الدنيا قاعة امتحان، نعم، وعلينا مواجهتها بشجاعة، ولكن هذا الفعل يحتاج منا الكثير، فإذا كان وصف نابليون لقاعة الامتحان بأنها أكثر تخويفا من ساحة الحرب، فهذا إنما يدل على صعوبة خوض الدنيا والخروج منها بنجاح إلى الآخرة، ولكن هذا هو المطلوب في كل الأحوال...
(إن حبّ الدنيا يجلب الخطايا للإنسان) سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
هناك من لا يعرف ما هي الأهداف التي خُلِق من أجلها، ولماذا أتى هذه الحياة، وهناك من لا يريد أن يعرف لأنه منشغل بحطام الدنيا وغائص في خطاياها، ومنبهر بملذاتها، ومثل هذا الإنسان لا ينظر للدنيا كقاعة اختبار، ولا يعدّ جسرا للعبور إلى الدنيا، بل يريد أن يقيم فيها ويعمرها وكأنه باقٍ فيها إلى الأبد.
ولكن من الأفضل لكل إنسان أن يعرف ويفهم ويؤمن بأن الدنيا ما هي إلا جسر يقوده إلى الدار الآخرة، دار النعيم الأزلية، ودار البقاء الذي لا زوال فيه، أما الجسر فما هو إلا مكان مؤقّت للعبور لا أكثر، فلماذا نهتم بالعابر على حساب الباقي إلى الأبد، هذا هو السؤال الذي يجب أن يسأله كل إنسان لنفسه لكي لا يخسر الآخرة ويتمسك بالدار الزائلة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يوضّح هذه القضية في محاضرته القيمة الواردة ضمن سلسلة محاضرات نبراس المعرفة، فيقول سماحته:
(خلق الله تبارك وتعالى الدّنيا لتكون داراً للاختبار والامتحان. وخلق من فيها وما فيها لكي يعرضهم على هذا الامتحان والاختبار الصعب، فإما أن يُثاب المرء أو ينال العقاب).
يوجد فارق كبير وبون شاسع بين الدنيا كمحطة عيش فانية، والدار الأخرى كدار باقية، فالبقاء والفناء هو الفارق الحاسم بينهما، لهذا السبب على كل إنسان أن يفهم هذا الأمر، ويختار الباقي على الفاني، فما فائدة أن تكسب الدنيا وتتمسك بها وتخسر الآخرة، بل عليك أن توظّف الدنيا شرعيا وعمليا لكي تنقلك إلى الآخرة بأمان.
فأنت تدخل قاعة الامتحان التي أرعبت (نابليون) أكثر من ساحة الحرب، وعليك أن تخرج من قاعة الامتحان ناجحا، أو ضامنا لدرجة الناجحين من خلال جودة أعمالك، وبهذا سوف تكون الدنيا محطة آمنة تنتقل عبرها بأمان إلى الآخرة بعد أن تنجح في أعمالك وأفعالك وأقوالك الصالحة التي تنصفك وتنصف الآخرين بمستوى متساوٍ.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذن الدنيا خُلقت لمجرد العمل فيها لكي يستفيد الإنسان من دنياه في أداء وظائفه الشرعية، ولأجل أن يعيش فيها بمقدار ما يستفيد منها في شتى المجالات. وإلاّ إذا كانت الدنيا مقرّاً دائماً للإقامة وطلب المال والوجاهة والعزة والأهل والبنون والقصور والرفاه والتنزّه، لما خَلق الله الآخرة وجعلها دار بقاء ودار نعيم وجزاء).
العبور بسلام إلى الدار الأخرى
باختصار شديد الدنيا هي (مزرعة الآخرة)، فإن زرعت الصالح فيها، تكسب الكثير وتضمن مغادرة قاعة الامتحان بنجاح، فكم من الناس يفكر بهذه الطريقة، وكم منهم تغريه الدنيا فيقع في خداعها ويسقط في الامتحان، هذا ما يجب أن يتنبّه له الناس، وأن لا تخدعهم الدنية بجمالها وزينتها ولذاتها، حتى لا يسقطون في الاختبار.
خلاصة الكلام، يجب أن يستفيد الإنسان من الدنيا بالمقدار الذي يؤهله للعبور بسلام من دار الفناء إلى دار البقاء، ومن قاعة الاختبار إلى فضاءات الحرية والنور والرحمة.
سقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الدنيا خُلقت من أجل أن يعمل الإنسان فيها لآخرته، فهي مزرعة الآخرة. وخُلِقت لكي يؤدي الإنسان ما عليه حتى تنقضي الحياة الدنيا عنه، فإذا استفاد من الدنيا بطريقة حسنة، استفاد من آخرته أحسن استفادة).
لكل إنسان شخصيته التي رسمها وشكّلها وبناء عبر رحلته الطويلة منذ الطفولة صعودا، فإذا بنى شخصية قوية مؤمنة راسخة متوازنة، سواء على المستوى الاجتماعي والعملي والعلمي والعشائري، فإن هذه الشخصية يمكن أن تعود عليه بنتائج محمودة.
ولكن عليه أن يتعلق بهذه الشخصية ويحبها إلى درجة أنها تساهم في فشله وسقوطه في قاعة الامتحان، فإذا تمسك بالدنيا وغاص في وحلها، وأخذته لذاتها وكبلته خطيئتها، حينئذ لا فائدة من هذه الشخصية التي تفضل دار الفناء على دار البقاء.
