الإصلاح في المعنى الواضح له، هو عملية تصحيح لأخطاء في الجانبين الفكري والعملي، فقد تتعرض الأفكار للفساد والإفساد، وهو أمر سينعكس حتما على الواقع التطبيقي لتك الأفكار، لذلك عملية الاصلاح ينبغي أن تتضمن خطوات فكرية وعملية، وعندما نتحدث عن طبيعة الفساد في مؤسسات الدولة والحكومة، وأهمية اصلاحها، فإننا نحتاج بالفعل الى اصلاح الافكار التي تُعنى بتنظيم حياة المجتمع، ومن ثم علينا معالجة الواقع العملي لمؤسسات الدولة والحكومة ضمن اصلاحات عملية دقيقة.
هذا الأمر يعني أننا ازاء خطوات فكرية وعملية، أما الفكرية فهي تحتاج الى مزيد من الوقت، والعملية ايضا، على الرغم من أنه بالامكان اتخاذ خطوات عملية قد تبدو سريعة، ولكنها ينبغي ان تكون فعالة ومدروسة، حتى تصب في المسار الصحيح للتغيير، وهذا يستدعي اجراءات وخطوات متدرجة، حتى لا يكون الاصلاح عشوائيا، أو ذا طبيعة قشرية سطحية متسرعة، فالاصلاح يعني التصحيح، وينبغي للأخير أن يكون جذريا وليس شكليا.
ان توفير الحياة الكريمة هي لبّ الاصلاح، وأن الافكار السليمة تصنع القيم الصحيحة، والاخيرة تقصي الفساد وتقضي عليه، لذلك ينبغي توفير مقومات الحياة الكريمة، من عمل وتعليم وصحة، وتكافؤ فرص ضمن اطار العدالة الاجتماعية، على ان يتم ذلك بصورة متدرجة، مدروسة وقابلة للتطبيق، حتى تعطي ثمارها بصورة مضمونة.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، حول هذا الجانب في الكتاب الموسوم (من عبق المرجعية): (الإسلام لا يفاجئ الأمة بإصلاحاته، وإنما يتدرّج معهم في تطبيق الإصلاحات، فأولاً يهيئ للناس ما يناسبهم من أعمال، ثم يدرّ عليهم من خزينة الدولة ما يساعدهم في شؤونهم، حتى يتم لهم العمل الذي يريدون مزاولته).
وتسهم منظومة الافكار وزيادة الوعي ونشر الثقافة، في محاصرة آليات الفساد ومن يقف وراءها، لذلك كان الاسلام ولا يزال يسعى لنشر الوعي بين الجميع، مع محاربة متواصلة لوسائل وسبل وأدوات نشر الفساد والمغريات بين اوساط الشباب، والشرائح الاخرى للمجتمع، مع تعميم الثقافة الانسانية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: إن الإسلام (يشجّع كل ما يؤدّي لنشر الوعي بين الناس ويعمّم الثقافة الإنسانية في الأمة، ويحرّم المفاسد والمغريات في هذه الوسائل).
النظام الإسلامي العادل
إن الاصلاح شأنه شأن الاستثمار الصحيح للطاقات الفكرية والعملية، او الثروات الطبيعية وما شابه، لابد أن يكون الاستثمار سليما حتى يعطي نتائج مفيدة ومثمرة، بمعنى لا يمكن أن يمنحنا الاصلاح نتائج جيدة، ما لم تكون بيئة الاصلاح نفسها سليمة، لذلك لابد من توافر النظام الاسلامي العادل، الذي يسهم بصورة فعالة بتحقيق الاصلاح من خلال القيام بعمليات البناء كافة، سواء في مجال الاعمار او الزراعة والصناعة وما شابه.
انا مواصلة البناء والاستثمار الصحيح في اجواء عمل نقية، تعني بالنتيجة تراكم الثروة، وهذا يساعد على توفير فرص اكثر عدالة لأبناء الأمة والمجتمع كافة، ومع تصاعد وتيرة العمل والتصحيح، يتصاعد الانتاج، وتزداد موارد الدولة، وتزدهر الصناعة والزراعة والتجارة، وتتوافر بيئة أكبر للقضاء على الفساد ونشر الاصلاح.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: (تزدهر الإصلاحات، بجميع أبعادها وجوانبها، في ظل النظام الإسلامي العادل، فتُعمر الديار، وتُبنى الدور، وتزرع الأرض، وتتقدّم الصناعة، وتتوسع التجارة، وتتراكم الثروة).
