حرية الرأي – مدخل تعريفي:
الرأي:- معروف جمعه اراء، يقال فلان من اهل الرأي أي انه يرى رأي [1]
اما الحرية:- فيمكن تعريفها بانها التعبير الخارجي عن الفكر الباطني والتعبير يكون عادة بالقول او الفعل او الخطابة او الكتابة وكذلك ايضا بالحركات الدالة والصور والرسوم.... [2]
وهي ايضا: قدرة الانسان في تكوين رأيه بناءا على تفكيره الشخصي، دونما تبعية او تقليد لاحد، او خوفا من احد وان يكون له كامل الحرية في اعلان هذا الرأي بالأسلوب الذي يراه مناسبا [3] وبهذا نجد حرية الرأي قد كفلها القران الكريم بقوله تعالى: (ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [4]، وقوله تعالى: (والذين مكناهم في الارض واقاموا الصلاة واتوا الزكاة وامروا بالمعروف ونهوا عن المنكر) [5].
في حين نجد الاعلان العالمي لحقوق الانسان لم يعرف حرية الرأي بشكل صريح وانما اعطى صور ممارسة هذا الحق من خلال المادة (19) التي تنص ما يلي:- لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل واستيفاء الانباء والافكار وتلقيها واذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بحدود جغرافية [6] كذلك الامر بالنسبة للإعلان الاسلامي لحقوق الانسان في المادة (22): لكل انسان الحق في التعبير بحرية عن رايه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية [7].
ويتضح مما سبق ان حرية الرأي تتمثل في كون الانسان حر في اعتناق ما شاء من الآراء سواء شفاهة او كتابة وبأية وسيلة يختارها لكن مع ضرورة عدم خرق القوانين والاعراف المنصوص عليها داخل الدولة التي سمحت بحرية الرأي.
- حرية الرأي – تاريخيا:
تميزت حرية الرأي في العصور القديمة بامتهان كرامة الانسان فتفشى نظام الاقطاع وتحكم امتياز النبلاء وهيمنة رجال الدين فأصبحت الكنيسة هي مصدر التشريع الذي لا يعارض، مما نجمت عنه تراكمات من العقوبات الوحشية باسم الدين وهو براء منه، فانتشر القتال والاقتتال وغير ذلك من شتى انواع مصادرة حرية الانسان حتى أصبح كل من عبر عن استنكاره لتلك الجرائم يعدم بعد ان يعذب. ثم استمر هذا الوضع طيلة قرون عديدة فتتابعت الصيحات بالمطالبة بالتخلص من هذه المحن وهكذا صدرت في بريطانيا وثيقة العهد سنة 1215م ليتوج ذلك بوثيقة الحق 1701 م ثم تعزز هذا المسار التقنيني بإعلان حقوق الانسان والمواطن في فرنسا عام 1789 م ثم تلاها مجموعة من الاصدارات الى غاية صدور الاعلان العالمي لحقوق الانسان سنة 1948 م [8]
- حرية الرأي في العصر الاسلامي:
الاسلام اعطى اهمية كبرى لحرية الراي لأنها من المرتكزات الاساسية للكثير من القواعد الشرعية ولأنها تجلي الحقائق وتظهرها، فبعد ان كان ابداء الراي امرا منبوذا في ظل شرائع ما قبل الاسلام، جاءت الشريعة الاسلامية واقرت هذا الحق لجميع فئات المجتمع، حيث لم يكتف الرسول الاكرم – صلى الله عليه واله وسلم – بدعوة العامة لإبداء حرية الراي وانما كان يحث اصحابه على ممارستها معه فكان يتطلع اراءهم في الشؤون العامة والمصالح الخاصة [9] والاسلام اكد بوضوح حرية الراي من خلال القران الكريم والسنة النبوية، حيث اقر الاسلام بتعددية الآراء وتنوعها حيث يقول عز من قال: (ولو شاء ربك لجعل الناس امة واحدة ولا يزالون مختلفين) [10]، أي ان الاختلاف بين البشر ليس امرا طبيعيا فحسب بل ايجابيا كما يوضح القران الكريم بقوله تعالى: (فان تنازعتم في شيء فردوه الى الله والرسول...) [11] فالشيء المؤكد وجود اراء متعددة في المجتمع الاسلامي تعكس تنوعه وتياراته الفكرية.
