الدنيا تصلح وتعمر بصلاح العالِم، وفساد العالِم يعني خراب الدنيا وما فيها، لأنّ المفترض بأهل العلم أن يكونوا القادة الفعليين للحركة الإنسانيّة، فما بالك إذا فسد قادة المجتمع وأصبحوا يوجّهونه نحو الشرّ والفساد؟! فقدّم سبحانه التزكية على التعليم، لأنّ العلم من دون التزكية لا ينفع، وعلى المرء...
مقدمة اجتماعية
الإنسان هو اللَّبِنَات التي تعمِّر المجتمعات البشرية، فهو كقطع الحجارة تماماً في البناء الحضاري، فقوة ومتانة البناء يتوقف على جودة وصلاح وصلابة وجمال الأحجار التي يُبنى منها هذا البناء، ولهذا تجد أن الإنسان الصالح هو غاية الحياة، وهدفها الأول.
وربما هو ما تُشير إليه بعض الأحاديث القدسية المروية في تراثنا الإنساني الراقي، فقد روي عنه تبارك وتعالى: (عبدي خلقتُ الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي، وهبتك الدنيا بالإحسان، والآخرة بالإيمان)، فأنتَ إنسان الله وخليفته في عمارة هذه الأرض التي استخلفك فيها، وأمكنك منها، وأقرَّك عليها، لتكون لله وحده فتطيعه في كل ما أمرك، ونهاك، وذلك لأجلك أنت لتكون لائقاً في العودة إليه بعد رحلتك الشاقة في هذه الحياة الدنيا التي جعلها الله لك دار ممر لا دار مقر، وهي قاعة امتحان واختبار كبرى لك وصدق أصدق القائلين: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) (العنكبوت: 3)
فأنتَ إذا أطعتَ الله فيما أمرك أطاعك الله فيما طلبت منه، وذلك لأنه ربك وخالقك وراعيك ورازقك، وهو الغني عنك بالمطلق، وأنت الفقير إليه حتى بوجودك، وطعامك، وشرابك، ونَفَسك، فقد روى الشيخ البرسي في الحديث القدسي: (عبدي أطعني أجعلك مثلي؛ أنا حيٌّ لا أموت أجعلك حياً لا تموت، أنا غنيٌّ لا افتقر أجعلك غنياً لا تفتقر، أنا مهما أشاء يكون أجعلك مهما تشاء يكون). (الجواهر السنية؛ الحر العاملي: ص361)
والطاعة هي ترجمة واقعية لواقع عبوديتك لله تعالى، فأنتَ خُلقتَ لتكون عبداً لله فقط، وحراً أمام كل المخلوقات، فالعبادة شرف كبير لك أيها العزيز، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) (الذاريات: 58)، فالتكليف لك تشريف منه تعالى ولو شاء لجعلك مجنوناً لا تعي يمينك من يسارك ولأسقط عنك كل التكاليف ولكن هل كنت ستكون إنساناً كما تحب وترغب؟
فعندما تكون كلك لله يكون الله سبحانه سمعك، وبصرك، ويدك، وكل شيء فيك لأنك أنت اخترت أن تكون محلاً لمشيئة الله تعالى، فعن رسول الله (صلى الله عليه وآله): قال الله عز وجل: (ما تقرَّب إليَّ عبد بشيء أحبُّ إليَّ مما افترضتُ عليه، وإنه ليتقرب إليَّ بالنافلة حتى أحبه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته).
فعندما يُدرك الإنسان هذه الحقيقة واللطيفة الرقيقة، من عظمة ووجوب طاعة الله وحده دون سواه ويتوجَّه إليه بإخلاص من أجل الخلاص من هذه الدنيا وعلائقها، وامتحاناتها، وابتلاءاتها، وشياطينها التي جعلهم الله لنا أكبر وأعظم امتحان، لأنه سلَّطهم علينا فهم يجرون فينا مجرى الدم في العروق، ويُزيِّنون المعاصي، ويُسوِّفون التوبة، ويُبعدون الإنسان عن الطاعة، وأن يُؤدي حق العبودية لخالقه، ولذا ورد في الحديث القدسي: (خلقتُ عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيري).
