نعم إنَّ الطعام في العراق متوفرٌ والحمد لله، لكن هذا يمثل أقل من ربع حقوق المواطن العراقي، لأنَّ من حقه أنْ يسيرَ في شوارع معبدة ونظيفة وتكون له أسواقٌ منظمة مثل بقية بلدان العالم وأنْ يكون الشارع بعجلاته ومروره خاضعاً للنظام، وغير ذلك مما يعكس غنى البلاد...

نهاية سبعينيات القرن الماضي أو بداية الثمانينيات، قرأت لقاءً مع أحد المعارضين لنظام القذافي في إحدى الدوريات العربية، وقد كان العنوان الرئيس للحوار (فتش عن النفط فإنَّه يغطي كل حماقة)! وخلاصة ما أراد قوله هذا الرجل أنَّ وجود النفط في ليبيا وما يوفره من عائدات مالية كبيرة، جعلت الناس في رضا عن النظام، وإنْ كان سيئاً وغير رشيد، وهو ما كان عليه نظام القذافي الذي بذّر الكثير من أموال ليبيا في مغامرات وأمور كان في غنى عنها، وتسببت لاحقاً في ما حصل لهذا البلد الذي كان من الممكن أنْ يكون حاضره اليوم أفضل بكثيرٍ مما هو عليه.

تداولت وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي مؤخراً، طروحات أقدم عليها أحدهم، وخلاصتها أنَّ العراقيين يعيشون بحالٍ جيدة مستشهداً بوفرة الطعام.. الخ.

وبرأيي أنَّ الرجل لم يبالغ في القول وإنما قال حقيقة نلمسها ونعيشها، وهي أنَّ العراقيين يأكلون اليوم أفضل بكثيرٍ من بعض شعوب دول المنطقة والعالم، لكنَّ المشكلة في السياق الذي جاء به هذا الطرح، كون المتحدث دافع عن الطبقة السياسية التي رأى أنها بما توفره من طعام، تعدُّ جيدة! متناسياً أنَّ وفرة الطعام وحده لا تنهض دليلاً على ذلك، فالطعام الذي يتدفق أغلبه على العراق من دول الجوار وغيرها، تسدد أمواله من عائدات النفط بشكلٍ مباشر، وهي عائدات كبيرة كما يعرف الجميع، وأنَّ دخوله من خلال وزارة التجارة ورجال الأعمال والتجار، يمثل مشغلاً واحداً من مشاغل الحكومات التي عليها واجبات كثيرة وكبيرة أخرى تجاه الشعب، وهي مقصّرة في أغلبها إنْ لم نقل كلها.

وهنا علينا أنْ نعرضَ لبعض ما ينبغي أنْ تعمل عليه الطبقة السياسية الحاكمة وتتبانى على جعله حقيقة، ومن أبرز ذلك الكهرباء التي قيل قبل أكثر من عشر سنين إنَّ ما صرف عليها يضيء نصف أوروبا، وأيضاً كثرة البطالة والبطالة المقنعة التي أرهقت اقتصاد البلاد بسبب تقصير الحكومات في إعادة الروح لآلاف المصانع المعطّلة، وأيضاً خدمات الطرق حيث ما زالت شوارع العاصمة بغداد مخربة ومشوهة فضلاً عن فوضى الأسواق التي تعيشها المدن العراقية بسبب كثرة البسطات وغياب النظام الذي يجب أنْ تعمل الدولة عليه، ناهيك عن نهب المال العام الذي يجب أنْ تحافظ عليه الأحزاب الحاكمة والذي بلغ حداً لا يطاق، وأنَّ السراق الكبار المدانين أو المعترفين بالجرم أحرار، وهناك عجز واضحٌ في التعامل معهم بسبب تشابك مصالح بعض الأحزاب المتنفذة معهم، فضلاً عن غياب الرصانة في مؤسسات الدولة وشيوع الرشى والمحسوبية، ولا ينتهي الحديث عند غياب الرؤية الوطنية في معالجة قضايا البلاد وارتهان أغلب الأحزاب النافذة لأجندات غير واقعية، ويطول الكلام عند استعراض الكثير من الأمور التي يجب أنْ تكون في مقدمة اهتمامات الدولة ومنذ سنين كثيرة، فالفساد الذي استشرى كالسرطان في جسد الدولة غيّب قدرتها على العطاء الذي يجب أنْ يعكس على أرض الواقع حجم الواردات من النفط وغيره، بدلاً من سرقة تلك الموارد وجعل المؤسسات عبارة عن اقطاعيات تتوزعها الأحزاب الحاكمة.

نعم إنَّ الطعام في العراق متوفرٌ والحمد لله، لكن هذا يمثل أقل من ربع حقوق المواطن العراقي، لأنَّ من حقه أنْ يسيرَ في شوارع معبدة ونظيفة وتكون له أسواقٌ منظمة مثل بقية بلدان العالم وأنْ يكون الشارع بعجلاته ومروره خاضعاً للنظام، وغير ذلك مما يعكس غنى البلاد التي باتت مصادر قوتها الاقتصادية وغيرها في أيدي أناسٍ لم يحسنوا التصرف بها ومن ثم يجدون من يبرر لهم ويرى أنَّ ما متوفر من طعام فقط هو الدليل القاطع على رشدهم السياسي.

هذه القراءة القاصرة هي التي كانت وراء تعطل الحياة في واحد من أغنى بلدان العالم.

نأمل أنْ تتواصل خطوات الحكومة الحالية في تفعيل ممكنات الدولة بما يجعلها قادرة على استعادة هيبتها التي ستكون مدخلاً لاستعادة حقوق مواطنيها.

اضف تعليق