مبادئ الانسان هي التي تصنعه، وتجعله يصطف الى جانب الخير، أو عكسه، والمقصود هنا بمفردة (مبادئ)، تلك القيم الدينية والاخلاقية والاجتماعية، ومجموعة العقائد التي آمن بها الانسان، ومن مجموعها، تشكلت منظومته الفكرية التي تشكل مصدرا وموجّها لطبيعة السلوك الذي يصدر منه، فإن كانت تلك المبادئ منتمية الى الخير والصلاح، كانت نتيجتها واضحة، ويصح العكس تماما، من هنا كان التركيز ولا يزال ينصبّ في الجانب التربوي على جوهر المبادئ التي ينبغي أن يتم غرسها في تربة الانسان، طفلا، صعودا الى المراحل العمرية التالية.
لذلك يرى علماء الاجتماع ان الحجر الأساس لبناء شخصية الانسان يبدأ منذ اللحظات الأولى التي يتشكل فيها وعيه بالاشياء والرموز والمفردات التي يتم نطقها في سمع الطفل، وهكذا تبدأ تتشكل وتنمو منظومة القيم والعقائد في ذهن الانسان، تدعمها المواقف الفكرية والعملية التي يتلقاها من المحيط العائلي والعملي والمدرسي والمجتمعي عموما، وفي ضوء ذلك يكون الإنسان أمام مسارين، تبعا لطبيعة القيم والاخلاقيات والعقائد التي تزود بها ذهنه، فأما سيكون صاحب موقف جيد انساني في فكره وسلوكه أو يحدث العكس.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) في كلمة قيمة وجهها للمسلمين، حول هذا الموضوع: ان (قاتِل الحسين صلوات الله عليه، شمر بن ذي الجوشن لعنه الله كان صاحب معتقدات، وسيعذّب الله تعالى شمراً لأنه جعل معتقداته تحت أقدامه. وكذلك قاطع الطريق، حينما يسرق ويقتل ويجني، له معتقدات أيضاً، لكنه يسحقها أو سحقها. فلو تأمّل قاطع الطريق مع نفسه قليلاً بأنه لو كان مكان أحد الذين يتعرّضون للسرقة، فهل سيعتقد بأن هذا الفعل، أي السرقة، هو شيء حسن أم لا؟ لا شكّ سيكون جواب قلبه وعقله بأن هذا الفعل هو سيئ وقبيح).
لذا على الانسان أن يتنبّه الى هذا الفارق في تحصيل المعتقدات واختزان القيم، لأنها هي الموجّه الحقيقي لافكاره وسلوكه، وبالتالي هي التي ستصل به الى عاقبة حسنة أو عكسها عندما يحين الحساب في الدار الأخرى.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمته نفسها: (كما جعل الله تعالى شيئاً آخر، وهو عالم الآخرة، التي تطول فيها الحياة وتطول وتطول جدّاً، حيث خلقها تبارك وتعالى للإنسان. وجعل الله الدنيا جسراً للامتحان والاختبار فقط، أي لاختبار الإنسان الذي أودع الله تعالى فيه العقل والنفس الأمّارة بالسوء، وأخبر الإنسان بقوله عزّ وجلّ: (وهديناه النجدين)، وذلك بعد أن سبق وجعل سبحانه وتعالى في الإنسان، أساساً للتصديق بقوله تبارك وتعالى، وهذا التصديق بحاجة إلى قليل من الانتباه من الإنسان).
هناك مجالات واسعة للاختبار
من أعظم الفرص التي منحها الخالق تعالى للمخلوق، أنه حر الاختيار بين هذا المسار أو ذاك، ولكن اعطاه ومنحه القدرة على التمييز بين الموقف الصالح ونقيضه، فالانسان لم يدخل مضمار الحياة وهو أعمى أو جاهل، انه ازاء قضايا وافكار واضحة، وفي ضوئها يختار الانسان المواقف التي تصطف الى جانب الخير، وهناك من يختار العكس بإرادته، قد يقول قائل ان المجرم يكون مجرما لظروف معينة، تبعا للبيئة او التربية، هذا صحيح، ولكن الله تعالى اودع في الذات البشرية التكوينية قدرة وتصميما وارادة يستطيع حاملها الانسان أن يجعل منها حديدية قوية تقوده الى الجادة الصواب.
