q
تتكشف الروابط بين الرأسمالية والأمراض العقلية كل يوم. عدد الدراسات والتقارير عن ذلك مهول. فالرأسمالية، نظام يعتمد على غالبية بشرية تعيش في خوفٍ دائم وانعدام الأمن، مقابل أقليّة (الـ 1%) يعيشون كالآلهة. وهذا النظام يكبح نموّ الأجور، ما يعني أن زيادة الدخل تؤدي إلى إنهاك العمّال بعدد ساعات عمل أكبر...

تتكشف الروابط بين الرأسمالية والأمراض العقلية كل يوم. عدد الدراسات والتقارير عن ذلك مهول. فالرأسمالية، نظام يعتمد على غالبية بشرية تعيش في خوفٍ دائم وانعدام الأمن، مقابل أقليّة (الـ 1%) يعيشون كالآلهة. وهذا النظام يكبح نموّ الأجور، ما يعني أن زيادة الدخل تؤدي إلى إنهاك العمّال بعدد ساعات عمل أكبر. والسكن ليس حقّاً، بل سلعة ريعية تحقق أرباحاً طائلة من تضخّم الأسعار المتسارع، ما يعني إيجارات أعلى وحصّة أكبر من الدخل تقتطع من الغالبية، والطبابة هي سلعة محتكرة من شركات عالمية برساميل ضخمة، فإنتاج الأدوية يخضع لقواعد السوق، والابتكار في هذا المجال أيضاً. ومتى وصل الأمر إلى أدوية الأعصاب التي يفترض أن تعالج الاضطرابات التي تنتجها الرأسمالية في المجتمع، يقع المستهلك - المريض في فخ الإدمان الذي ينتج أرباحاً إضافية لهؤلاء.

تدخل سوق العمل، فتجد نفسك في سباق الفئران. تركض على عجلة داخل قفص. ومهما بذلت من جهد، العجلة تدور في مكانها فقط. تريد أن تكون ذلك العصامي الذي سهلت له الرأسمالية الخروج من الفقر. هكذا صدّروها إلى الكوكب. نجمٌ يلمع من شدّة البهرجة. ثم تهوي، تتكوّر على نفسك حتى تتضاءل. الأمور تجري بسرعة كبيرة في الخارج، وأنت، لا يسعك اللحاق أو الفكّاك منها. أين الخطأ؟ تسأل نفسك. لمَ على الأمور أن تكون هكذا؟ إنها الرأسمالية.

لاحظ عالم النفس الإكلينيكي والمعالج النفسي، جاي واتس، في صحيفة «الغارديان»، أن العوامل النفسية والاجتماعية، بالنسبة للكثيرين، هي السبب الرئيسي للمعاناة. ويقول إن الفقر وعدم المساواة والتعرض للعنصرية والتمييز على أساس الجنس و«الثقافة التنافسية» كلها عوامل تعزّز المعاناة النفسية. ويوضح أن الحكومات وشركات الأدوية لا تهتمّ بهذه النتائج، بل تخصّص التمويل للدراسات التي تبحث في الأسباب الجينية والعلامات البيولوجية بدلاً من الأسباب المحيطة بالفرد والتي تسبّب الاضطراب النفسي.

بدوره، يقول الدكتور رود تويدي، مؤلف كتب «إله النصف الأيسر من الكرة الأرضية» و«محرر الذات السياسية: فهم السياق الاجتماعي للأمراض العقلية» و«دراسة لأعمال ويليام بليك في ضوء علم الأعصاب المعاصر»، في مقال له على موقع مجلة «رِد بيبر» الإلكتروني: «العديد من الأشكال المعاصرة للمرض والاضطرابات النفسية الفردية التي نعالجها ونتعامل معها، تبدو مرتبطة بالرأسمالية ونتائجها الثانوية». في الواقع، يمكن القول إن «الرأسمالية هي في كثير من النواحي نظام يولّد الأمراض العقلية، وإذا كنا جادّين في معالجة، ليس فقط آثار الاضطرابات والأمراض العقلية، إنما أيضاً أسبابها وأصولها، فنحن بحاجة إلى البحث عن كثب، وبشكل أكثر تحليلاً لطبيعة الرحم السياسي والاقتصادي الذي خرجت من تلك الأسباب، وكيف يتشابك علم النفس بشكل أساسي مع كل جانب من جوانبها». كما أنه يُنظر اليوم في عدد مهمّ من المقالات الحديثة والدراسات، حول ما تشكله النيوليبرالية من خطورة على الصحّة العقلية، وهل علم النفس هو علاج أخلاقي في ظل الرأسمالية؟