كذلك اقر الاسلام ان يتمتع المجتمع، رجالا ونساء بالحرية في الراي من خلال قوله تعالى: (والمؤمنون والمؤمنات بعضهم اولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) [12] والنهي عن المنكر او الامر بالمعروف في المجتمع لا يقتصر على الامور الدينية والعبادات والعقائد فحسب بل كل النشاط الانساني في التفكير والنقد والمعارضة والتقسيم في الشؤون السياسية والثقافية والاقتصادية.
وعلى ضوء ذلك يرى اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): يقول الاسلام – اعمل ما تشاء، فلك حرية العمل شريطة ان لا تضر غيرك [13]، فانه (لا ضرر ولا ضرار في الاسلام) [14] وهكذا لابد من التأكيد على ان حرية الراي تقع في الصميم مما يهدف اليه الاسلام، مع التعاضد التام بين الفكر والعمل، فالإسلام الذي يدعو الى الحرية لا يكبل الانسان في مجالات الحياة كافة حيث لم يقتل النبي – صلى الله عليه واله وسلم احدا من المشركين بسبب عدم اسلامه، ولا اجبر احدا على الاسلام، بل تركهم على دينهم، فكان صلى الله عليه واله وسلم له الصديق المسيحي والجار اليهودي، دون ان يجبر احدا منهم على الاسلام، مع انه كان الحاكم الاعلى في الجزيرة العربية، وكان بيده السيف والمال والقوة الكافية [15]
- حرية الراي ركيزة في ارتقاء المجتمع:
يؤكد سماحة اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي في هذا الصدد: على ان الانسان حر في مزاولة كل انواع الاعمال، بمختلف اشكالها، واحوالها، في أي زمان ومكان مالم يضر بالآخرين، وحرية العمل متأتية من حرية الراي وهكذا يستمد الانسان حريته العملية من حريته الفكرية التي اتاحها له الاسلام شريطة ان لا يتسبب ذلك العمل بأذى للغير وهو مالا تقبله التعاليم الاسلامية مثلما يرفضه المنطق الانساني القويم تماما، حيث اجواء الحرية تسهم على نحو كبير بخلق عناصر النجاح والتقدم والمعاصرة التي تتطلّبها حياتنا الراهنة، استنادا الى قانون التجدد الذي لابد للإنسان ان يؤمن به ويحسب حسابه ويسعى الى تجديد افكاره ورؤاه واعماله، في ظل الشرط الذي اقترحه الاسلام والمنطق الانساني معا، متمثلا بعدم الاضرار بمصالح الاخرين، فليس من العدل بشيء ان تتسبب حريتك في الاذى لغيرك مهما كان حدود الضرر، لان الاهم في التقدم والتطور والحرية نفسها ان يتحقق الوئام والانسجام بين الجميع في ظل نظام حياتي يضع توافر المواصفات الانسانية في المقدمة من اهدافه ولكن يبقى الاسلام[16].
وكذلك هناك عدة قيود اخلاقية وقانونية يجب ان نتطرق اليها اقرها الاسلام في مبدأ حرية الراي للوصول بهذه الحرية الى الرقي وتقدم المجتمع وتطوره ومنها: الغيبة بمعنى الحديث عن شخص اخر والمس بسمعته وتجريحه والسخرية من الاخرين واسقاط هيبتهم والكذب عليهم، كذلك كشف عيوب الاخرين امام الناس، هذا من الجانب الاخلاقي اما من الجانب القانوني هو ايذاء الاخرين وقذفهم بأمور يعاقب عليها الدين كشرب الخمر والرذيلة وغيرها، وتكفير المسلم، والافتراء على المسلم وسب الرسول – صلى الله عليه واله وسلم، وسب دين غير المسلمين واطلاق لقب كافر عليهم كما قال تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل امة عملهم ثم الى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون) [17] وغيرها من الامور التي لايسع المجال لذكرها.
حيث يرى سماحة المرجع (دام ظله) بقوله: اول ما يبدأ الاسلام بتحرير الناس فيه هو: الفكر، واختيار الدين فان الاسلام لا يجبر الناس على دين معين ابدا، ولو كانوا في بلاد الاسلام وتحت رعايته وحمايته، والاهم عند الاسلام ان يكون الانسان سعيدا وناجحا في حياته، بل هدف الاسلام ان يتحقق الخير لعموم الناس، ان الاسلام جاء لإسعاد البشر حتى الذي لا يؤمن بالإسلام يريد له الخير ويحب له النجاة، انها من ابعاد الحرية في الاسلام، والهدف الاهم في المسعى الاسلامي ان تشاع الحرية في العمل والانتاج المتنوع في ظل منظومة سلوك عصري متوازن قائم على مراعاة حقوق الاخرين وآرائهم ومشاعرهم، مما يؤدي بالنتيجة الى تحقيق المجتمع العصري الناجح [18].