وهذه الاجواء السليمة تنعكس على حياة المجتمع، حتى السياسية منها، فيكون هناك تطور في طبيعة النظام السياسي ايضا، لذلك يؤكد الاسلام على أهمية ان يكون النظام السياسي حاصلا على الشرعية من الشعب، عبر آليات الانتخاب وما شابه، فالنظام الشرعي لا يقبل بالفساد، ولا يسمح بتوفير حواضن تحتضن الفساد وتسمح للمفسدين بالعبث بمؤسسات الدولة او ثروات الشعب.
من هناك نجد ترابطا وثيقا بين نوعية النظام السياسي وبين الفساد، وقد اثبتت التجارب ان النظام القمعي يشجع على الفساد ويرعاه، كذلك النظام الديمقراطي (المزيف) ايضا يكون راعيا للفساد ويشجع عليه، فقط النظام الشعبي الذي يأخذ شرعيته من الأمة بآليات الاقتراع الدستورية، نجده ساعيا الى الاصلاح، ويعمل عليه بصورة متدرجة، ويرعى مصالح الجميع بصورة عادلة ومتساوية.
هذا بالضبط ما يدعو له الاسلام، وينبغي أن يسعى لتحقيقه النظام السياسي، خلاف ذلك لا يمكن أن نسد الثغرات والنوافذ امام تسلل الفساد وأصحابه ورعاته، وهذا يتحقق عندما يشارم الشعب في صنع الحكومة، وليس العكس، فهل هناك حكومات تصنع شعوبا؟، نعم هناك انظمة قمعية تدّعي أنها صانعة للشعوب، أما الحقيقة فهي عكس ذلك تماما، وعندما يشترك الشعب في منح الشرعية للحكومة، هذا هو الهدف الأسمى سياسيا، كونه الطريق الى القضاء على الفساد ومنعه من التواجد أصلا في المؤسسات الحكومية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (الحكومة في الإسلام شعبية بالمعنى الصحيح للكلمة، فماذا يريد الناس غير المشاركة في الرأي، وغير الغنى، والعلم، والحريّة، والأمن، والصحّة، والفضيلة، مما يوفّرها الإسلام خير توفير؟).
محاربة الفقر بالإصلاح
في المجتمع الذي يخلو من الظلم، لا حاجة لمكافحة الفساد، كونه غير موجود أصلا، ولكن هذا لا يعني التكاسل او غض الطرف عن الامور الخاطئة في ادارة الدولة، حتى لو كانت بسيطة او صغيرة، او تبدو وكأنها غير مهمة، فتثبيت الاصلاحات يعد ركنا أساسيا في بناء الدولة، حيث يساعد على الاستقرار والقضاء على أسباب الظلم والعوامل المساعدة عليه.
ليس هذا فحسب، فالاصلاح يساعد الحكومة والشعب على تحقيق نتائج كبيرة لصالح البناء الصحيح للدولة والمجتمع، حيث تضمحل حالات الظلم، وتغيب الافكار المتطرفة، وينكفئ الارهاب بعيدا، ويبتعد الفقر، وتقل فرص القمع بل يختفي التعذيب والتكميم تماما، تحت مظلة الاصلاح التي تخيّم على المجتمع الوعي، والنظام الاسلامي العادل.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا: مع الإصلاحات (يستقرّ الناس في جوٍّ لا ظلم فيه ولا جور، ولا عنف ولا إرهاب، ولا قيود ولا أغلال، ولا سجن ولا تعذيب، ولا مشاكل ولا فقر).
كذلك يساعد الاصلاح، على تقليل الفجوة بين الاغنياء والفقراء، أي لا توجد طبقية في المجتمعات التي تطبق الاصلاحات بصورة صحيحة، وهذا ما يدعو له الاسلام بصورة دائما، وبطريقة جذرية وليست شكلية، إذ لا يمكن أن يسود الفقر مع الاصلاح، لذا من اجل تحقيق هذا الهدف المهم، ليس امام المسلمين سوى الالتزام التام بمبدأ الاصلاح الجاد.
وكما ذكرنا، لا يعني الاصلاح أقوالا تُقال للناس من اجل الاستهلاك الاعلامي، ولا هي حبر على ورق سرعان ما تجف مع جفاف الحبر، بل على العكس من ذلك تماما، لأن الاصلاح هدف اساسي ينبغي التمسك فيه لجعل حياة الناس أفضل، وهذا هو بالضبط الهدف الذي عملت على تحقيقه، حكومة الامام علي عليه السلام ابان قيادته لدولة المسلمين، من هنا ينبغي على النظام الاسلامي أن يقضى على الفقر تماما باستثمار الاصلاح بصورة سليمة.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع: (في البلد الإسلامي الملتزم بالاصلاح الصحيح، يلزم أن لا يوجد حتى فقير واحد، فالضمان الاجتماعي في الإسلام يحتم على الحاكم الإسلامي أن يزيل الفقر نهائياً).
اضف تعليق