من له علم، ولا تقوى له، فإنّه في واقع الأمر لا يحقّق شيئاً في إطار التقدّم والتطوّر. الدنيا تصلح وتعمر بصلاح العالِم، وفساد العالم يعني خراب الدنيا وما فيها، لأنّ المفترض بأهل العلم أن يكونوا القادة الفعليين للحركة الإنسانيّة، فما بالك إذا فسد قادة المجتمع وأصبحوا يوجّهونه نحو الشرّ والفساد...
«صلاح العالِم صلاح العالَم، وفساد العالِم فساد العالَم»
«يا أبا ذر، يطلع قومٌ من أهل الجنة على قومٍ من أهل النار، فيقولون: ما أدخلكم النار وقد دخلنا الجنّة لفضل تأديبكم وتعليمكم؟ فيقولون: إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله».
الخطاب في هذا الفصل من وصيّة النبي صلى الله عليه وآله موجّه إلى أهل العلم.
يؤكّد الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه أنّ العلماء «أفضل الناس ـ أكثرهم فضيلة ـ إذا سلموا» وكانوا نزيهين مخلصين. ولكنّهم إن كانوا غير ذلك، فهم أسوأ الناس، ويكونون مصداقاً لقول النبي الأكرم صلى الله عليه وآله في هذه الوصية، حيث أشار إلى أنّهم سيساقون إلى جهنّم، ثمّ يرون بعض الناس من أهل الجنّة كانوا قد تربّوا وتأدّبوا على أيديهم فنجوا، فيتوجّه الناجون إلى هؤلاء عن سبب دخولهم النار، فيجيبونهم قائلين: «إنّا كنّا نأمر بالخير ولا نفعله».
صحيح أن نيل المراتب العلمية العالية وبلوغ درجة الاجتهاد بحاجة إلى مزيد من الجهد، ولكن بلوغ الفرد لمرتبة (الإنسانيّة) يحتاج إلى جهد أكبر.
لقد نُقل عن الشيخ الأنصاري رحمه الله بأن قال: «أن يكون المرء عالماً فذاك أمر مشكل، ولكن أن يكون إنساناً فذاك أمر أشكل»(1).
الشيطان وتزكية النفس
في قضيّة تزكية النفس والتحوّل إلى إنسان، ثمّة عدو لدود يسمّى الشيطان، وقد أقسم على عدم السماح لأيّ إنسان بالتقدّم والتطوّر فيما يتعلّق بالأمور المعنويّة، ولا ننسى أنّه لا قيمة للعلم وحياة ابن آدم عموماً دون إحراز التقوى والالتزام بقوانين السماء، ولذا قال أحد الشعراء معبّراً عن هذا المعنى الكبير:
لو كان للعلم من غير التقى شرف
لكـان أشــرف خــلق الله إبليــس
إنّ علم إبليس أكثر من علم الناس(2)، ولكنّه لا تقوى له، وتلك كانت مشكلته، ولذلك فإنّ من له علم، ولا تقوى له، فإنّه في واقع الأمر لا يحقّق شيئاً في إطار التقدّم والتطوّر الإنساني.
إنّ الشيطان لا يتربّص بالقتلة والسرّاق والمفسدين فحسب، وإنّما سخّر كلّ قواه وأسلحته لصدّ العلماء والصالحين أيضاً، بل إنّ اهتمامه بتخريب شخصيّة العالم أكبر بكثير من اهتمامه بسائر الناس، ذلك لأنّ العالَم برمّته قد يفسد بفساد العالِم. وقد قيل: «صلاح العالِم صلاح العالَم، وفساد العالِم فساد العالَم».
إنّ الدنيا تصلح وتعمر بصلاح العالِم، وفساد العالم يعني خراب الدنيا وما فيها، لأنّ المفترض بأهل العلم أن يكونوا القادة الفعليين للحركة الإنسانيّة، فما بالك إذا فسد قادة المجتمع وأصبحوا يوجّهونه نحو الشرّ والفساد؟!
وقد قال الله عزّ اسمه في القرآن المجيد:
(لقدْ مَنَّ اللهُ عَلى المؤمِنينَ إذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ يَتلُو عَلَيهِمْ آياتِه وَيُزَكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمْ الكتابَ والحكمةَ)(3).
فقدّم سبحانه التزكية على التعليم، لأنّ العلم من دون التزكية لا ينفع، وعلى المرء أن يكتسب القدرة لإصلاح نفسه، ومفتاح ذلك بيد الإنسان نفسه.
