أننا بحاجة لضبط فن التكرار حتى نضمن إقناع الشباب بالقيم التي تحمي عقولهم وثقافتهم وأفكارهم، وعلى أهل الصلاح والعلم أن يقوموا بهذا الدور بأفضل السبل، وأن يكون فن التكرار أحد الأساليب التي يعتمدونها في توجيه الشباب وغيرهم، ولكن لابد أن تكون عملية التكرار غير مملة وقريبة من القلوب والنفوس والعقول...
(يلعب التكرار المؤثّر وغير الممل، دوراً مهمّاً جدّاً وبارزاً في الإقناع)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
يُؤخَذ على التكرار بأنه يسلب ألق التجديد، ويطفئ كلّ شيء جديد، فحين يتكرر الشيء بنفس الطريقة والأسلوب والأداء، سوف يفقد حالة الجذْب، وسوف يقع ضمن دائرة المعروف والمتوقَّع مسبقا، والتكرار يشبه تلك القصص المعروفة النهايات، فهي لا تجذب القارئ ولا تحرك فيه الرغبة بمواصلة القراءة، لكن التكرار الذي نقصده هنا هو ذلك الأسلوب التوصيلي الذي يسعى لإقناع الإنسان بشيء أو رأي عبر تكراره عليه مرات ومرات دونما ملل.
فهناك بعض المطالب مثلا، لا يمكن الحصول عليها ولا تحقيقها، إذا لم يكن هناك حالة تكرار دائمة على هذه المطالب، وهذا ما نجده في حالات واقعية كثيرة لابد أننا عايشناها في حياتنا، ولا ينحصر التكرار هنا بالألفاظ أو بالكلام فقط، وإنما يشمل جميع مجالات التكرار، مثل تكرار تناول الطعام، أو تكرار الاستحمام، فهذه الأشياء التي نقوم بها بتكرار دوري مستمر، هي التي تديم الحياة وتجعلها مستساغة ومقبولة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته التوجيهية القيّمة:
(يجدر تكرار بعض المطالب، لما فيها من فوائد، وقد لا نحصل على النتيجة بلا تكرار أو بالقول مرّة واحدة). أي أن الإنسان لا يمكن أن يحصل على مطالبه بدعوة واحدة، وإنما عليه أن يكرر ذلك بما يتناسب وأهمية هذا الطلب أو ذاك، وأن لا يكتفي بمرة واحدة قد لا تكون كافية لإقناع الطرف الآخر بالموافقة على تلبية المطلب.
التكرار هنا لا يعني إعادة الأفكار نفسها، ولا الأساليب نفسها، وإنما إظهار نوع خاص من الاهتمام بالمطلب عبر أسلوب التكرار، ومنها كما سبق القول، تكرار تناول الإنسان للطعام في وجبات غذائية منتظمة ومتكررة، فهل هناك ضرر يقع على الجسم بسبب تكرار تناول الطعام، أم هناك فائدة تضمن تغذية وصحة وسلامة الجسم من الاعتلال، وإمكانية مواصلة العيش بطريقة جيدة ومناسبة وموفَّقة في نفس الوقت؟
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ التكرار من أسباب نيل الموفقيّة. فقوام جسم الإنسان بتكرر تناوله للطعام. فامتناع الإنسان عن تناول الطعام بالصباح والعشاء بشكل مكرّر).
ليس الجسم وحده يحتاج إلى الغذاء، وإنما روح الإنسان تحتاج إلى الغذاء أيضا، وعلينا أن نكرر هذا الغذاء للروح حتى نضمن عدم اعتلالها، فالصلاة التي نؤديها في أوقاتها على مدار اليوم، ونكرر أداءها في اليوم الثاني والتالي وبصورة متكررة ومستمرة، هدفها واضح ومعروف لأنها تشكل الغذاء الجيد والمناسب للروح.
يُضاف إلى الصلاة الكثير من الأدعية وتلاوة آيات من القرآن الكريم، ويحصل هذا بشكل مستمر ومتكرر، فحصل من هذا التكرار على ضمانة أكيدة لسلامة الروح، وعدم ضمورها، بل ونضمن عدم اقتراب الأمراض النفسية والمعنوية منها، فتكون حصيلة تكرار الصلاة وقراءة الأدعية وتلاوة القرآن روح سليمة معافاة من السقم بكل أنواعه.
يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(وهكذا هي روح الإنسان، كالجسم بحاجة إلى تكرر بعض الأمور لها. فنحن نصلّي خلال أربعة وعشرين ساعة لمرّات، ونكرّر الصلاة في كل يوم. وقوام ودوام سلامة الروح يكمن في هذا التكرار الذي مرّ ذكره).
عالم الروح ومشاكلها
كلامنا هذا هو إجابة عن تلك الشبهات التي يطلقها البعض هنا أو هناك، حين يقولون في مناسبة وفي غيرها، إن تكرار الصلاة بنفس الطريقة أمر غير مفيد ولا يعود بالفائدة على الإنسان وإنما هو هدر للوقت، هكذا يقول الملحدون أو المنحرفون أو أولئك الذين لا يؤمنون بالدين، ولكنهم لا ينظرون إلى أهمية الجانب الروحي حتى من الناحية العلمية.
