تُعادل بثمن، فلو ان مصدراً استخبارياً يأخذ من الاستخبارات 1000 دولار شهرياً اي يكلف الاستخبارات سنوياً 12000 دولار، وخلال السنة يزودنا بمعلومات تؤدي لإحباط عملية تفجير انتحاري واحدة فقط، لكان مبلغاً زهيداً ولاقيمة له اذا ماقورن بدماء ابنائنا الابرياء ومعوقي التفجيرات ويُتمِ الاطفال وحزن الامهات القاتل، ناهيك عن الاضرار المادية للعجلات والمباني المحطمة.

ابواب الموازنة الاستخبارية

لا تختلف معظم ابواب الصرف في موازنة المؤسسة الاستخبارية عن موازنة اية دائرة من الدوائر الحكومية، ولكن الاختلاف الوحيد يكمن في المصروفات السرية، وتتوزع الموازنة الاستخبارية على عشرين باب رئيسيٍّ هي:

1- الرواتب.

2- اجور الاتصالات والانترنيت.

3- الإطعام.

4- الصيانة ( للعجلات والاجهزة و الحواسيب وشراء قطع الغيار).

5- اجور العلاج.

6- نفقات الواجبات والايفاد والسفر.

7- نفقات الطاقة ( بنزين، كاز، زيوت، كهرباء، ماء).

8- المواد الثابتة ( اثاث، اجهزة، عجلات، اسلحة ).

9- الايجارات.

10 - المواد غير الثابتة ( ملابس، معدات، عتاد، وغيرها).

11- شراء العقارات والاراضي.

12- الهدايا والتكريم.

13- القرطاسية.

14 - نفقات التدريب والدورات.

15 - التوظيف (عامل خدمة، فني، بناء،) وهو مايُعرف بالتعيين بنظام الاجور اليومية.

16- مواد البناء.

17- تكاليف الطوارئ ( إنذارات، حركة، مهرجانات، مناورات، وغيرها).

18- شراء الصحف والبحوث والدراسات والكتب.

19- الحوافز ( الساعات الاضافية والعلاوات).

20-النفقات السرية(تجمع النفقات الاستخبارية السرية في مادة واحدة ضمن الموازنة دون توصيف).

ان التسعة عشر فقرة الاولى من الموازنة تلك هي ما يطلق عليها بالموازنة الادارية، اما الفقرة العشرون فهي مدار مبحثنا وهي اساس الموازنة الاستخبارية المفقودة في العراق !!!.

استخبارات بلا نفقات سرية!

من المؤسف، كما نَوّهنَا، ان اجهزتنا الاستخبارية تتحصل من موازنة الدولة سنوياً على 19 فقرة من تلك الموازنة، لكنها لا تتحصل على الفقرة الاخيرة التي تُعَدُّ العمود الفقري للاحتياجات التي تقوم عليها أية مؤسسة استخبارية، وهذا الامر ليس سراً من اسرار الدولة يتهمنا البعض بإذاعتها، وانما هي فضيحة يُراد لنا ان نكون شهود الزور فيها.

ان من اكبر مشاكل ومعوقات الاستخبارات في العراق تتمثل بعدم تخصيص موازنة سرية طيلة السنوات الثلاثة عشر الماضية وان كافة اجهزتنا تعمل بالموازنة الادارية فقط، اي لا يوجد تخصيص للجهد الاستخباري وهذا يعني ان الدوائر الاستخبارية يراد لها ان تكون مشلولة وبلا اية فائدة.

فلو افترضنا ان الدولة تصرف لهيئة حكومية كمؤسسة الشهداء موازنتها الادارية المتمثلة بمرتبات موظفيها ونثرية مكاتبها، لكنها لاتصرف لتلك المؤسسة الموازنة الخاصة بعوائل الشهداء, حينها سنسمي هذه المؤسسة مشلولة وغير عاملة ولافائدة منها ولا تستطيع ان تقدم خدمة حقيقية سوى الخطابات والشعارات !!.

ان ما دُفِعَ طيلة السنوات الماضية للجهد الاستخباري وللعمليات السرية الاستخبارية هو عبارة عن مبالغ لاتُذكر، وتَمّت بإجتهادات وهِبات فردية جاد بها بعض المسؤولين كوزير او رئيس وزراء من نثرياتهم لهذا العمل، وغالبا ماكانت تُسرق لأنها بلا تخطيط او توزيع او برنامج او مراقبة.

