التبليغ بمفهومه الواضح هو سعي الانسان العالِم الى نقل معارفه وعلومه وثقافته الى الآخرين، واذا كان هذه المهمة تقع ضمن (الواجب الكفائي)، فإن التبليغ هو عمل (جمعي) لا يُستثنى منه أحد، أي أن الجميع تقع عليهم مسؤولية التبليغ، بشرط توافر القدرة على ذلك، واذا كان الانسان قاصرا لأسباب خارج ارادته عن القيام بهذه المهمة فذلك أمر آخر، أما التنصل من التبليغ بحجة عدم المعرفة والاطلاع، فهذا لا يعفي الانسان القادر على التعلم ومن ثم نقل علمه الى الآخرين عبر واجب التبليغ.
إن القاصر هنا هو من لا يستطيع فهم المعلومات المطلوبة ولا يستطيع استيعابها بسبب قصور في العقل والوعي، كالأطفال، لذلك فإن الطفل ليس عليه واجبا كفائيا بخصوص التبليغ، كونه قاصرا، كذلك الحال فإن غير المتعلم يمكن أن يكون قاصرا عن التبليغ، ولكن الفرق بين الطفل وغير المتعلم واضح، الطفل يأتي قصوره بسبب العمر وقلة العقل والاستيعاب، اما الجاهل فهو انسان كبير ولكنه لم يسعَ للتعلم، لذلك هو قاصر عن التبليغ ايضا، ولكنه مسؤول وعليه ان يؤدي واجبه الكفائي التبليغي، أي عليه أن يتعلم ويعلّم الآخرين.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في احدى كلماته التوجيهية القيّمة: (يعدّ التبليغ في طول السنة، أمراً لازماً وواجباً كفائياً، إلاً من كان قاصراً وليس جاهلاً. لأن الجاهل حتى إذا كان مقصراً، إن لم يسعى إلى التعلّم، فلا يسقط عنه وجوب التعلّم وتعليم الآخرين، بل يبقى مسؤولاً. ولكن القاصر معذوراً عند الله، فـ القاصر لا يستحق العقاب).
إن مهمة التبليغ تعد من أهم ما يقدمه الانسان للآخرين، فهي ببساطة تعني نقل الثقافة والوعي والأفكار البنّاء الى الآخرين، ورفع مستوى وعيهم وصقل ثقافتهم، وتخليصهم من الأفكار الهدامة كالتطرف والتعصب والأحقاد وسوى ذلك من ثقافات لا تنتمي الى الأفكار الاسلامية ذات الطابع الانساني الخلاق، ونظرا لأهمية التبليغ في تطوير المجتمع وإحداث التغيير الجوهري فيه، فإنه (واجب كفائي) على الجميع باستثناء من يستحق صفة (قاصر)، وليس (مقصر)، فالأخير عليه أن يتجاوز تقصيره ويتعلم ويتثقف، ثم يبادر بالتبليغ للمساهمة في بناء مجتمع واعٍ مثقف ومبدع.
لذلك دائما هناك فرصة متاحة للانسان كي يتعلم ويطور نفسه ثم يبدأ بانجاز واجبه الكفائي التبليغي، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (مهما يكن الإنسان حسناً ومتّقياً يمكنه أن يرتقي أكثر في ذلك. فالتقوى والأخلاق الحسنة والإخلاص لا حدود لها، وفيها مجال للارتقاء، وأفضل فرصة لذلك هو شهر رمضان العظيم).
هذا بلاغ للناس
أهمية التبليغ تكمن في التأكيد الإلهي عليه، ولو لا أهميته ودوره الحاسم في تطوير العقل البشري، لما اكد علي النص القرآني بهذه الصراحة التامة وهذا التركيز الحاسم، فالقرآن الكريم عبارة عن حامل للوعي وللثقافة الانسانية المتوهجة، التي استطاعت أن تنقل الانسان من دياجير الظلام الى واحات النور والفكر المضيء، ولذلك أسماه الله تعالى بالبلاغ، لذا فالتبليغ مهمة تصدى لها الأنبياء وركزت عليها الأديان، ونهض بها دعاة الحرية والفلاسفة الايجابيون، نظرا لدور التبليغ الحاسم في تطوير الوعي الفردي والجمعي على حد سواء.
لذلك فإن التركيز على أن الكتاب الحكيم، هو (بلاغ للناس)، فهذا يعني أن دور التبليغ لا يمكن أن يتوقف عند حد، ولا يقتصر على انسان دون غيره، فالجميع يقع عليه هذا الواجب الكفائي باستثناء القاصر أصلا، وليس المقصّر كما سبق الخوض في هذه النقطة، ويعد القرآن الكريم بلاغا لكل الناس وعلى مدى الأزمان.
كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بكلمته المذكورة نفسها: قال الله عزّ وجلّ في القرآن الحكيم: «هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ». والبلاغ يعني الوصول والإيصال. وظاهر الآية الكريمة هو ان القرآن هو بلاغ للناس كافّة ولكل الأزمنة.
ولا شك أن التبليغ يحتاج الى من يتصدى له لذلك عندما جاء التأكيد الالهي على البلاغ، فهذا يعني أن مهمة الرسول الكريم (ص)، تتمثل بهذا الدور الذي يحمل على عاتقه تنوير الناس، وهذا ايضا دور أئمة أهل البيت من آل النبي (ص)، فالأئمة قاموا بدورهم التبليغي في أقسى الظرف ومع أقسى الأنظمة السياسية وأكثرها وحشية وسطوة، ولكن استمر التبليغ قائما كونه واجب يرفع من وتيرة التغيير البشري (الثقافي والديني والسياسي والاجتماعي والاخلاقي) الى الأمام.
من هنا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: إن (تأويل الآية وسبب نزولها يبيّنان ان المراد من (البلاغ) هو النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، كما قال أهل البيت الأطهار صلوات الله عليهم، حيث أرسله الله تبارك وتعالى لعباده كلّهم).
أجواء مناسبة لنشر الأفكار المثالية
من الأمور المحسومة، قضية تهيئة الأجواء للقيام بمهمة التبليغ والتغيير الجيد، فلا يمكن تحقيق تطور ثقافي ما لم يتم تهيئة الاجواء النفسية والمادية للقيام بهذه المهمة على أكمل وجه، وهذا هو الامر الذي يؤكد عليه سماحة المرجع الشيرازي، فقضية التبليغ حالها حال أية قضية مهمة وصعبة تحتاج الى التمهيد المسبق والى صنع الاجواء الملائمة للشروع بعملية التبليغ التي ينبغي أن تأتي أكلوها بعد حين، لأنها تشبه عملية زرع النبات في ارض صالحة بانتظار النتائج (الحصاد الوفير والجيد).
من هنا تأتي أهمية شهر رمضان بخصوص التبليغ، وهذا لا يعني أن بقية الأشهر معفاة من مهمة التبليغ او لا تصلح له، فالتوعية وترسيخ المبادئ العظيمة هدف مطلوب على مدار الأزمنة، ولكن شهر رمضان له أجواؤه التي تضاعف من النتائج الجيدة للتبليغ، لهذا يحث المعنيون على استثمار هذه الميزة الرمضانية، أي على الانسان أن يستغل اجواء رمضان الايمانية الهادئة كي يقوم بمهمته، لأن الناس في هذا الشهر الكريم، تكون مهيأة نفسيا لاستقبال مبادئ وافكار التبليغ، تماما كالأرض التي يتم حرثها وتسميدها وتهيئتها لاستقبال البذور.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (من خصائص هذا الشهر العظيم، هو الصيام، والأعمال الواجبة والمستحبّة الخاصة به، التي تهيئ القلوب وتحضّرها لقبول الحقائق أكثر وأكثر. ومن أهم الواجبات في هذا الشهر تربية النفس. فيجب على الإنسان أن يفعّل قوته وهمّته ويسعى بكل قدراته إلى تربية نفسه في هذا الشهر الفضيل).
لذلك ليس هناك وقت محدد في اشهر السنة مخصصا للتبليغ، انما هذه مهمة وواجب قائم على مدار الزمن وفي اي وقت كان، ولكن شهر رمضان يعين المبلِّغ على اداء مهمته بنجاح اكبر وتميز ونجاح، بسبب الظروف والاجواء الايمانية التي تجعل الوسط المستقبِل للتبليغ، رغبا بالمعرفة ومرحِّبا باستقبال المعلومات التي تخص المبادئ والمعارف والاخلاق الانسانية التي تنقل الانسان من الأسوأ الى الأفضل دائما.
من هنا يعد شهر رمضان أفضل فرصة لقيام المبلِّغ بمهمته التبليغية الكبيرة على افضل وجه، محققا النجاح المتوقَّع كونه يستثمر شهر رمضان بصورة ناجحة، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (علينا أن لا نغفل عن التبليغ طول السنة، ولكن شهر رمضان العظيم، وبسبب ما يختصّ به من خصائص، يعدّ أفضل فرصة للتبليغ).
اضف تعليق