فلو أنهم قرأوا ماذا يقول العلم عن الروح ومشاكلها وأمراضها، وأهمية مراعاة ما تتعرض له من صدمات، وتقديم المعالجات الروحية اللازمة، حتى لا يتعرض الإنسان للاعتلال النفسي، ولا يقع فريسة للأمراض العقلية التي تحيل حياة الإنسان إلى هباء، لذلك من الأمور المهمة للإنسان أن يستثمر فن التكرار، ويجعل من هذا الأسلوب نوعا من التطبيب اللازم الذي يحتاجه لخلق عملية التوازن بين وظائف الجسم والروح.
هناك أشخاص لا يمكن التأثير فيهم حين تقول الشيء أو الراي أو المطلب مرة واحدة، في هذه الحالة يجب اللجوء إلى فن التكرار لكي تتحقق الغاية المطلوبة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إن نسبة تأثّر الناس مختلفة، فبعضهم ينجذب بعد سماعه للرأي مرّة واحدة، وبعضهم بعد مرّتين، وغيرهم بعد ثلاث مرّات وربما أكثر).
ويُعتمَد أسلوب أو فن التكرار في المجال الإعلامي، والتأثير النفسي على الآخرين، كما نلاحظ ذلك في البرامج المدروسة التي تعرضها وسائل متعددة للإساءة للدين والمقدسات، وهنا نلاحظ عملية التكرار الهائلة التي تلجأ إليها هذه الوسائل، بحيث تقوم ببث الخبر أو الحكاية، أو العمل الفني الدرامي عشرات المرات، لأنها تعرف ما الذي ينتج عن التكرار.
فالهدف واضح هنا وهو الإساءة للإسلام وحتى التشيّع يكون في دائرة الاستهداف، وهذا يثبت بأن فن التكرار يمكن أن يستخدم بطريقة إيجابية مفيدة، وأخرى على العكس من ذلك، لكن في كل الأحوال هناك تأثير واضح لفن التكرار في إقناع الناس بالقضية أو الرأي أو الهدف.
ضمان التكرار الإيجابي ومواجهة السلبي
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (نشهد اليوم في العالم، المليارات من الإهانات تجاه المقدّسات الدينية، وبمختلف اللغات وعبر طرق ووسائل متعدّدة، ويكرّر نشرها وبثّها كثيراً، ولا يُستبعد تأثيرها السلبي، تجاه دين الإسلام والتشيّع، ويمكن أن تؤثر على أذهان وأفكار الكثير من الناس بالعالم).
ويضيف سماحته (دام ظله): (اليوم تعمل الكثير من القنوات الفضائية بالعالم، وربما تصل نسبتها إلى تسعة وتسعين بالمئة، وذلك باختيار من يقوم بإشاعة الفساد والضلالة والعقائد الباطلة أو غير الصحيحة).
ولكن يبقى أسلوب أو فن التكرار سلاح ذو حدّين، يمكن أن نستفيد منه، ويمكن أن يلحق بنا الضرر، فالاستفادة من التكرار تم توضيحها، كما أن الأضرار التي تحدث بسبب التكرار باتت معروفة، ولكن على الإنسان أن يستعد لمواجهة هذا الأسلوب في حال كان هدفه الضرر، أما الفائدة فهي واضحة ومعروفة، لاسيما في هداية الشباب وسحبهم إلى منطقة الإيمان عبر التكرار والإقناع.
ولا يُشترَط أن يتم التكرار في مكان محدد ولا في وقت محدّد، فجميع الأمكنة تصلح للحديث مع الشباب بخصوص القضايا العقائدية، والأفكار البناءة، والتنبيه إلى البرامج المغرضة التي تستهدف عقولهم، بل من واجب القادرين علميا ودينيا وعمليا وفقهيا أن يرشدوا الشباب في كل مكان وزمان، عبر أسلوب فن التكرار من خلال إحداث التأثير الكبير بالكلمات والأفكار.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إذا ذكرت أمراً أو مطلباً ما لشاب، أو تحاورت معه، ولم يتأثّر به، فكرّره عليه، وهكذا في المرّات القادمة وبأشكال مختلفة وأخرى. ويمكن أن تحدث الحوارات، في السيّارة، والطائرة، والباخرة، أو في بيئة العمل والعائلة، وبين الأصدقاء وأمثالهم. فليس المهم أين يكون ومتى، بل المهم تأثير الكلام، الذي يحصل بالتكرار).
خلاصة ما تقدم، أننا بحاجة لضبط فن التكرار حتى نضمن إقناع الشباب بالقيم التي تحمي عقولهم وثقافتهم وأفكارهم، وعلى أهل الصلاح والعلم أن يقوموا بهذا الدور بأفضل السبل، وأن يكون فن التكرار أحد الأساليب التي يعتمدونها في توجيه الشباب وغيرهم، ولكن لابد أن تكون عملية التكرار غير مملة وقريبة من القلوب والنفوس والعقول، حتى تكون مقبولة ومستساغة يتمسك بها الشباب ويؤمنون بها.
اضف تعليق