ان الاجهزة الناجحة هي الاجهزة التي تكون الميزانية السرية هي الاكبر وتكون الموازنة الادارية فيها هي الارشق، بل ان من الطبيعي ان تكون الموازنة الادارية هي لصالح الموازنة السرية.

فحين يتطلب الامر تدريب احد المصادر السريين وتتوافر امكانية تدريبه في احد اماكن الجهاز الاستخباري، فحينها يقوم الجهاز باستخدام تخصيصات التدريب الادارية لتلك المهمة، وكذا اذا احتاج المصدر للعلاج وهنالك امكانية لنقله الى بلدنا، فيتم الصرف عليه من تخصيصات العلاج الادارية، وغير ذلك من امثلة خضوع الموازنة الادارية لمتطلبات العمليات السرية الاستخبارية.

المجتمع الاستخباري والموازنة

تقسم الموازنة الاستخبارية كما فصلنا الى قسمين اساسيين هما:

1- الموازنة الادارية. 2- الموازنة السرية

وبالنظر للدقة اللازم توافرها في الموازنة الاستخبارية ولأهمية العمل السري، ولضمان الدقة وانعدام الفساد المالي وتوافر الرقابة، لكل ذلك فإن بحث ودراسة وتنسيق وترشيق وحذف واضافة واقرار موازنة الاستخبارات هي من واجب ادارة المجتمع الاستخباري حصرا.

لأنها المؤسسة المحيطة بكل عمل الاجهزة الاستخبارية، وهي التي يجب ان تقر الخطط وتنسق الواجبات وتمنع التداخل وتوزع الادوار وتشرف وتتابع التنفيذ، لذا فهي القادرة على وضع الموازنة الاستخبارية وإعدادها بالشكل المطلوب والاشراف على صرفها وتدقيق المتحقق منها، مع مراعاة خصوصية كل جهاز ونشاطه وساحة عمله.

ولكن، في بعض الاحيان، يمكن ان تُرصد وتُحدد الميزانية الادارية من خلال المرجعيات الادارية للتشكيل الاستخباري، فمثلا استخبارات الداخلية تأخذ ميزانيتها الادارية من مرجعيتها الادارية (وهي وزاره الداخلية)، وهكذا الامر مع وزاره الدفاع واستخباراتها العسكرية، اما الموازنة السرية فتنحصر فقط بإدارة المجتمع الاستخباري.

وتوضع الموازنة الاستخبارية بعد تحديد الاهداف والمتطلبات والنواقص الاستخبارية التي في الغالب تبدأ بدراسة من مركز التحليل الاستخباري يبين الحاجة الاستخبارية والنسب البيانية لتطوير الملفات واولويات الاهداف.

ثم ينتقل المختصون في الاجهزة الى مركز ادارة المجتمع الاستخبارية او الهيئة الوطنية للاستخبارات حيث تعقد اجتماعات فنية الغرض منها توحيد وتحديد المساحات وحذف المكرر وفك التداخل ضمن مشروع الجمع السنوي طبقاً لأولويات الملف الامني والسياسي والاهداف العليا للدولة.

ومن ثم يُصادق كل جهاز على مشروعه السنوي لجمع المعلومات الذي يلزم بتنفيذه ومنها خطة التطوير وبرنامج التدريب وخطة التجنيد والاختراق وخطة أمن المحطات و تحديث البيانات ومواكبة حاجة الاجهزة الامنية للمعلومات وخطة التوظيف وتقييم المصادر والمخبرين وخطة الحرب النفسية والاذرع و التكنلوجيا والموازنة الادارية وابوابها.

ويتم التركيز حسب الاولويات وتحديد النسب التي يمكن الوصول اليها ضمن السنة المالية ومن ثم تحدد النفقات ويتم السعي لمطابقتها مع التخصيصات الممكن الحصول عليها.

ثم تقر الموازنة السرية وتبلغ الى الجهات المعنية من قبل الهيئة الوطنية للاستخبارات او ادارة المجتمع الاستخباري.

ويكون الجهاز الاستخباري على بيِّنة من موازنته الادارية والسرية قبل بداية العام، ويتبين للجهاز ماالزم به اذرعه من واجبات واهداف ونسب مئوية, وبذا يكون كل جهاز ملزم بالعمل وتحقيق نسب النجاح وان تتوازن مصروفات الجهاز وفق مايقدمه من واجبات منوطة به.

