الغفلة بحسب المعنى المباشر لها هي عدم الانتباه لما يجري حول الإنسان، أو لما يقوم به من أعمال وأفعال وما يطلقه من أقوال، تترتب عليها مسؤوليات معينة ومخرجات بعضها قد يكون مسيئا وبعضها قد يكون مقبولا، لذلك فإن غفلة الإنسان في الدنيا تقوده إلى مشكلات كثيرة منها ما يحدث في الدنيا حيث تصبح معيشته رديئة متعثرة...
(تستمرّ حركة الحياة في جوهر الإنسان وبدنه، حتى تستولي عليه قبضة الموت)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الغفلة بحسب المعنى المباشر لها هي عدم الانتباه لما يجري حول الإنسان، أو لما يقوم به من أعمال وأفعال وما يطلقه من أقوال، تترتب عليها مسؤوليات معينة ومخرجات بعضها قد يكون مسيئا وبعضها قد يكون مقبولا، لذلك فإن غفلة الإنسان في الدنيا تقوده إلى مشكلات كثيرة منها ما يحدث في الدنيا حيث تصبح معيشته رديئة متعثرة، ومنها ما يتلقاه في الآخرة يوم القيامة وفي يوم الحساب عندما يقف الإنسان تحت المساءلة في المحكمة الإلهية.
تحدث الغفلة لأسباب كثيرة أصعبها وأكثرها وضوحا عدم المبالاة، فالبشر في الغالب لا يبالي بما يقف ضد رغباتي ومصالحه، ولذلك فهو يرتكب الأخطاء من أجل تحقيقها، ولا يعبأ بيوم الحساب، ولا بما يتسبب به من أذى وآلام وخرق لحقوق الآخرين، ولكن حتى لو تعامل الإنسان بأسلوب اللامبالاة، واستمر بغفلته، و واصل ارتكاب المعاصي والأخطاء، فإن المحكمة الإلهية تبقى له بالمرصاد، وملف أعماله معدّ بالكامل وسوف يُتَح أمام عينية، ويُحاسب على كل ما قام به في دنياه.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أبا ذر):
(إنّ أعمال ابن آدم؛ الكبير منها والصغير، ورغم أنّه قد ينساها أو تُمحى من ذاكرته، لكنّها لن تمحى من كتابه الخاصّ، لاسيّما وأنّها ستكون مادّة وموضوع محكمة العدل الإلهي الكبرى في يوم القيامة).
وهكذا يستمر الإنسان في مشوار حياته، في رحلة طويلة وشاقة، تبدأ من لحظة ولادته حتى لحظة مماته، وما بين هاتين اللحظتين، ينتهي وينطفئ ما يسمّى بعمر الإنسان، لكن ما حدث أثناء هذه الرحلة الطويلة لا يُمحى، حتى لو كان الإنسان قادرا على نسيان أعماله وأفعاله وأقواله، فإن المحكمة الإلهية لا تنسى ذلك.
سجلّ بأعمال الإنسان وأقوله
ولا تمحى الأحداث التي ارتكبها الإنسان، فهناك محكمة بالانتظار، وهنالك قاضٍ (لا تأخذه سِنةٌ ولا نوم)، ولن يغفل عمّا بدر من الناس سواء أعمالهم الصغيرة أو الكبيرة. حتى تلك الأفكار التي كانت تتلاعب بعقل الإنسان، وتأخذه يمينا و شمالا، و تتسبب بإلحاق الأذى بحقوق الناس، تلك الأفكار سوف تكون حاضرة ومدوَّنة في السجل الشخصي لأعمال وأفعال وأقوال الإنسان وتتم في ضوئها المقاضاة الإلهية.
لهذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(تستمرّ حركة الحياة في جوهر الإنسان وبدنه، حتى تستولي عليه قبضة الموت الهائلة «الموت يأتي بغتةً»، فيُستدعى ابن آدم إلى ساحة المحكمة الموعودة بواسطة الموت، فيواجهه هناك بجميع أفعاله وأقواله وأفكاره بعد أن تجمع كلّها في ملفّ خاصّ يحمل اسمه هو دون غيره، أمّا قاضي هذه المحكمة فلا تأخذه سنةٌ ولا نوم، ولا غفلة عن أيّة قضيّة من القضايا، وهو الذي لا تخفى عليه خافيه).
من الأمثلة التي يمكننا مناقشتها، أن الإنسان، أي إنسان إذا كان مطلوبا للمقاضاة، وصدر بحقه أمر قبض لقضية معينة ارتكبها واستحق عليها المساءلة، فإنه بمجرد أن يستلم تبليغ المحكمة، وأنه متهم بكذا قضية، فإنه سوف يتعرض لضغوط نفسية كبيرة، وسوف تتسلل إلى قلبه المخاوف، ويعيش حالة من القلق والخوف والانكفاء.