وفي الفصول الأخيرة من كتاب «مونوبولي كابيتال Monopoly Capital» الصادر عام 1966. أوضح بول باران وبول سويزي، عواقب الرأسمالية الاحتكارية على الراحة النفسية، بحجّة أن النظام يفشل في توفير أسس مجتمع قادر على تعزيز التنمية الصحية والسعيدة لأعضائه. ويُنظر إلى العمل على أنه أمر ممتع للأقلية المحظوظة فقط، بينما يُعتبر بالنسبة للغالبية تجربة غير مُرضية تماماً. جادل باران وسويزي بأن وقت الفراغ أصبح مرادفاً إلى حد كبير للكسل.

ولم تعد السلع الاستهلاكية تُستهلك لاستخدامها، بل أصبحت علامات راسخة للمكانة الاجتماعية، مع الاستهلاك كوسيلة للتعبير عن الوضع الاجتماعي للفرد. ومع ذلك، فإن النزعة الاستهلاكية تولّد في نهاية المطاف عدم الرضا، لأن الرغبة في استبدال المنتجات القديمة بمنتجات جديدة تحول الحفاظ على مكانة المرء في المجتمع إلى سعي لا هوادة فيه لمعيار لا يمكن الحصول عليه. يقول باران وسويزي، أنه «أثناء تلبية الاحتياجات الأساسية للبقاء، فإن العمل والاستهلاك يفقدان بشكل متزايد محتواهما الداخلي ومعناهما». والنتيجة هي مجتمع يتّسم بالفراغ والتدهور، مع وجود احتمال ضئيل لتحريض الطبقة العاملة على العمل الثوري. غير أن الواقع المحتمل هو استمرار لـ«سيرورة الانحلال الحالية، مع التناقضات بين ضغوط النظام والاحتياجات الأولية للطبيعة البشرية التي تصبح أكثر صعوبة من أي وقت مضى»، ما يؤدي إلى «انتشار الاضطرابات النفسية الشديدة بشكل متزايد».

في تقرير يجمع خلاصات دراسات عدة نشره موقع «المعاهد الوطنية للصحة» (NIH) في الولايات المتحدة، وعنوانه «تحديات الصحة العقلية المتعلقة بالرأسمالية النيوليبرالية في الولايات المتحدة»، يتبيّن أن معدلات الإصابة بالأمراض العقلية ازدادت بشكل كبير على مدار الخمسة عشر عاماً الماضية في الولايات المتحدة. وعلى مدى العقد الماضي، تساءل البعض عما إذا كانت هذه التغييرات ناتجة من السياسات والأيديولوجيات الرأسمالية النيوليبرالية، التي تدمج نظريات إزالة جميع القيود المفروضة على السوق وتقليل برامج المساعدة الحكومية. ومنذ ذلك الحين، أدّت هذه السياسات إلى عدم المساواة في الدخل، وإضعاف العمال، والاستعانة بمصادر خارجية لوظائف التصنيع، وعدم كفاية الخدمات الاجتماعية، ونظام رعاية صحية باهظ الكلفة وغير فعّال. وأظهرت الدراسات أن عواقب هذه السياسات والأيديولوجيات من المحتمل أن يكون لها دور في زيادة معدلات الأمراض العقلية.

ويذكر التقرير أن انخفاض التمويل للبرامج الاجتماعية وإصلاح الرعاية الاجتماعية، ساهم أيضاً في زيادة تشخيص الأمراض العقلية، إذ تحوّلت برامج الرعاية الاجتماعية التقليدية لتوفّر فقط للأشخاص المصابين بأمراض طبية أو نفسية. وقد ثبت أن هذه النتائج نفسها تسبب الاضطراب الذي من المحتمل أن يسهم في زيادة معدلات الأمراض العقلية وتعاطي المخدرات والانتحار.