صفات النبي
ورد في كتاب (الإقبال) للسيّد ابن طاووس وبعض الكتب الأخرى حديث قدسيّ خاطب الله تعالى فيه أبانا آدم عليه السلام وبيّن له ثلاث صفات لنبيّ آخر الزمان صلى الله عليه وآله، فقال:
«لا فظٌّ، ولا غليظٌ، ولا سخّاب»(4).
وقال الله تعالى في القرآن العظيم مخاطباً نبيّه الكريم:
(فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ...)(5).
وقد قيل في معنى الفظّ والغليظ القلب: أنّ أحدهما يشمل الآخر، فإذا قيل: فظّ، شمل من كان غليظ القلب، والعكس صحيح، وهما في ذلك مثل كلمتي: الفقير والمسكين من حيث الاستخدام. ولكن إذا استخدما أي الفظّ والغليظ القلب معاً فيقصد بالفظاظة: الخشونة الظاهرية، وبغلظة القلب: الخشونة الباطنية.
قد تعترض المرء قضية يغضب جرّاءها كلّ الغضب، ويحمل بسببها الحقد، إلاّ أنّ ملامح الغضب لا تلوح على محيّاه، بل تراه يحافظ على هدوئه وابتسامته، فيقال لمثل هذا الشخص: غليظ القلب. وقد يحدث أن لا يغضب الفرد في باطنه، ولكنّه يُظهر على ملامحه الانزعاج، فيقال إنّه فظّ.
وفي الحديث القدسي المتقدّم الذكر تمّت الإشارة إلى ثلاث من صفات النبي صلى الله عليه وآله، وهي أنّه ليس فظّاً ولا غليظ القلب ولا مرتفع الصوت في الكلام. أي إنّ الرسول المصطفى كان رغم ما قد يتعرّض لما يزعجه ـ وهو كثير جداً ـ يحفظ احترامه في الظاهر، ولا شكّ أنّ هذه الصفة ليست نفاقاً أو مجرّد تظاهر، بل هي من خصائص وفضائل المؤمنين، وقد جاء في كلام أمير المؤمنين سلام الله عليه:
«المؤمن بِشره في وجهه، وحزنه في قلبه»(6).
فلا يجدر بالإنسان أن يظهر على لسانه كلّ ما في قلبه. فقد كان النبي صلى الله عليه وآله لا يحبّ العديد من أصحابه، وتارة يدلي ببعض الحديث لإتمام الحجّة، ولكنّه كان يهتمّ مطلق الاهتمام للمحافظة على كرامة الآخرين وصيانة الحدود، باعتبار أنّ الإنسان المؤمن لا يصحّ منه أن يبدي استياءه ـ بشكل مباشر على الأقلّ ـ لمن يشعر بالانزعاج تجاههم، وإنّما الفضيلة في عدم إظهار ذلك حتى آخر لحظة من لحظات العمر. أما إذا كان في الأمر ضرورة قصوى، كأن يكون ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فذلك مما لا إشكال فيه.
لا ينبغي للمؤمن أن يكون فظّاً، ونظرته يجب أن تكون نظرة لطيفة ودودة، وكذلك يجب أن يصطبغ حديثه بصبغة الليونة، وهذه الصفات بمستطاع الناس تحقيقها في أنفسهم، وهي قد تكون صعبة، ولكنّها غير مستحيلة.
تعاليم رسول الله
من الضروري جدّاً مطالعة سيرة النبي المصطفى صلى الله عليه وآله في جميع أبعادها السياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها.
وقد ورد في ذلك رواية عن المعصوم سلام الله عليه يصف فيها أخلاق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله بقوله:
«كان صلَّى الله عليه وآله خُلُقه القرآن»(7).
كما ورد أيضاً أنّ قوماً من هوازن جاءوا لحرب النبي صلى الله عليه وآله وصمّموا على إبادة المسلمين، وكان جمعهم كبيراً، ولكنّهم خسروا الحرب وهرب رجالهم وخلّفوا نساءهم وراءهم، وأُسِر منهم حوالي ستّة آلاف شخص، فما كان من النبي الكريم إلا أن أطلق سراحهم جميعاً دون أن يتقاضى عن ذلك درهماً واحداً أو يشترط شرطاً، الأمر الذي دفع بكثير من اليهود والنصارى والمجوس إلى اعتناق الإسلام، وهذا نموذج من فضائل النبي صلى الله عليه وآله(8).
