نحن نعيش في عصر إنسانهُ يلهث وراء المادة، وبعضهم يقول إن إنسان الحضارة المعاصرة يقدّس المادة، وتحديدا إنسان الغرب، فهو يحمل الفكر المادي معه مثل ظله، ويكاد يرضع القواعد والمبادئ المادية مع حليب الطفولة، لينمو ويكبر ويشتد عوده، فيكون ذا عقل مادي، ولا أحد يجاريه في هذا (الجنون المادي)، هذا الانطباع يحمله الكثير من المراقبين عن إنسان العصر الراهن، ليس الغربي فقط بل البشرية كلها تكاد تدخل، او دخلت فعلا في النفق المادي، باحثة عن ضوء في آخر هذا النفق الطويل والشاق!!.
إذاً نحن الذين نعيش في هذا العصر، يحاصرنا وهم المادة، على الرغم من أنها حقيقة تعيش معنا، وتدخل في أدق تفاصيلنا، لكننا نعاني من وهم المادة وفوضاها، إننا في الحقيقة لا نستطيع أن نفصل أنفسنا وواقعنا عن العالم المادي المتعولم، فهل يمكن أن يعيش الانسان غير المادي بلا انترنيت؟؟، وهل يمكن أن يكون (غير المادي) خارج الغرفة الواحدة التي تجمع العالم كله تحت سقفها؟، تُرى ما هي الحلول كي نتجاوز هذه العقبة؟.
إننا نعيش في عالم اليوم صراعا حقيقيا، بين المادي من جهة/ وبين المبدئي والروحي والأخلاقي من جهة أخرى، ليمتد ذلك من الفردي الى الجمعي، ومن الشخصي الى العام، ومن ثم الى الصراع السياسي!، والسؤال هنا، هل هناك صراع فعلي بين السياسة المادية والسياسة المبدئية، وما المقصود بهاتين السياستين، إن طبيعة العصر الراهن المادية هي التي قادت الى هذا الصراع، فليس الجميع في هذه المعمورة يلهثون وراء المادة على حساب الروح او المبدأ.
لقد أشّرَ سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، إشكالية العلاقة بين المادي ونقيضه، وأكد تتسلل هذا التناقض الى المجال السياسي، وعرّف سماحته السياسة بأنها (إدارة شؤون الناس في السلم والحرب)، وأمر طبيعي أن يدخل الصراع بين المادي ونقيضه، الى السياسية، لأنها تدخل في صلب النشاط البشري.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه القيّم، الموسوم بـ (السياسة من واقع الاسلام)، حول هذا الجانب: (السياسة هي كيفية إدارة شؤون الناس في السلم والحرب، والأخذ والعطاء، والشدة والرخاء، والاجتماع والافتراق، وغير ذلك. والناس كما يختلفون في أشكالهم، وألوانهم، ولغاتهم.. كذلك يختلفون في أذواقهم، وعقولهم، وعواطفهم. ويختلفون في إدراكهم، وفهمهم، وتحليلهم). ونتيجة لذلك سوف تدخل الأهواء والميول والرغبات على الخط، وتتحكم بمسار السياسة، لذا يضيف سماحته قائلا: (من هنا تلعب الأهواء، والميول، والاتجاهات.. في هذا المجال أدوارها الفعالة بين حسد، وغبطة، وتنازع على الصعود، وغير ذلك الكثير.. والكثير.. إذا علمنا ذلك كله نستطيع أن نفتح على أذهاننا نافذة صغيرة أشبه شيء بالكوة إلى ما في عالم السياسة من المجال الواسع، الرحب، العريض.. الكبير).
السياسة والتمسّك بقيم الخير
إن الفارق بين السياسة المادية وسياسة الاسلام ليس عصيّا على الفهم أو الكشف، فهو واضح للمهتم والمتابع المتمرس، إن التكالب على المصالح بغض النظر عن أحقيتها ومشروعيتها، هو ما يميز السياسة المادية، لذلك غالبا ما تخلّف ضحايا وخسائر كبيرة، تأكل من جرف فقراء العالم، والسبب دائما غياب المعايير الاخلاقية في العمل السياسي المادي.
على العكس من سياسة الاسلام، حيث الانسانية والمبادئ تتفوق دائما على الهدف المادي البحت، ليس من اجل إلغاء المادة أو المنع الكلي عن السعي لها، ولكن ينبغي أن يتم هذا السعي وفق ضوابط انسانية تراعي كرامة الانسان ومكانته وحرمته، وهذا هو الفارق الجوهري بين السياسيتين.
كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه نفسه عندما يقول: (هذا كله في السياسة المادية البحتة التي يمارسها ساسة الدنيا اليوم غالباً، في الغرب والشرق والوسط. أما سياسة الإسلام فهي مبنية على إدارة الناس في كافة شؤونهم المادية والمعنوية، بالإضافة إلى الالتزام الكامل بالعدل والإحسان. والإنسانية والعواطف الخيرة. والفضيلة والأخلاق الكريمة. واستقامة الفكر والعقيدة. في كل الأدوار، وفي كل المستويات).
وبهذا فإن منطق التناقض بين السياسة المادية وسياسة الاسلام، يمكن أن يتحول الى منطق تقارب او توافق، او حتى بالامكان ان تتحول العلاقة بين السياستين الى تعاون، ولكن هل تستطيع سياسة الغرب، او السياسة المادية من تذويب ذلك التناقض؟؟، الجواب ليس الأمر بهذه السهولة، بسبب غياب القيم التي تحكم السياسة المادية، على العكس من سياسة الاسلام التي تنطلق أساس من قيم الخير والحق والعدالة وحفظ الحقوق، لهذا بإمكان سياسة الاسلام أن تقارب بين السياستين، وأن تقلل الفوارق بينهما.
كما نقرأ في قول سماحة المرجع الشيرازي عندما يقول: إن تحقيق (هذا المزيج من المادة والروح في كل الأبعاد، لكل منهما. هو من رابع المستحيلات في منطق السياسة المادية. لكن الإسلام هو الذي جعل من هذا المستحيل ممكناً. لا ممكناً فحسب.. بل طبقه رسول الله صلی الله عليه و آله وطبقه أمير المؤمنين عليه السلام).
استخلاص التجربة السياسية للإسلام
إن المزايا التي تتيحها سياسة الاسلام المبدئية، ينبغي أن تدفع بنا باتجاه التحليل العلمي لتجربة الاسلام، بصورة معمّقة، من أجل استخلاص الدروس التي يمكن أن نستفيد منها في عالم اليوم، لاسيما أننا نقع في الزاوية الميتة للعالم المتطور، فنحن في الحقيقة غير محسوبين على هذا العالم، مع أن الاسلام هو الذي فتح نوافذ النور امام عيون العالم عندما كان كفيفاً في زمن ما!.
لذلك ينبغي أن ندرس ونحلل التجربة الاسلامية في السياسة، كي نفهم الفرق بين سياسة العالم المادية الراهنة وبين سياسة الاسلام الإنسانية، ويمكن لنا أن نعثر على تفاصيل هذه التجربة من خلال التواصل العميق مع القرآن والحديث والسيرة والتاريخ، وكل الأفكار التي أضاءت الطريق للعالم الذي كان جاهلا في ذلك الحين، ليتحول الى عالم يتنكّر اليوم للإسلام والمسلمين، لذا في جميع الاحوال لابد للمسلمين أن يدرسوا تجربتهم قبل غيرهم كي يستفيدوا منها.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (ينبغي تحليل التاريخ العظيم الحافل لسياسة الاسلام، ودراسة ظروفه، وخلفياته، ومعطياته، وأبعاده.. ودراسة واقعنا المعاصر طبقا لهذا التاريخ، في المنعطفات والفوارق بين ذلك اليوم.. وهذا اليوم. واستخلاص تجربة عملية عميقة مدروسة من القرآن والحديث والسيرة والتاريخ).
وعندما يتصدى المعنيون لدراسة سياسة الاسلام وتحليلها وعرضها على العالم أجمع، فلابد أن يتم التركيز على النقاط المضيئة في هذه التجربة، لاسيما الجانب الانساني منها وفلسفة الاسلام العميقة وآفاقها الواسعة، حتى تكون الفائدة في اتجاهين، الأول لصالح المسلمين أنفسهم، كي يصححوا سياساتهم الخاطئة في العصر الحالي، إستنادا الى تجربة سياسة الاسلام، أما الاتجاه الثاني فينبغي أن يصب في مجال كسب الآخر، من الأمم والاديان الاخرى، إننا نطمح أن يكون الاسلام مرغوبا من البشرية جمعاء.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (لابد أن يعكس المعنيون صورة واضحة حية أصيلة عن سياسة الإسلام وفلسفتها، وآفاقها وواقعها، يتراءى من أطرافها الجمال والعظمة والإنسانية، وذلك لتكون رابطاً لقلوب المؤمنين، وتثبيتاً لأفكارهم في كل مجالات الإسلام، ومُرغّباً عميقاً لغير المسلمين في الإسلام).
اضف تعليق