يؤكد سماحة المرجع (الشيرازي دام ظله) هذه النقطة فيقول:
(الانسان كشخصية دينية أو علمية أو اجتماعية (عشائرية) أو سياسية أو من أي جهة كانت، لابد له أن يستفيد من شخصيته الدنيوية لآخرته، لكنه إذا أحبّ هذه الشخصية إلى درجة أنه تعلّق بها ولا يريد الانفصال عنها بأي ثمن، فإن ذلك سيجره إلى ويلات ومصائب دنيوية وأخروية، كما بيّن الحديث الشريف (حُبُّ اَلدُّنْيَا رَأْسُ كُلِّ خَطِيئَةٍ). بمعنى أن رأس كل خطيئة هو حبّ الدنيا).
نعم يوجد أناس تصل أعدادهم إلى الملايين، خرجوا فاشلين من قاعة الامتحان، بعد أن خدعتهم الدنيا بامتيازاتها وملذاتها، حيث تمسك هؤلاء بالمناصب، وبحثوا عن الجاه والسلطة، وتركوا الحقوق بل تجاوزوا عليها، فسرقوا وعاثوا في البلاد فسادا.
كيف تخرج ناجحا من قاعة الامتحان؟
غرّتهم المناصب، وأعمت بصائرهم الأموال، وأغرتهم السلطة، فضاعوا في متاهات الدنيا الكثيرة، ثم انتبهوا إلى أخطائهم بعد فوات الأوان، فما فائدة أن تصحو من عسل الدنيا بعد أن أوغلت يداك في دماء الآخرين وسحقت حقوقهم، وأزهقت أرواحهم أو عذبتهم وسجنتهم من دون وجه حق، في هذه الحالة يفشل الإنسان فشلا ذريعا بالوصول إلى مكان آمن في الآخرة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يركز على هذه القضية فيقول:
(فكم من أناس وقد تجاوزت أعدادهم الملايين، أتلفُوا دنياهم وآخرتهم، لأنهم علّقوا آمالهم بالمناصب والملذّات، فعرّضوا أنفسهم للقتل بسبب حبّ الدنيا، بل وقام بعضهم بقتل الأبرياء وسرقة أموالهم والاعتداء على أعراضهم بسبب حبّهم لتلك المناصب الدنيوية. فهدروا بذلك كرامتهم وكرامة الناس الأبرياء).
وهكذا يقع الإنسان في مشكلة (التعلق بالدنيا)، على حساب الآخرة، وبحسب درجة تعلّقه بها، فإن كان التعلق كبيرا كان سقوطه بنفس المستوى الكبير، وإن كان صغيرا سوف يسقط بنفس النسبة، ولكن النتيجة الأفضل هي تلك التي يضمن فيها الإنسان عبورا تاما من الفنية إلى الباقية من خلال حسن الأعمال، ورفض خداع الدنيا، والحفاظ على حقوق الناس.
لذا ليس من الصحيح أن يتمسك البشر بالدنيا رغم جمالها وإغراءاتها، الصحيح هو التمسك بما يرضي الله ويراعي حرمات الناس، حتى يكون ذلك سببا بالنجاح في الاختبار الذي أرعب نابليون ولم ترعبه ساحة المعركة بنفس المقدار.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ حبّ الدنيا بأية درجة كانت، صغيرة أو كبيرة سوف تجلب الخطايا للإنسان بمقدار نسبة المحبّة للدنيا والتعلّق والانشداد لملذاتها الزائلة).
وأخيرا لابد للناس جميعا أن يتنبّهوا إلى قضية مهمة لها علاقة بالمال والسلطة، فالإنسان بطبيعته يحب المال، ويحلم بالفوز بالسلطة، ولكن عليه أن يفكر بالنتائج؟، وعليه أن ينظر إلى النتائج دائما، فهل أبعدته السلطة عن الحق، وهل أغراه المال فسرقه من مستحقيه بسبب نفوذه ومنصبه؟
يوجد أناس مسؤولون حصلوا على مناصب مهمة وكانوا سببا في قتل الناس، وتعذيبهم، أو سجنهم، وتشريدهم، كل هذا بسبب تعلقهم بالمال ورغبتهم بالسلطة، ولكن ما هي النتيجة؟، يجب أن يسأل الإنسان نفسه، ما فائدة المنصب والمال إذا كانا سببا في غضب الله مني؟
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(ينبغي التوجّه إلى مسألة مهمة، هي أن حبّ المال وحبّ السلطة وحبّ الملذات الدنيوية كانت ولاتزال سبباً في قتل ملايين الأبرياء وتعرّضهم للظلم).
الدنيا قاعة امتحان، نعم، وعلينا مواجهتها بشجاعة، ولكن هذا الفعل يحتاج منا الكثير، فإذا كان وصف نابليون لقاعة الامتحان بأنها أكثر تخويفا من ساحة الحرب، فهذا إنما يدل على صعوبة خوض الدنيا والخروج منها بنجاح إلى الآخرة، ولكن هذا هو المطلوب في كل الأحوال، يجب علينا جميعا أن نعد العدة للتغلب على قاعة الامتحان والخروج منها بدرجة نجاح مضمونة.
اضف تعليق