مثلت سيرة أمير المؤمنين عليه السلام الإسلام العظيم في كل الأبعاد بعمق وشمول، وفي بعد الحرّية أيضاً، ومنح الناس ذلك في مختلف المستويات وشتى الأمور وضرب علي عليه السلام الرقم القياسي، وهكذا ليسير الحكام في الإسلام بسيرته الوضّاءة، ويصححوا سياستهم بسياسة علي عليه السلام الرشيدة في كل الأصعدة...
(الإمام علي عليه السلام كان يصدّ الطغاة والمستكبرين عن الظلم وإيذاء الناس)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
من الصفات الحميدة التي يتميز بها الحكام الخالدون، أنهم يعيشون بين الناس، فيعرفون عن قرب ما يحتاجونه، وما ينقصهم، وما يتعرضون له من ظلم أو تجاوزات تبدر من ذوات الجبروت والطغيان، فيبادر الحاكم المنصف إلى تحجيم أصحاب الجبروت والطغاة، ويمنعهم عن إلحاق الظلم بعامة الناس.
هذه إحدى المهام التي كان يقوم بها الإمام أمير المؤمنين، ويشدد بقوة على حماية الضعفاء والبسطاء والفقراء من ظلم المتجبرين المتسلطين، فيقوم بكبح جماحهم، ويضع حدّا لغرورهم، ويدمّر جبروتهم الفارغ، ويجعل الناس يعيشون في أمن واطمئنان.
أما الحكام الطغاة، فإنهم لا يتواجدون مع عامة الناس، بل يعزلون أنفسهم في أبراجهم العاجية، وعروشهم، حتى يكرسوا سلطتهم وخشية الناس منهم والحفاظ على جبروتهم، وفي نفس الوقت يخشى الحكام المتجبرون النزول إلى المجتمع كونهم يخافون من الناس بسبب ظلمهم لهم، لهذا يتجنبون التواجد بينهم، لكن أمير المؤمنين بعيد كل البعد عن مثل هذه السلوكيات، فهو الأقرب إلى عامة الناس دائما).
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام):
(عادةً أصحاب السلطات يعيشون بعيدين عن المجتمع، ويترفعون عن ممارسة الحاجات الصغيرة بأنفسهم لعدّة أسباب منها: الجبروت والطغيان. وبسبب الخوف من المجتمع الذي يمارسون الظلم معه. وبسبب الفرار من كثرة تراكم الأعمال عليهم. أما الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، فهو أبعد ما يكون عن هذه الأسباب كلها).
ولأن الإمام عليه السلام يقف بالضد من المتجبرين الطغاة الظالمين، فإنه لا يمكن أن يكون منهم، بل هو أبعد ما يكون عن هذه الصفة الجوفاء التي تصيب الفارغين المرضى بالنرجسية والغرور والتعالي على الآخرين، في حين كان الإمام علي واحدا من عامة الناس، يتشابه معهم في الملبس والمأكل، بل في أحيان كثيرة يعيش فقيرا وهو الحاكم الأعلى.
لذا فإن أهم ما يبتعد عنه الإمام علي كحاكم أعلى أنه لا يظلم أحدا مطلقا، وهذا ما عُرف به بين الجميع، ولهذا لم يكن يخشى الشعب، ولا يعزل نفسه عن الناس، بل على العكس من ذلك يتواجد بالقرب منهم، يجالسهم، يتجول في الأسواق والمناطق الفقيرة، لكي يطلع على أحوال الجميع، ولكي يضمن عدم تعرض أحد للظلم أو التجاوز أو سلب الحقوق.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول حول هذه النقطة: (إن عليًّا عليه السلام أبعد ما يكون عن الجبروت والطغيان. وأمير المؤمنين عليه السلام لا يظلم أحداً حتى يخافه في دخول المجتمع).
من صفات الحاكم الناجح
أما في مجال تقديم الجهود والتعب المتواصل، والسهر على راحة الناس، وحماية حقوقهم، فإنه (عليه السلام) كان لا يدّخر جهدا لكي يساعد الجميع، ولا يتردد من القيام بالأعمال الشاقة بنفسه، لهذا لا يخشى التواجد بين الناس، كما أنه يقوم بنفسه بالأعمال الكبيرة، فلا يخشى أي نوع من الأعمال ومن الجهود التي تصيبه بالتعب كونه اعتاد على ذلك.
أما قضاء حاجات الناس فكان الإمام أمير المؤمنين عليه السلام، رغم مشاغله الكثيرة والكبيرة بصفته القائد الأعلى للدولة، لكنه كان شديد الحرص على قضاء كل الحاجات التي يحتاجها الناس، دونما مللٍ ولا كلل، يحدث هذا في النهار أو الليل أو في الحر والبرد.
هذا ما يشير إليه سماحة المرجع الشيرازي فيقول: (سيد الوصيين عليه السلام يبحث عن التعب والمشقة في سبيل الله، فكيف يفرّ عن ذلك. فكان (عليه السلام) يمارس الأعمال الصغيرة بنفسه الكريمة بجنب ممارسة الأعمال الكبيرة، ويقضي حاجات الناس بشخصه، يبحث عنها بين الناس ليلاً نهاراً، وفي الحرّ والبرد).
