يشكل شهر رمضان فرصة مهمة لمعادلة الكفتين، الكفة المادية والكفة المعنوية، وهناك إمكانية للإنسان أن يدرّب نفسه ويروّضها في شهر رمضان، بحيث تتطور في أعماقه قضايا الزهد وعدم الانغماس في الملذات والحذر من السقوط في المستنقع الاستهلاكي المغري، فيسعى الصائم لتدريب نفسه معنويا، حتى تصبح عنده القضايا المادية عادية..
(اللذة المعنوية واقعية وخالدة، أما اللذة المادية فاعتبارية مصيرها إلى الزوال)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
عالما اليوم بات مهدّدا بالسيول المادية الهائلة التي تقتحمهُ من كل حدب وصوب، وباتت الامم اليوم تتبارى فيما بينها كي تتفوق ماديا، حتى تحقق مزيدا من الأرباح والأموال والأرصدة في شبكة البنوك العالمية، ولم تعد الجوانب المعنوية تعنيها كثيرا، كما ان العولمة ووسائلها المبتكرة تنحاز بما لا يقبل الشك للترويج الاستهلاكي التام، فيما تواجه جميع القضايا المعنوية نوعا من المحاربة أو التهميش والحرمان من الترويج.
لذا يشكل شهر رمضان فرصة مهمة لمعادلة الكفتين، الكفة المادية والكفة المعنوية، وهناك إمكانية للإنسان أن يدرّب نفسه ويروّضها في شهر رمضان، بحيث تتطور في أعماقه قضايا الزهد وعدم الانغماس في الملذات والحذر من السقوط في المستنقع الاستهلاكي المغري، فيسعى الصائم لتدريب نفسه معنويا، حتى تصبح عنده القضايا المادية عادية، والأموال التي تفوق حاجته الحياتية كثيرا لا تعني شيئا له.
ويمكن للإنسان أن يتمرن في التطور المعنوي حتى يصل إلى الدرجة المتكاملة من التقوى والزهد، فإذا كسب الملايين لا يفرح بها، وإذا فقدها لا يأسى ولا يحزن عليها، نعم يمكن للإنسان في شهر رمضان أن يحقق هذ المعادلة الصعبة جدا، بحيث يهتم بفقدان العمل الصالح أكثر من أي شيء آخر.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (نفحات الهدى):
(يمكن أن يصل المرء في – شهر رمضان- إلى موقع بحيث يستوى عنده الدينار الواحد والمليار دينار بما هو مال، فلا يركض خلف الأوّل كما لا يأسى على فقد الثاني، بل تراه يهتمّ بفقدان ثواب الله، فلا يتهاون عن الإتيان بالفضائل التي يمكنه الإتيان بها).
إن العدو اللدود للبشر هي نفسه، فعليه أن يحذر منها دائما، وعليه أن يعرف حدود الله تعالى بشكل جيد ويتقن هذا الأمر، حتى لا يمس هذه الحدود بأية طريقة كانت، لذلك عليه أن لا ينسى الله ولا يبتعد عنه، بل لابد أن يكون حاضرا معه في كل لحظة، حتى يستطيع مراقبة نفسه ومتابعتها ويبقى مستيقظا على الدوام، ولا تأخذه الغفلة التي يتسلل منها الإغراء المادي فيطيح به إذا لم يراجع نواياه وأعماله بشكل مستمر.
السقوط في فخ الاستهلاك
قد يسأل أحدهم، كيف يستطيع الإنسان أن يقف ندًّا قويا لنفسه، لاسيما أننا نعيش في عالم استهلاكي مفتوح ومفضوح يعرض عليك ما تريد وما لا تريد، وما تشتهي وما لا تشتهي، فكيف يضع هذا الإنسان حاجزا بينه وبين السقوط في هذا الفخ المنصوب له في كل مكان يمر فيه بحياته، فهو يجده في عمله، في دراسته، في تسوّقه، في تعاملاته المختلفة، ماذا يفعل حتى يتخلص من هذه المشكلة العصيبة، الحل يكمن في تدريب النفس على التقوى والورع، ومحاسبتها يوميا، وما شهر رمضان إلا فرصة ذهبية لتحقيق هذه الهداف.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(من كان الله تعالى حاضراً عنده دائماً، فإن محاسبة النفس لا تغيب عنه ما دام مستيقظاً، وهذا ممكن بترويض النفس بأن يخصص المرء وقتاً من يومه يزيده قليلاً كل يوم، يراجع فيه نفسه وينظر إلى أعماله ونواياه).
في شهر رمضان على الإنسان أن يسعى دائما إلى عمل الخير، وأن يطلب الخير في كل مكان يتواجد فيه، في عائلته، في عمله مع أصدقائه وأقرانه أو مع أقاربه، وإذا حصل على الخير فهو مطالَب بأن يشكر الله تعالى على نعمته.
