نحن ورثنا تاريخا ثقيلا من الدكتاتورية على مر التاريخ، وهذه التجارب القاسية علينا أن نستفيد منها ونعوض عنها بالتنبيه والتذكير الدائم للجميع، بما فعلته الدكتاتورية بنا وبأجيالنا السابقة واللاحقة، وما علينا سوى رفض المقولات التبريرية الفاشلة حين تحاول أن تدعم الظالمين والفاسدين، وعدم تقديم الدعم والمساندة، لهم حتى نبني حاضرا متطورا ومستقبلا...
في حياتنا متناقضات كثيرة، وتضارب مصالح، وتباعد وتقارب، ووضوح، واختلاط أوراق، مما يستدعي نباهة عالية من الإنسان، حتى تكون رؤيته صحيحة وسليمة، ولا تختلط عليه الأمور، ولا ينساق وراء الخطأ جاهلا أو عارفا.
في ظل أنظمة البطش والقمع يتحجج كثيرون بأنهم مضطرين لمعاونة الطاغوت، وأنهم مأمورون بما يفعلون، حتى لو كانت أفعالهم وأعمالهم تدعم الطاغية وتقوي من شوكته ضد الناس، فكل عمل وفعل بل وحتى قول يدعم الظالمين لا يمكن تبريره، وإنه يبقى في خانة الخطأ وأن من قام به سوف ينال عقابه عليه طال الوقتُ أن قَصُر.
معاونة الطاغية أو الظالم تبقى في دائرة المحاذير، وينسحب ذلك على كل المجالات، والمستويات العملية والوظيفية المتباينة، فحين يكون مدير المدرسة مثلا ظالما، لا يجب أن يصطف إلى جانبه المعاون أو المعلم ويبرر عمله الخاطئ بحجة أنه مدير وعليه أن يدعمه أما الطلاب أو غيرهم، وينسحب هذا على مدير الدائرة والجامعة والمصنع وحتى على بربّ الأسرة، فمن يظلم الآخرين بسبب موقعه القيادي لا يصح دعمه.
الدعم يُقبل ويكون صحيحا عندما يكون القائد أو المدير صالحا وعادلا، في هذه الحالة لن يكون هناك ظلم، وكل الأعمال التي يقوم بها المأمور يُجزى عليها، أما مقولة (المأمور معذور) في ظل القادة غير الصالحين فإنها ليست صحيحة ولا نافعة ولا مقبولة.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (يا أباذر):
(بعض الظالمين يردّد مقولة «المأمور معذور» وهي مقولة خاطئة إذا اُريد منها الإطلاق، ولا تكون مقبولة إلاّ في منطق الطغاة، كفرعون ويزيد وهارون العباسي، غير أنّ الأمر ليس على هذا النحو في منطق الرسول المصطفى صلّى الله عليه وآله ومنطق القرآن الكريم ومنطق الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وعباد الله الصالحين).
المسؤولية في هذه الحالة سوف تتركز على أهمية معرفة من هو (الآمر) والتفريق بين كونه آمرا ظالما أم عادلا وصالحا، ففي حال يكون الآمر ظالما أو طاغيا أو منحرفا، لا يمكن أن تكون مقولة (المأمور معذور) صحيحة، ولا تُقبل كعذر لمن يعين الطاغية، أما إذا كان الآمر أو المسؤول الأول صالحا، فإن من يعاونه ويسانده وينفذ أوامره يستحق المجازاة والثواب بما يساوي ويعادل ما قدمه من مساندة، سواء كانت بالفعل أو القول.
فاقد الشيء لا يعطيه
جميع الأوامر مقبولة تحت أمرة قائد أو مدير أو مسؤول صالح، وعكسها تماما تأتي أوامر الظالم وغير الصالح في خانة الضد من صالح الناس، لذلك فهي مرفوضة لأن الآمر غير الصالح لا يمكن أن يُقدُم على أعمال صالحة لأنه غير قادر على ذلك انطلاقا من مبدأ (فاقد الشيء لا يعطيه)، لهذا لن يُجزى أحد على معاونة ظالم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(المهمّ مَن هو الآمر ومن يكون، وهل أمره حقّ؟ فعندما يكون المأمور كأبي ذر رضوان الله تعالى عليه والآمر الرسول الأعظم صلى الله عليه وآله، فهنا ليس المأمور معذوراً فحسب، بل هو مأجور أيضاً).
في مجتمعاتنا غالبا ما يحدث نوع من التداخل في الأفعال، لاسيما في قضية القيادة وما يلتحق بها ويُفرز عنها من قرارات وتطبيقات، لقد عانت دول إسلامية ومنها بينها العراق من أنظمة دكتاتورية متعاقبة قديما وحتى في تاريخ العراق الحديث، إبان الأنظمة العسكرية والانقلابية، لقد ترأس هذه الأنظمة طغاة بمعنى الكلمة، وحدثت في عهودهم عمليات ظلم لا يمكن نكرانها أو تغطيتها بأعذار من باب (المأمور معذور)..