إنّ الأخلاق ليست بالبشر وحده، فرغم ما هو متعارف اليوم عن فضيلة طلاقة الوجه، ولكن هذه الخصلة لا تمثّل بمفردها خُلُق الإسلام.
لقد كان جميع أسرى هوازن مشركين، ولكن النبي صلى الله عليه وآله كان رحمة للعالمين جميعاً وليس للمسلمين والأقارب، وبناءً على ذلك أمرنا القرآن الكريم بأن نتّخذ نبيّ الإسلام قدوة وأسوة حسنة، وتلك كانت أخلاقه بعد الحرب.
فإذا كانت هذه أخلاق النبي صلى الله عليه وآله فهل يصحّ من مسلمَين تخاصما جرّاء خلافٍ ما قد زالت أسبابه، أن يظلاّ متخاصمَين طيلة عمرهما؟ وهل هذا يمثّل الأخلاق الإسلامية؟
رسول الله في أحد
لقد عانى النبي صلوات الله عليه وآله أشدّ المعاناة في معركة أحد، عندما ضربه أحد المشركين فأصاب أسنانه بحجر فكسر رباعيّتيه، فيما أصابه آخر في جبهته المقدّسة فجرحها حتى جرى دمه الطاهر على وجهه المبارك، كما انشقّت شفته وجرحت يده، وبعد أن وضعت الحرب أوزارها وغادر الجميع ساحتها، تألّم الصحابة للمنظر الدامي للنبي، واعتصرت لذلك قلوبهم، فقالوا له: يا رسول الله، إنّك مستجاب الدعوة، فادعُ على الكفّار والعنهم. ولكنّه ردّ على ذلك بالقول: «إنّي بُعثتُ رحمةً» ثم دعا الله ربّه مبتهلاً: «اللهمّ اهدِ قومي؛ فإنّهم لا يعلمون»(9).
عقّب القاضي نور الله التستري رحمه الله بعد نقل هذه الرواية بإيراد عبارة لطيفة تنمّ عن الفطنة وعمق التحليل، فقال: إن رفض شخص أن يلعن غيره، فإنّه يختار الصمت على الأقلّ، إلا أنّ النبي وفضلاً عن عدم لعنه ألدّ أعدائه، فقد دعا لصالحهم وطلب من الله تعالى لهم الهداية، وهم الذين يستحقّون الدخول إلى جهنم.
يقول أكثر الناس: إنّ الإساءة من العدوّ مفهومة ويمكن تحمّلها، ولكن الإساءة من الصديق لا يمكن تحمّلها بحال ـ وهي مغالطة شائعة في المجتمع ـ بينما نرى النبي صلى الله عليه وآله لا يوجّه الإساءة والإهانة حتى إلى أعدائه.
يقول القاضي نور الله: لم يتوجّه النبيّ باللعن، بل طلب للكفّار المعذرة إلى الله تعالى وقال: إنّهم لا يعلمون.
نموذج آخر لسماحة النبي الأعظم
ذُكر أنّ أحد المشركين، وكان يدعى غورث بن حارث ـ واسمه كان شائعاً في أيّام الجاهلية، ويعني جائع ـ رأى النبي المصطفى صلى الله عليه وآله مستلقياً في ظلّ شجرة، فوصل عنده حتى وقف فوق رأسه وشهر سيفه وقال له: من ينقذك منّي يا محمد؟
فأجابه النبي من فوره: «الله» وقفز من مكانه، حتى انزلقت قدم غورث وسقط السيف من يديه، فسارع النبي إلى السيف ورفعه بوجه غورث وقال له: «الآن من ينقذك منّي؟» فأبدى ندمه على ما صدر منه سلفاً وقال للنبيّ: إحسانك يا محمّد!
فتنحّى النبي جانباً وعفا عنه، فأسلم غورث على يديه الكريمتين، ثمّ عاد إلى قومه وقال لهم: لقد عُدت من عند أفضل خلق الله(10).
أجل، لقد كانت أخلاق الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله من العظمة بحيث أذعن لها واعترف بعظمتها أعتى أعدائه، وحقيقة الأمر تشير إلى نوع من إتمام الحجّة الإلهية، فلا يكون ثمّة عذر لأحد في يوم القيامة: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ)(11).
اضف تعليق