وفي هذه الحالة سوف تصبح حياته غير مستقرة ولا يشعر بالاطمئنان، حتى لحظات الفرح لا يمكن أن يشعر بها، ولا يستأنس بصديق أو بولد أو بمكسب ما، لأن قاعة المحكمة تبقى حاضرة في خياله، فلا يستطعم الأكل، لأنه حين يتناول طعامه فإن ضغط إلقاء القبض والمساءلة والتحقيق يسلب لذة الطعام منه. بل حتى حين يكون نائما يتعرض لكوابيس من هذا النوع، وحين يستيقظ من النوم، سوف تكون المحكمة واستدعاؤها له منتصبة أمام عينيه، فتقض عليه نومه، وتسلب منه راحته، وتلغي أفراحه، وتشل حياته كلّها
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يصف هذا الموقف بالقول:
(إذا كان من المقرّر أن يحاسب شخص ما في الدنيا ويحاكم على أعماله ونواياه؛ فإنّه لاشك سيتعرّض لأزمة نتيجة الخوف والترقّب والاضطراب ويستولي ذلك على كلّ وجوده، حيث تقدح في زوايا مخيّلته صورة تلك المحاكمة، ولعلّه يفقد السيطرة على حواسّه، فهو يتوقّع حلول وقتها في كلّ لحظة).
بين محكمة الدنيا ومحكمة الآخرة
يحدث هذا في الدنيا حين يتعرض الإنسان إلى محكمة دنيوية، فلا ينام بعمق، ولا يلتذ بطعام، ولا يفرح بنجاح أو مكسب ما، ويسعده أي شيء يحدث في حياته، بسبب تربص قرار المحكمة الدنيوية به، ويبقى يفكر كيف سيقوده (الشرطة) إلى قاعة المحكمة وكيف ستدور أحداثها، فتتعكّر عليه حياته حتى ضحكته ستكون مغمّسة بالمرارة.
هذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حين يقول:
(فإذا كان نائماً ثم استيقظ فكّر من فوره بالمحاكمة، بل إنّ مستوى قلقه المتزايد يسأله باستمرار عن موعد انعقادها المرتقَب، ومتى يسوقه حرسها إلى ساحتها وبأيّة حالة سيساق، حتى يصل به الأمر إلى أنّه قد يفقد معه لذّة الطعام والنوم والاستراحة والتركيز الذهني، فتراه إذا ضحك، ضحك ضحكة ملؤها المرارة، وأصبحت أفراحه أفراحاً ظاهرية).
كل هذه المشاعر والمنغصات يعاني منها الإنسان إذا تعرض إلى محكمة دنيوية، فما بالك حين يُعرَض الإنسان على محكمة الآخرة؟؟
فهو بسبب قرار محكمة دنيوية انقلبت حياته رأسا على عقب، وتغيرت مشاعره، وتضاربت أفكاره، وصار القلق والخوف زاده وشرابه، حتى الضحكة لم يعد يشعر بمعناها، فماذا يحدث للإنسان لو كانت المحكمة هي محكمة الآخرة؟
هذا التساؤل يطرحه سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (مثل هذه الحالات تستولي على من اضطرّ للمثول أمام محكمة دنيويّة، فكيف بمن سيُرغَم على الحضور في محكمة الآخرة؟).
مع كل هذا الذي يمكن أن يتعرض له الإنسان في الدنيا، ومن ثم يتعرض لما هو أشد في الآخرة، لكنه لا يبالي ولا يعبأ بذلك، فما هو السبب الذي يجعل منه يعيش هذه الحالة؟، إنها الغفلة حتما، فلو أن الإنسان يتنبّه لما يدور حوله في الدنيا، ولو أنه يتحسّب لما ينتظره في الآخرة من حساب دقيق وعادل في يوم القيامة، لما وصلت به الأمور إلى هذا الحد من عدم التقدير وعدم الفهم وعدم المبالاة بما ينتظره من حساب.
إنه يُقبل على المحرمات، كالسرقة والاختلاس والربا والزنا والكذب والحسد وسواه، لأنه غاطس في الغفلة من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، وإلا ما الذي يفسر عدم انتباه الإنسان لهذه الغفلة وإصابته بدائها، والوقوع في حالات الانحراف والتمادي؟
هنا يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(أوليس ما يبدو على الإنسان ـ الناقص العمر، المحفوظة أعماله ـ من السعادة والفرح إلا نتيجة غفلته وجهله ولا مبالاته؟! لاشك أنّ جميع الناس مصابون بداء الغفلة عن حقيقة ما يسيرون باتجاهه، ولا شك أيضاً أنّ درجات إصابتهم بهذا الداء متفاوتة).
إذًا على الناس أن يحذروا من داء الغفلة هذا، إنه داء يصيب الجميع، وسعيد ذلك الإنسان الذي يحذر من الإصابة بداء الغفلة، لأنه سوف ينجو في يوم الحساب، يوم لا عمل في ذلك اليوم، ولا يبقى للإنسان سوى الوقوف في محكمة الآخرة، وأمامه ملف أعماله وأفعاله وأقواله، بانتظار قرار المحكمة العادل لا ريب.
اضف تعليق