المسؤولية تبدأ من الذات أولا، صعودا الى المسؤوليات الأخرى، وهي كثيرة ومتنوعة، وفقا لقدرات الانسان ومؤهلاته ودوره في الحياة والمجتمع، فإذا قيل أن الانسان يبدأ بنفسه، يربيها يطورها، يراقبها، ويسدد خطواتها، ويشذبها من أخطائها، فهذا القول عين الصواب، لسبب واضح، أن الانسان الذي يفشل في تربية نفسه ومراقبتها وتطويرها، سوف يفشل في القيام بهذا الدور تجاه الآخرين، وهذا يعني أنه خال من أية مسؤولية، أو أنه فاشل في اداء مسؤولياته.
أما اذا كان مسؤولا عن آخرين، كأن يكون ذا منصب كبير في الدولة، فإن المسألة تأخذ مسارا آخر أكثر خطورة اذا جاز القول، فالمسؤول الكبير ليس مسؤولا عن نفسه فحسب، إنما يتأثر عامة الشعب بقراراته وخطواته التي يتخذها عند التنفيذ، ولكن هذا لا يعني أنه غير مسؤول عنه تربية نفسه ومراقبتها، وهذا يحتاج الى نموذج بطبيعة الحال، يقتدي به المسؤول، كي ينجح في دوره وأداء مسؤوليته على أكمل وجه.
لقد ناضل أهل البيت عليهم السلام طوال حياتهم من أجل النهوض بالمسؤولية كما يجب، وقدموا للبشرية نماذج عظيمة، لم تبخل بتقديم أنفسها ودمائها قرابين للحرية ونصرة الحق، والتصدي للمسؤولية بشرف ما بعده شرف، لدرجة أن الكون كله لا يزال يتذكر فضائل هذه الدماء التي رسّخت مبادئ الخير والسلام للبشرية، بيد أن هناك من لا يعرف بهذا الدور الذي قام به أهل البيت عليهم السلام، لاسيما ما قدمه الامام الحسين (ع) على هذا الطريق الذي جعل منه نموذجا انسانيا عالميا لكل سياسي أو مسؤول يريد أن ينجح في مسؤوليته ازاء نفسه والآخرين.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في احدى كلماته التوجيهية للمسلمين عن هذا الموضوع: (قد نسمع أو نرى أن الخبر المفجع يفجع الإنسان ويؤلمه لأيام معدودة، ولكن كم كان كبيراً وعظيماً إراقة دم الإمام الحسين صلوات الله عليه؟ وماذا رأت الملائكة بحيث جعلها تفزع إلى يوم القيامة؟! فلنعلم ان كل ما نؤدّيه من صلاة، وكل ما لدينا من اعتقاد، ومن الفضائل الأخلاقية، فهذه كلها مدينة لدم الإمام الحسين صلوات الله عليه. لأن الإمام سيد الشهداء صلوات الله عليه، بتضحياته، أحيى الإسلام الحقيقي وأبقاه خالداً).
نعم ان الامام الحسين هو النموذج الأكثر حضورا عبر التاريخ، والأكثر قربا الى الانسانية في جانب النهوض بالمسؤولية، من خلال نشر مبادئ الاسلام التي تحفظ كرامة الانسان وتسمو به نحو الأعالي، حيث العدالة والمساواة والتراحم وحرية الرأي والابداع.
اذاً فالنموذج العظيم متوافر أمام المسؤول، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (كان من أهداف الإمام الحسين صلوات الله عليه، فيما اختاره في كربلاء، أيضاً، هو أن يوصل الإسلام إلى البشرية كلّها بلا استثناء، ويعرّفه لها، بلا إجبار أو إكراه على اعتناقه أو التديّن به، لأن القرآن الكريم قد قال: «فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيكْفُرْ» الكهف/29).
كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته
على أننا ينبغي أن لا نغفل الدور المتقدم للنخب، فالعلماء هم أول من يتحمل ثقل المسؤولية في نشر الوعي استنادا الى النموذج الانساني الأرقى، ومسؤولية العلماء في هذا المجال كبيرة جدا، بل جوهرية، كونهم محط ثقة الناس، فضلا عن الدور الكبير الذي تقوم به الحوزات العلمية في توضيح كل ما يتعلق بالمسؤولية والاقتداء بالنموذج كي يتم نهوض الانسان بدوره بالصورة الصحيحة التي تتوافق مع مبدأ الخير والاصلاح والنجاح في وقت واحد.