ولهذا نحن نعاني اليوم من تلك الحقبة المستبدة وما تمخض عنها من إفرازات سياسية واقتصادية واجتماعية وحتى تربوية، ولا يزال الإنسان في بلادنا يئن من وطأة عهود وأنظمة أولئك الظالمين، لهذا يجب أن تُدرَس تلك الحقبة ويتم كشفها للجميع، حتى يعرفوا ماذا كان يجري وكيف يُقام الظلم والبطش على مدار الساعة، ومن هو الذي كان يدعم الطاغية ولماذا يقدم ذلك الدعم مع معرفته بأنه فعل خاطئ وحرام، ويعود عليه وعلى أهله بالضرر، لكن هذا النوع من البشر كانوا يبررون أفعالهم بأنهم مأمورون.
وإلى يومنا هذا لا يزال يوجد بين الناس من يعين الظالم على أخوانه وأهله، بل حتى على نفسه، مما يتوجب كشف هؤلاء، والتركيز على مثل هذه الأعمال غير الصالحة وغير المقبولة، لأنها تدمر الإنسان فردا أو مجتمعا، وعلينا الاستفادة من أخطاء الماضي البعيد والقريب، حتى لا تتكرر مأساتنا مع الظلم والاستبداد مرة أخرى.
كيف نستفيد من تجاربنا العصيبة؟
لذا علينا التنبيه بعضنا للبعض الآخر، بأن معاونة الفاسد مرفوضة، ومساندة الظالم غير مقبولة، ودعم الدكتاتور حتى لو كان بأدنى المناصب ليست صحيحة، وقد يتحجج بعضهم بأن أعمالهم صالحة، لكنها طالما تحدث في إطار دعم الظالم، فهي أعمال غير مقبولة كونها تقدّم دعما لمن يظلم الناس أو يتجاوز على حقوقهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(أما المأمور من ناحية سلطان الجور، فإنّ جميع أعماله ـ وإن كان ظاهرها صالحاً ـ هي في عداد الباطل والإثم).
الأمم والمجتمعات تسعى للاستفادة من تجاربها الماضية، وهو أسلوب معروف بين الجميع، ونحن من ضمنها، لابد أننا نستعيد تاريخنا بمفاصله المختلفة، حتى القريب أو المنظور منه، ولابد أن يعرف الناس أن العمل الذي يقدم دعما للظالم والفاسد والمستبد لا يُقبل منه، حتى الله تعالى يرفض معاونة الظالمين بحجج تقديم أعمال صالحة أو جيدة.
الجامع والمسجد والحسينية ودار الأيتام كلها دور عبادة وخدمة خيرية، وكلها تُعد في عرف البشر ونظرتهم لها بأنها صالحة، وهي بالفعل كذلك إذا كانت مجرّدة من الأهداف الخفية غير الحسنة، إن فضيلة بناء مسجد كبيرة جدا، كما يتم التأكيد على ذلك في الروايات والأحاديث الشريفة، ولكن حتى هذا العمل الكبير إذا حدث في إطار دعم قائد أو رئيس أو مسؤول ظالم وغير عادل، فإنه يعد من الأعمال التي لا يجب إنشاءها في ظل الظالمين لأنها تقدم دعما لهم.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(على سبيل المثال: لا فضيلة في الإسلام كعمارة المساجد؛ إذ ورد في القرآن الكريم والروايات الشريفة أنّ في بناء المساجد فضائل جمّة، ذلك لأنّها محالّ العبادة والدعاء والتوبة والاعتكاف وغير ذلك، لكننا نلاحظ أنّ الإمام جعفر الصادق سلام الله عليه يقول لأحد أصحابه: لا تُعنْهم - الطغاة والظلمة - على بناء مسجد).
يؤكد سماحة المرجع الشيرازي على خطورة هذه القضية، ونعني بها دعم الظالم من خلال إنشاء أو تقديم أي عمل جيد يُسجّل باسمه وفي عهده، فإنه ليس مقبولا، والمقبول هو العكس تماما، أن تتم معارضته وعدم تأييده، وكشف عيوبه أمام الناس وليس تجميل صورته وأفعاله، من خلال معاونته في هذا الفعل أو ذاك.
كما أكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) ذلك في قوله:
(إنّ القضيّة مهمّة للغاية وخطيرة، فحتّى إذا بنى شخص ما للظالم مسجداً أو داراً للأيتام أو حسينيّة، فلا يقبل منه، لأنّ عمله هذا يوجب تقوية ودعم المؤسّسة الظالمة على الصعيد الدعائي ومحاولة خداع الناس، ولذلك لُعنت بعض المساجد في بعض الروايات المرويّة عن أهل البيت عليهم الصلاة والسلام!!).
في الخلاصة نحن ورثنا تاريخا ثقيلا من الدكتاتورية على مر التاريخ، وهذه التجارب القاسية علينا أن نستفيد منها ونعوض عنها بالتنبيه والتذكير الدائم للجميع، بما فعلته الدكتاتورية بنا وبأجيالنا السابقة واللاحقة، وما علينا سوى رفض المقولات التبريرية الفاشلة حين تحاول أن تدعم الظالمين والفاسدين، وعدم تقديم الدعم والمساندة، لهم حتى نبني حاضرا متطورا ومستقبلا، يليق بمن عذبتهم الدكتاتورية والفساد كثيرا.
اضف تعليق