أيضاً في ورقة بحثية جديدة، تشير أندريا لاماري، وفريق من الباحثين في أميركا الشمالية، إلى تأثير الرأسمالية النيوليبرالية في ممارسة العلاج النفسي. يستكشف عملهم الذي نُشر في مجلة «علم النفس البنائي»، قدرة العلاج النفسي على مواجهة الخطابات التي تضع الأفراد كعوامل تُعزى معاناتهم إلى إخفاقاتهم الشخصية أو البيولوجية بدلاً من الأذى الناجم عن الأنظمة. وتقول الورقة: «يمكن وصف العلاج النفسي في ظل الرأسمالية النيوليبرالية بتناقض متأصّل. من ناحية أخرى، يمكن أن يكون العلاج النفسي أحد الوسائل الرئيسية لنشر وتعزيز الأيديولوجية النيوليبرالية وبالتالي النهوض بمصالح النظام». ويلفت مؤلفو الدراسة، إلى أن السياسات النيوليبرالية تؤثّر في مناهج العلاج النفسي وإرشادات الممارسة القائمة على الأدلة عندما يكون المُعالجون النفسيون، ربما عن غير قصد، متواطئين مع هذه الأجندات ويحدّدون المشكلات في الأفراد بدلاً من الأنظمة. وأتى في الورقة البحثية: «أن التركيز النيوليبرالي على الاختيار الفردي قد يحجب حقيقة العنصرية المؤسّسية والتمييز على أساس الجنس ويعزّز فكرة أن هناك شيئاً ما خطأ في الفرد وليس مع النظام الاقتصادي والسياسي نفسه». وتضيف الدراسة «أن تواطؤ العلاج النفسي في مشروع النيوليبرالية ينعكس في ميل العلاج إلى تطوير وإضفاء الشرعية على بعض أشكال المعرفة على غيرها».

تقسّم السوق العالمية للأدوية المضادة للاكتئاب، على أساس المُنَتج، نوع المرض، والمنطقة الجغرافية. وأشهر أنواع الأدوية المستخدمة في هذه السوق، بحسب التركيبة الكيميائية (قد يكون لتركيبة طبية أكثر من اسم تجاري)، هي: مضادات الاكتئاب ثلاثية الحلقات، مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية «SSRi»، مثبطات امتصاص السيروتونين النوربينفرين (SNRIs)، مثبطات أوكسيديز أحادي الأمين، مضادات السيروتونين وغيرها.

وتسيطر مثبطات امتصاص السيروتونين الانتقائية «SSRi» المعروفة بأسماء تجارية مثل «بروزاك»، «زولوفت»، على مبيعات الأدوية المضادة للاكتئاب حول العالم، ويتوقّع أن يستمر هذا الاتجاه خلال الفترة المقبلة بحسب alliedmarketresearch، لعدّة أسباب منها التقدّم في أنشطة البحث والتطوير في قطاع الرعاية الصحية وزيادة انتشار الاضطراب الاكتئابي والقلق. وفي المقابل، يتوقع أيضاً أن يشهد مثبطات امتصاص السيروتونين النوربينفرين (SNRIs) المعروفة بالأسماء التجارية مثل «فتزيما» و«سافيلا» وغيرها نموّاً كبيراً بسبب زيادة انتشار آلام الأعصاب المزمنة واضطراب الوسواس القهري (OCD).

واستحوذت أميركا الشمالية على الحصّة الأكبر من مبيعات هذه الأدوية لعام 2020 في كل الولايات المتحدة، ويتوقّع أن تستمر هيمنتها خلال السنوات المقبلة بسبب ارتفاع معدل انتشار اضطراب الاكتئاب، وزيادة عدد الموافقة على الأدوية المضادة للاكتئاب، ووجود اللاعبين الرئيسيين في هذه الصناعة، والتطوير في أنشطة البحث والتطوير في قطاع الرعاية الصحية في المنطقة.

ويتوقع أن تسجّل منطقة آسيا والمحيط الهادئ، معدّل نموّ سنوي مركّب نسبته 4.9% في الفترة من 2021 إلى 2030 بسبب انتشار الاضطرابات النفسية، وزيادة الوعي بالاكتئاب، والنموّ في نفقات الرعاية الصحية، وزيادة عدد التجارب السريرية.

اضف تعليق