رقابة النفقات السرية

بحكم طبيعة العمل الاستخباري، فإن النفقات السرية لا تخضع للرقابة الادارية او لقوانين ونظم الشؤون المالية، حيث يتم استثنائها من نظام التخصيصات الحكومية بسبب السرية والخطورة المترتبة على تسريب العمل السري، ويُكتفى بتقارير يكتبها الجهاز الاستخباري وتُصادق من قبل رئاسة الاجهزة الاستخبارية ومن ثم ادارة المجتمع الاستخباري حيث تدقق وتتم مطابقتها مع مستوى الانجاز والجهد المتحقق.

فالتخصيصات الحكومية تعتمد على المستندات والفواتير وأوامر الصرف وايصالات استلام المبالغ وسندات الادخال المخزني والكشوفات والوثائق والسجلات والنظام المصرفي وكل ما من شأنه التوثيق.

لكن النفقات الاستخبارية تذهب باتجاه عدم التوثيق، فيعطى الراتب للمصدر بإسم غير حقيقي وعنوان غير حقيقي وبعيدا عن اية وثائق تؤدي الى خطر الكشف وفقدان السرية، لاسيما وان النفقات السرية تصرف اما خارج اقليم الدولة او في اماكن من اراضي الوطن التي تكون فيها حالة امنية خاصة.

لذا فان الموازنة السرية بحاجة الى تقنين وتوثيق بشكل علمي يسمح بإدارة الجهد الاستخباري دون فساد، وفي نفس الوقت يكون بعيداً عن القوانين المالية المعمول بها في الاعمال العلنية.

اذرع الجمع والموازنة السرية

تنقسم اذرع جمع المعلومات بحسب تبعيتها الادارية في الموازنة الى قسمين : الاول يعتمد على التخصيصات الادارية كشبكة الرصد العلني وشبكة المراقبة الفنية وشبكة التبادل والتغذية العكسية، فيما يعتمد القسم الثاني على المصروفات السرية وهي شبكه الخدمة السرية التي تدير شبكة العملاء والمصادر.

وهناك شبكة تدار من خلال التخصيصين الاداري والسري وهي شبكة التواصل مع المواطنين والمخبرين.

وفي حالة العمليات الخاصة التي تقوم بها الاستخبارات كزرع الاجهزة الالكترونية ونصب اللاقطات والكاميرات السرية والمراقبة والاستهداف والحرب النفسية فإن المصروفات خارج البلاد لفريق العمليات يعتمد على الموازنة السرية.

ابرز جوانب المصروفات السرية

نورد فيما يلي اهم بنود المصروفات السرية التي يحتاجها اي جهاز استخباري والتي تفتقر اليها اجهزتنا لعدم وجود بند الموازنة السرية.

1- رواتب المصادر والمتعاونين والمخبرين (نعني بالمخبرين انهم من المواطنين).

2- اجور ادارة الخلايا والمحطات والشبكات.

3- اجور الاتصالات والسفر للمهام السرية

4- شراء الآليات والتجهيزات والاسلحة والاجهزة خارج البلد.

5- ايجار الواجهات (بيوت، مكاتب، مزارع، محلات ) حيث لايتم الشراء اطلاقاً بحكم الاستبدال والتغيير.

6- اجور العلاج.

7- نفقات العمليات الخاصة.

8- كلف وادوات تزوير المستمسكات.

9- الهدايا والهبات.

10- شراء المعلومات.

وقد تختلف بعض الفقرات من دولة الى اخرى، ولكن كل هذه الفقرات تعتبر ضمن مادة واحدة وهي النفقات السرية.

خلاصة

ان اساس العمل الاستخباري هي المعلومة والعمل في بيئة العدو، وهو امر لا يمكن ان يتم من دون توفير الموارد المالية الكافية وفق خطط وموازنة تأخذ بنظر الاعتبار التحديات والواجبات، وحين تتوافر الخطط والموازنة المالية التي بها يتم التنفيذ، حينها نستطيع ان نرتقي بالعمل الاستخباري الحقيقي.

فمنذ ثلاثة عشر عاماً والحكومة لا تدفع اية نفقات استخباربة لاجهزتها الاستخبارية البائسة وفي نفس الوقت تطالبها باخبار ونتائج ومعلومات، ومن المستغرب جدا ان تدفع الحكومة نفقات الحرب بالمليارات ولا تدفع شيء للاستخبارات التي من صميم عملها توفير المعلومات عن العدو !!!!اي اننا نمارس عن عمد حرباً عمياء طيلة ثلاثة عشر عاماً.

اضف تعليق