وهناك من يضعف ازاء نفسه، فتقوده الى مآربها، وهي مآرب تهدف الى تحقيق رغبات النفس، وهذه الرغبات تحتكم الى الغرائز، والاخيرة تجعل من الانسان مساويا (للحيوان) في غاياته ومآربه، ولكن الله تعالى اودع في الانسان فوارق (ذهبية) تجعل الانسان اكبر واقوى واذكى من الحيوان بمستويات قد يصعب حصها، فلا يصح أن نساوي بين الانسان والحيوان في القدرات والخيارات، وخاصة الفكرية منها، لذا لابد للانسان أن يحتكم الى العقائد والاخلاقيات والقيم التي تقوده نحو مواقف داعمة لتشذيب الحياة من الاخطاء وليس العكس:
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (كما ان في اختبار الدنيا، أن ترى شخصين كانا صديقين لسنين طويلة، وكانا مع بعض، ومن مدينة واحدة، ولكن أحدهما صار حبيب بن مظاهر، والآخر شمر بن ذي الجوشن. فكل واحد منهما صار كما صار، باختياره وبإرادته).
ومن حسن الامور أن مجالات الاختيار واسعة لدى الانسان، فهو بالاضافة الى حريته الطبيعية التي تولد معه، لديه الكثير من الخيارات لتحديد انتمائه الى جانب الخير او سواه، كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بكلمته المذكورة نفسها: (من مجالات الاختبار، أيضاً، هي المستشفيات ومشفى الأمراض العقلية، والمحاكم، والعلم والعلماء بأخلاقهم وتنوّعهم). أين الجميع مشمول باتخاذ المواقف السليمة من عدمها.
وهذا يعود الى سلامة اختيار الانسان لطريقه استنادا الى سلامة افكاره وعقائده، حيث انها هي التي تحدد مواقفه ومساراته وعاقبته ايضا، وفقا لأعماله التي قد تجعل منه انسانا صالحا يستحق الجزاء الأفضل، أو العكس لا سمح الله، فهناك أناس يختارون السبيل الخاطئ على الرغم من معرفتهم المسبقة أنهم يسيرون في طريق الضلال.
الاعمال الصالحة ينتجها التعب
لا جديد في قولنا أن الانسان كلما اجتهد حصل على ما يرضيه ويجعله متميزا وناجحا، والعكس صحيح بطبيعة الحال، فالحاكم والسياسي الذي يحتكم الى العدل والمساواة والرحمة، والذي يعمل لصالح الأمة ويحرص على مصالحها، ويقدمها على مصالحه الفردية والعائلية والحزبية وما شابه، هو الحاكم الذي ينجح في نهاية المطاف.
ولكن مثل هذه النتائج لا تأتي بصورة سهلة، فهناك ظروف ومعوقا لا تعد ولا تحصى أمام الحاكم الصالح، وأولى هذه العقبات الفاسدين والمفسدين، والطامعين بالتجاوز على حقوق الناس، فهؤلاء لا يتركون الحاكم وشأنه اذا كان عادلا، انهم يرغمون القادة على الانحراف لصالحهم، او يناصبونه العداء ويسقطونه تخلصا من عدالته وحزمه.
وهذا بالضبط ما حدث في حكومة الامام علي بن ابي طالب (ع)، حيث ثار عليه الخوارج وفئات اخرى تضررت مصالحها بسبب المساواة التي طبقتها حكومة الامام، وانتعاش حالة الأمان الكبيرة في دولة المسلمين المترامية الاطراف لدرجة أن الناس جميعا كانوا يعيشون في حالة تامة من السلم الأهلي والامان التام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (لم يذكر التاريخ ان أحداً من الناس، قد بات ليلة من ليالي حياته، وهو خائفاً من الإمام أمير المؤمنين، وخصوصاً أيام حكومة الإمام صلوات الله عليه، التي امتدّت رقعتها في ذلك الزمان، على خمسين دولة من دول عالم اليوم. وهذا لا نظير له في التاريخ ولا في الدنيا كلّها، أيضا).
لقد حصل الامام علي (ع) على هذه المكانة الخالدة والعظيمة، لأنه اختار طريق المبادئ والقيم والعقائد العظيمة، وسعى (ع) الى نشرها وتطبيقها بأقصى ما يمكن، وكانت النتيجة أنه (ع) تبوّأ مكانة الحاكم الذي لا يتكرر بصفاته وشخصيته وحضوره السياسي والاخلاقي على مدى العصور.
مثل هذه النتائج الباهرة لا تأتي بلا تعب، ان تزرع ما تزرع، وتحصد حصادك تبعا لما تزرع في الأرض، فالنتائج تأتي وفقا لما يبذله الانسان من جهود وأتعاب يحصل من خلالها على ما يستحق في الدارين الأولى والآخرة.
لهذا يحثنا سماحة المرجع الشيرازي الى العمل في هذا الاتجاه، عندما يؤكد ذلك قائلا: (عليكم أن تعلموا بأن الأشخاص الفاعلين والمفكّرين وباذلي الخدمات لا يحصلون على ما يريدون وعلى نتائج أعمالهم، بلا تعب).
اضف تعليق