أما إذا رأى شرًّا فعليه أن يرفع يديه بالتضرع لله أن يغفر له، ويمكنه على عدم ارتكاب الشرّ، فميادين الحياة التي نتحرك فيها يمكنها أن تضمر لنا الخير والشر في نفس الوقت، وعلينا النجاح في هذا الاختبار العسير.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(كلما رأى الإنسان خيراً شكر الله وطلب الزيادة وسعى لها، وكلما رأى شراً استغفر الله وطلب منه التوفيق للإقلاع عنه).
في معترك الحياة سوف يعثر الإنسان على الكثير من اللذات، لاسيما المادية منها، فقد يكون ضحية لها، لاسيما في مجال كسب الأرباح والأموال، فالمال يصفه القرآن الكريم بـ (زينة الحياة الدنيا) مع البنين، لهذا يسيل لعاب الناس عندما تتوف لهم فرصة للحصول على أموال كبيرة، وقد ينسى عواقب مثل هذه الأعمال المحرَّمة، فيغوص عميقا في اللذة المادية التي توقع به في المستنقع المادي المنتشر اليوم في كل مكان.
لذا فهو ملزم بالاستفادة من شهر رمضان لمواصلة عملية ترويض النفس، ومن الأفضل كما يقول السيد المرجع صادق الشيرازي، أن يواصل الصوم عشرة أيام من شهر شوال، فيكون عدد أيام الصيام أربعين يوما، فتتحول قدرة الصائم على التحكّم بنفسه ملَكة (دائمية)، وهذا خيرٌ يستحقه من يصرّ على تحطيم الشهوة ورفض الملذات.
التطور من العادة إلى الملَكة
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أن: (شهر رمضان خير فرصة لتجربة الترويض، ولو أضيف إليه عشرة أيام من شهر شوال لتصبح أربعين يوماً فذلك خير).
في هذه الحالة يستطيع الإنسان أن يميز بين الحقيقة من جهة، وبين الوهم والخيال من جهة أخرى، لن اللذة المادية ليست حقيقة مطلقة، أما الحالة المعنوية في تتجسد في أعماق الإنسان وتعيش معه، لدرجة أنه يؤمن بها إيمانا تاما، في حين أي لذة حتى لو كانت كبيرة فإنها مع الوقت تصبح ذكرى، وبعد ذلك تنتهي إلى بئر النسيان وتنطفي إلى الأبد.
ولكن إذا تمكن الصائم من ترويض نفسه، وشعر بأنه لا يستجيب لشهواتها وطلباتها، هذا يعني إنه تمكن منها، وفاز عليها، لأنه واصل الصيام أربعين يوما، فتحولت قضية الترويض إلى ملَكة، وبالتالي سوف يشعر باللذة المعنوية التي لا تزول من أعماقه إلى الأبد.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة:
إذا واصل الإنسان تجربة الترويض (فإن الحالة قد تقترب من الملَكة التي يصبح التخلي عنها بعد ذلك مستبعداً، لأن الشخص بعد تروّضه يحسّ بلذة لا تضاهيها أية لذة مادية أخرى).
وهكذا سوف يمكن الفرز بين اللذة المادية من جهة، وبين اللذة المعنوية، وفقًا لمعيار الثبات والزوال، ومعيار التفوق والنماء والبقاء، لأن الملذات الدنيوية مادية بطبيعتها، وكل شيء مادي يكون في طريقه إلى الفناء، وهذا هو حال جميع اللذات المادية مهما كان نوعها أو شكلها أو حجمها أو مصدرها، فجأة تجد الإنسان قد خسر ثرواته المالية في لحظات، عندما يضارب في أسواق خاسرة، وربما يفقد حياته في لحظة، فيفقد معها كل ثروات الدنيا.
في حين لا يمكن أن تكون اللذة المعنوية وهمًا أو خيالا، بل هي حقيقة ثابتة تنتمي إلى الروح وإلى البقاء والنماء.
حيث يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(لو وضعت كل اللذات المادية في جانب، ووضعت إحدى اللذات المعنوية في جانب آخر لرجحت الأخيرة، لأن اللذة المعنوية واقعية وخالدة، أما اللذة المادية فاعتبارية مصيرها إلى الزوال، إنْ لم نقل إنها وهم وخيال).
وهكذا نفهم ونقتنع وفقا للباهين والدلالات، على أن اللذة المادية ما هي إلا وهم وخيال لا أكثر ولا يمكن أن تنتمي لديمومة المنجزات المعنوية التي لا يدنو منها الزوال أو الفناء مطلقا، وهذا ما يتحلى به المثابرون الصائمون الساعون إلى الفوز المعنوي الأبدي على حساب المادي المعرَّض للفناء.
اضف تعليق