اذاً كل انسان يحتاج النموذج، وله الحرية في ذلك، ولكن من الأفضل للانسان أن يختار النموذج الأقرب الى نفسه ومبادئه لاسيما اذا كانت هذه المبادئ ذات اطار انساني متميز وبالغ الوضوح، كما هو الحال مع مبادئ آل بيت الرسول الأكرم (ص)، ودورهم في تعميق مسؤولية الانسان ازاء نفسه والانسانية جمعاء.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (طبقاً لقول مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) فإنّه وبلا شكّ يتحمّل العلماء، وتتحمّل الحوزات العلمية، مسؤولية إيصال تعاليم الإسلام إلى البشرية، وهو الإسلام الذي أحياه دم الإمام الحسين صلوات الله عليه).
ولكن لابد أن نفهم أن مستوى المسؤوليات متعدد المستويات، ومتدرج من حيث حجم المسؤولية واهميتها ونوعها، لهذا تكون مسؤولية رجل الدين أكبر من غيره تبعا لدوره في الحياة كنموذج للآخرين، وتقع عليه مسؤولية النهوض بوعي الفرد والمجتمع، وتسديد خطوات الناس في الجادة الصواب، وتسهيل مهمة اختيارهم للنموذج الأكثر تأثيرا وقربا منهم، وينبغي التركيز على الجميع في هذا الخصوص، ولكن يبقى المسؤول السياسي وصانع القرار هو أول من ينبغي تنبيهه الى النموذج الذي ينبغي أن يقتدي به وبمبادئه، حتى يكون مسؤولا ناجحا وبارئا لذمته أمام الله في يوم لا يوجد فيه عمل وانما هناك سيكون الحساب فقط على اداء المسؤولية ونوع الاداء ومن هو النموذج والقدوة، وهل نجح المسؤول بدوره، أم أخفق (لاسمح الله)، وهنا سوف يتحمل وزر ما اقترفت افكاره وقراراته ويداه من اخطاء.
موت الناس بسبب الجوع
لذا على رجال الدين والعلماء والمثقفين والمتنورين عموما، تقديم النموذج للناس وخاصة المسؤولين، وتوضيح مبادئهم، وتكرار هذا العمل طوال الحياة، فالانسان على وجه العموم ينسى ومنهم من يتغافل ويغفل، لهذا (ذكّر) عسى أن ينفع التذكير، وهنا ثمة فرق بين اسلام محمد(ص)، واسلام معاوية، فينبغي تنبيه البشرية الى هذا الفرق الشاسع بين المسارين.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (بما أن رجال الدين لهم قدرة أكثر على العمل، فإنّ مسؤوليتهم أكبر. وكذلك كبيرة هي مسؤولية المثقّفين والمتعلّمين في إيصال تعاليم الإسلام إلى العالمين. فيجب عليهم وعلى الجميع أن يعلموا بأن الإسلام الحقيقي والأصيل هو إسلام رسول الله، وإسلام أمير المؤمنين، وإسلام الإمام الحسين، وإسلام سائر المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، وليس إسلام معاوية ويزيد، حتى يتّضح للناس كافّة بأن الإسلام الحقيقي هو ثمرة دم الإمام الحسين صلوات الله عليه).
ولا شك هناك حاجة كبيرة لترسيخ النموذج، والاهتداء بمبادئه، فالعالم اليوم يضج بالظلم، ويعاني من ضعف العدالة وغياب المساواة، والكل مشغول بمصالحه ونفسه وذويه، متناسيا وناسيا أن الله تعالى والاسلام اوصى بالتكافل والرحمة والانسانية في التعامل مع المسؤولية، وأئمة أهل البيت أفنوا حياتهم من اجل حرية الانسان وارتقائه.
فكيف ولماذا يموت الانسان جوعا، في بلاد تضج بالغنى والثروات الطبيعية والبشرية، أليس هذا دليلا كافيا على تقصير المسؤولين ونسيانهم لدورهم ومسؤولياتهم، وانشغالهم بمصالحهم، أليس هذا دليل على نسيان القدوة والاسوة والنموذج الذي يصحح من خلاله المسؤولون أخطاءهم، لهذا نلاحظ أن أسباب نسيان النموذج، او عدم التفكير به، او عدم جعله من اولويات المسؤول قادت الى نتائج خطيرة منها انتشار الفقر في مجتمعاتنا، حتى بلغ الأمر بموت الناس جوعا، وهذا ما لم يحدث مطلقا في الحكومات الاسمية العادلة، وفي المقدمة منها حكومة النبي (ص) وحكومة الامام علي (ع)، كما تؤكد ذلك جميع المصادر التاريخية الموثوق بها.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كلمته المذكورة نفسها: (مع وفور الثروات التي منّ الله تعالى بها على الكرة الأرضية، نرى اليوم موت المئات من الناس بسبب المجاعة والجوع، في حين لم نر في أي مصدر من المصادر التاريخية، أنه مات مسلم واحد من الجوع أو غير مسلم في طوال عشر سنين من حكومة رسول الله صلى الله عليه وآله، أو في حكومة الإمام أمير المؤمنين صلوات الله عليه التي استمرت لخمس سنوات).
اضف تعليق