- حرية الرأي حق ام واجب؟
تعتبر حرية الرأي في الاسلام امر واجب على كل مسلم ومسلمة وليس حقا كما هو في العالم الغربي، ذلك من خلال اعتماد مبدأ التشاور وعدم الفردية في اتخاذ القرارات استنادا على قوله تعالى:
(وشاروهم في الامر) [19] وقوله تعالى: (وامرهم شورى بينهم) [20]، فضلا عن ضمان الشريعة الاسلامية للرجل والمرأة ما يسمى بالحرية المدنية، فدين الاسلام اعطى حقوق المرأة كاملة، فضلا عن ذمتها المالية من شأنها ولها ان تجري التصرفات المالية دون حرج، وهي حرة في اختيار زوجها، فضلا على ان الحرية حق على الانسان مثل باقي الحقوق لها ضوابطها وقيودها، ويرفع الاسلام شعار المساواة بين الناس على اختلاف الاجناس والالوان واللغات استنادا الى قوله تعالى: (يا ايها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون والارحام ان الله كان عليكم رقيبا) [21]، استنادا الى الآية لا فرق بين عربي واعجمي وابيض واسود الا بالتقوى، ويلاحظ ان الله تعالى قد جعل عناصر الاختيار متوازنة وعادلة، فقد خلق الانسان على الفطرة النقية أي الميزان الحساس الداخلي الذي يميز بين الخير والشر والذي يؤمن بالله وحده – وفي مقابل هذه الفطرة سلط عليه الشيطان للغواية، وارسل له الرسل وانزل معهم الكتب السماوية وفي مقابل ذلك زين له الدنيا وغرورها، وفوق ذلك كله خلقه حرا في ان يطيع ويعصي وفي ان يؤمن ويكفر وجعل له سريرة يحتفظ بها بكل اسراره ونوازعه ومشاعره وافكاره بعيدا عن متناول أي مخلوق لتكون له ذاتية مستقلة، فاذا اراد ان يكون حرا كان حرا واذا اراد بمحض اختياره.
وعن طريق ذلك الاختيار يستعمل الانسان حريته كما شاء، فاذا تسلط الاخرون عليه بقوانين غير إلهية وصادرو حقه في الكفر اختار سريرته ان يكفر بل ينكر الفطرة بداخله [22] ومن خلال هذا المنطلق نجد سماحة اية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) ارتكز على مجموعة من التوجيهات الداعية الى حرية الرأي من ضمنها يقول: ان عالم اليوم هو عالم الحرية والانفتاح، وان ممارسات الاضطهاد والكبت من قبل الحكام تجاه شعوبهم لا طائل لهم منها سوى الفضيحة والندم [23]، وهو ما افصح عنه واقع الاحداث التي انتهت بإسقاط بعض العروش، التي بنت نفسها على دماء وارواح وحقوق الشعوب، فمع تقدم الوعي واتساع وسائل الاتصال، والانفتاح التام بين امم وشعوب العالم الامر الذي يتيح مجالا اوسع للحريات والمسارات الصحيحة.
لذا أصبح من العسير جدا على الدكتاتوريات ان تجد لها مكانا في عالم اليوم، حتى لو بذلت قصارى جهدها واساليبها القمعية المعروفة، وهذا ما يؤكد نهاية عصر القمع، يقول سماحة المرجع (دام ظله) في هذا المجال: ان عالم اليوم وجيل اليوم يبحث عن الحقيقة والسعادة، وهذا لا يأتي الا في ظل الحرية بما في هذه الكلمة من معنى، وفي اطار العدل بما للكلمة من شمول [24].