ولأنه من الحكام الذين لا ينامون إلا بعد أن يطمئنوا بأن جميع الناس بخير وأمان، فإن الناس تعرفه جيدا، فلا يشعرون بالخوف، لأنهم مطمئنون إلى أن هناك حاكما عادلا كريما منصفا وشجاعا، لا يخشى لومة لائم ولا يجامل على الحق، ولا يسمح بالظلم بكل أنواعه، ولا يجامل المتجبرين الظالمين، لهذا ينام الناسُ مطمئنين.
في ساعات النهار، وساعات الليل، يتجول القائد الأعلى للمسلمين، عينه لا تنام قبل أن يطمئن على أمن الجميع، والأمن المقصود هنا، حماية الناس من الظلم، ومن الجوع ومن كل التجاوزات الأخرى، يتجول في الأسواق وفي الأمكنة السكنية، وهذا معروف عنه بين عامة الناس، لهذا يطمئنون ويعرفون بأنهم يلوذون بحاكم منصف شجاع وعادل.
يشير إلى هذه النقطة، سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) فيقول: (هذا هو الذي كان يطمْئِن الضعفاء والمساكين والمستضعفين، إلى أن لا يخشوا ظلم الناس لهم، لأنّهم يعلمون أنّ أمير المؤمنين عليه السلام هو الذي بنفسه يبحث في الأزقة والأسواق، والطرق العامّة والمجتمعات الجامعة.. فيسعفهم، ويدفع عنهم كل حيف).
أليست هذه دروس واقعية عملية يقدمها أمير المؤمنين (عليه السلام) لحكام اليوم، لكي يتعلموا كيفية ممارسة الحكم، وكيفية التعامل مع الطغاة الظالمين من ناحية، ومع البسطاء الضعفاء من ناحية أخرى، فالكل كان يعرف حدوده، والجميع كانوا يعيشون تحت خيمة العدل والمساواة والأمن والحرية وإبعاد شبح الجوع.
دروس عظيمة في التصدي للمسؤولية
على حكام اليوم المسلمين أن يستوعبوا هذه الدروس العظيمة في التصدي للمسؤولية، وأن يحكموا بين الناس بالعدل، وأن يحموا الضعفاء من الأقوياء المتنمرين، وأن لا يغضون الطرف عن فلان أو علان لأنه قوي لهذا السبب أو ذاك، فالقوي هو العدل والمساواة وعدم المجاملة على الحقوق والحريات وتحقيق الأمن بكل أنواعه للناس، هذا بالتحديد ما قدمه أمير المؤمنين لأمته وشعبه، فهل يعلم بذلك حكّام اليوم؟
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله يثبّت هذه المقارنة فيقول:
(الإمام علي عليه السلام هو الذي كان يصدّ الطغاة والمستكبرين عن الظلم وإيذاء الناس، فهم يعلمون أنّ علياً عليه السلام لهم بالمرصاد، وهو بشخصه موجود بين أفراد المجتمع، فلا يأمن الظالمون في كل لحظة وفي كل مكان أن يكون علي عليه السلام هو الشاهد والحاضر يقبض عليهم متلبسين بالجريمة).
لهذا لابد لكل مسؤول ولكل حاكم يريد أن يكون نموذجا جيدا صحيحا لإدارة الحكم، ويطمح أن يكون خالدا في ذاكرة الملأ، أن يدرس جيدا سيرة الإمام علي عليه السلام، سواء في الحكم، أو في التعامل مع الناس، أو مع الظالمين، وكيف أدار السلطة، وكيف تصدى للمسؤولية وأعطاها حقها، وحمى الناس من ظلم الفاسدين والمتجبرين.
على حكام المسلمين اليوم أن يستضيئوا بسيرة الإمام علي عليه السلام، وبتجربته في إدارة السلطة، وفي التعامل العادل وحماية المعايير التي تنصف الجميع بلا استثناء، إنها دروس ملهمة على حكام اليوم أن ينهلوا منها لكي يصبحوا حكاما صالحين وخالدين في نفس الوقت.
يقول سماحة المرجع الشيرازي دام ظله:
(مثلت سيرة أمير المؤمنين عليه السلام الإسلام العظيم في كل الأبعاد بعمق وشمول، وفي بعد الحرّية أيضاً، ومنح الناس ذلك في مختلف المستويات وشتى الأمور وضرب علي عليه السلام الرقم القياسي، وهكذا ليسير الحكام في الإسلام بسيرته الوضّاءة، ويصححوا سياستهم بسياسة علي عليه السلام الرشيدة في كل الأصعدة).
إنها مدرسة الحكم الفريد من نوعه في الإنصاف والعدالة، وهنالك الشجاعة في التعامل مع الذين يريدون ظلم البسطاء، والاستهانة بهم وبحقوقهم، هذا الشيء غير موجود في ظل الحاكم العادل الأمين المنصف الشجاع الذي يخشى الله في شعبه وأمته، فهل سيكون حكامنا اليوم كما كان نموذجهم أمير المؤمنين عليه السلام الذي خلّدته مواقفه العظيمة في إدارة الحكم والتعامل مع الظالمين؟
اضف تعليق