ان نتائج الربيع العربي التي تمخضت عن الانتفاضات والاحتجاجات الكبيرة واعطت درسا فعليا للقادة المتجبرين، لذا كان على الباقين منهم ان يتعظوا ويفهموا الدرس جيدا، فيقول (دام ظله): لو ان الحكام اليوم يتأملون في تاريخ من مضى من الحكام امثالهم لأعادوا النظر في تصرفاتهم وافعالهم مع شعوبهم، ولما اقدموا على حرق تاريخهم بأيديهم [25]، وهذا ما يؤكد فشل اساليب القمع بكل انواعها وصورها على النجاح في اطفاء جذوة الوعي لدى الغالبية العظمى من الناس حتى بسطائهم، لذلك بات القمع وسيلة للتعجيل بسقوط الانظمة المستبدة وليس حاميا لها، لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في توجيهاته على: ان الحكومة التي ينبني اساسها على الاستبداد وهضم حقوق الناس المشروعة هي حكومة زائلة وفانية لا محالة [26]، كذلك اكد (دام ظله) على: ان حرية الرأي في نظام الاسلام، من الاسس القويمة، فالإسلام يجعل الناس احرارا [27]
نعم ان الاسلام يحرر الانسان بدءا من الذات عبورا الى الخارج، ويطالب الاسلام بانتهاج الحرية كأسلوب حياة تساعد الناس على اختيار ما يصلح لقيادتهم، بالإضافة الى اختيار السبل السليمة لحياتهم، مع حضور مسؤولية النخب المعنية بزيادة الوعي الجمعي لعموم الناس ومساعدتهم على معرفة ما يصلح لهم في تسيير حياتهم، لذلك فان الحرية في المنظور الاسلامي تختلف عن سواها من الحريات، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع (دام ظله) حيث يقول: ان الحرية التي يمنحها الاسلام في مختلف المجالات، ليس لها نظير، لا شيء يقرب منها في تاريخ العالم، حتى في هذا اليوم المسمى بعصر الحريات، والامام امير المؤمنين علي بن ابي طالب – عليه السلام – في حكومته كان يمنح للناس الحرية في المظاهرات ضد شخصه بدون استمارة وقيود، وكان يلبي مطالبهم [28]
وعلى وفق ما تقدم نقول: بداية انظر الى حرية الرأي بمنظار عكسي، أي الفهم الخاطئ لهذا المفهوم من خلال الحرية الزائدة والمزيفة وغير المرئية ان صح التعبير لتلك الاختلافات والتبريرات الجاهزة لبعض المظاهر التشاؤمية حيث يصبح بإمكان البعض ان يثير المزيد من التساؤلات في نفس الوقت الذي يقدم فيه المزيد من الاجابات عادة ما تستمد مادتها السلوكية من دائرة معرفة الفرد بدءا من موقعه في الشارع مرورا بالحلقات التربوية والسلطوية هبوطا وتصاعدا وبين هذا وذاك نرى في توظيف حرية الرأي هو تنفيس للضغط الهائل الذي تحدثه الغربة الفردية لتحريك وتحفيز الضمير على القيام بمثل ذلك التوظيف بما يتناسب مع مشروع الذات واستحقاقاتها وليس مع مشروع حرية الرأي الصحيح وثوابته ومعطياته هذا من جانب، اما الجانب الاخر، نقول عندما ننادي او نطالب بحرية الرأي يجب ان لانطلق الشعارات الكاذبة الجوفاء، بل نحاول جميعا ان نقيم مجتمع الحرية الفاضلة مدركين ان هذا المحك هو المحك الثابت في اقامة دولة العدل والحق على انقاض الظلم والباطل، فالحق يعتمد على الحرية واننا نجد اليوم فجوة حضارية لابد من تجاوزها لا تفصل مجتمعنا عن التقدم العالمي، وهذا لا يمكن الا من خلال تعبئة كل الطاقات.
ومن اجل تحقيق ذلك لابد من الحرية المسؤولة وهكذا فانه اذا وجدنا علاقة الحرية والانفتاح والنقد والتقييم السليم للسلطات والمؤسسات الحكومية والمدنية وكذا على المستوى الشخصي للأفراد، فان هذه العلاقة سرعان ما ستسود كافة مكونات الدولة والمجتمع على شتى الاصعدة، وبغير ذلك فان اعمال السلطة والنخب التي تصل الى مقعد الادارة والقرار سواء على المستوى الحكومي او مؤسسات المجتمع المدني، ستكون مناقضة لأقوالهم وهادمة لأفكارهم ومتباينة مع شعاراتهم.
ولا شك ان اصدق تعبير لحرية الرأي ما نجده منزلا في آيات القران الكريم التي تكون مع بعضها منظومة متكاملة للعلاقة بين الفرد ومفهوم الحكم وهو المنظومة القائمة على اساس التقنين التشريعي لهذه العلاقة فيجري العمل والسلوك بقواعدها وسياقها انطلاقا من الاقرار بالقدسية والقانون والاعتراف بانهما مفهومان يرتقيان بقدسيتهما على جبروت السلطة وتجاذبات الرغبات والميول سواء كانت تتصل بالحاكم او بالمحكوم.
واخر دعونا ان الحمد لله رب العالمين
اضف تعليق