فتحوَّل الإنسان من إنسان الله إلى إنسان الشيطان، ومن عبد الخالق لعبد للمخلوق، فصرف طاعته وعبادته إلى معبودات حجرية وبشرية وشجرية وراح الشيطان والهوى يتلاعبون به كقشة يابسة في مهب الريح، فصارت حياته جحيماً لا يطاق، ومعيشته تعب وضنك ونصب، كما قال خالقه سبحانه: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى) (طه: 126)
فلماذا يُطيع الإنسان عدوَّه الشيطان، ويترك طاعة ربه الرحمن؟
دور الأنبياء والأوصياء (ع)
هنا يأتي دور الأنبياء والأوصياء من بعدهم بحيث كلما خرج الإنسان عن جادة الحق والصواب من طاعة الله بعث إليه نبياً أو رسولاً وأنزل عليهم كتبه ليُعيدوهم إلى جادة الحق والصواب، لأن الله تعالى يريد لنا اليسر ولا يريد بنا العسر، ويريدنا أن نكون له وحده لا للشيطان ولا لأي إنسان وهذا هو جوهر الدين منذ أن أنزل الله آدم على هذه الأرض واستخلفه عليها، فكل دعوة دينية جاءت من السماء هي اجتماعية بامتياز ولأجل الإنسان الفرد، والإنسان كمجتمع، والإنسان كحضارة يعيش في ظلها بشرفه وكرامته وعبوديته المطلقة لله لا لسواه، فالدعوة السماوية والدين كله واحد من عند الواحد الأحد ولكن كان متدرجاً ليتلاءم مع تقدم الإنسان وتطوره الفكري.
وجميل ما قاله أمير الكلام وفتى الإسلام في بيانه لهذه الحقيقة حيث قال أمير المؤمنين الإمام علي (ع) في نهج البلاغة: (وَاصْطَفَى سُبْحَانَهُ مِنْ وَلَدِهِ أَنْبِيَاءَ، أَخَذَ عَلَى الْوَحْيِ مِيثَاقَهُمْ، وَعَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ أَمَانَتَهُمْ، لَمَّا بَدَّلَ أَكْثَرُ خَلْقِهِ عَهْدَ اللَّهِ إِلَيْهِمْ فَجَهِلُوا حَقَّهُ، وَاتَّخَذُوا الْأَنْدَادَ مَعَهُ، وَاجْتَالَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ عَنْ مَعْرِفَتِهِ، وَاقْتَطَعَتْهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِ؛ فَبَعَثَ فِيهِمْ رُسُلَهُ، وَوَاتَرَ إِلَيْهِمْ أَنْبِيَاءَهُ؛ لِيَسْتَأْدُوهُمْ مِيثَاقَ فِطْرَتِهِ، وَيُذَكِّرُوهُمْ مَنْسِيَّ نِعْمَتِهِ، وَيَحْتَجُّوا عَلَيْهِمْ بِالتَّبْلِيغِ، وَيُثِيرُوا لَهُمْ دَفَائِنَ الْعُقُولِ، وَيُرُوهُمْ آيَاتِ الْمَقْدِرَةِ؛ مِنْ سَقْفٍ فَوْقَهُمْ مَرْفُوعٍ، وَمِهَادٍ تَحْتَهُمْ مَوْضُوعٍ، وَمَعَايِشَ تُحْيِيهِمْ، وَآجَالٍ تُفْنِيهِمْ، وَأَوْصَابٍ تُهْرِمُهُمْ، وَأَحْدَاثٍ تَتَابَعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يُخْلِ اللَّهُ سُبْحَانَهُ خَلْقَهُ مِنْ نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، أَوْ كِتَابٍ مُنْزَلٍ، أَوْ حُجَّةٍ لَازِمَةٍ، أَوْ مَحَجَّةٍ قَائِمَةٍ، رُسُلٌ لَا تُقَصِّرُ بِهِمْ قِلَّةُ عَدَدِهِمْ، وَلَا كَثْرَةُ الْمُكَذِّبِينَ لَهُمْ مِنْ سَابِقٍ سُمِّيَ لَهُ مَنْ بَعْدَهُ أَوْ غَابِرٍ عَرَّفَهُ مَنْ قَبْلَهُ؛ عَلَى ذَلِكَ نَسَلَتِ الْقُرُونُ، ومَضَتِ الدُّهُورُ، وَسَلَفَتِ الْآبَاءُ، وَخَلَفَتِ الْأَبْنَاءُ). (نهج البلاغة: خ1)
هذا هو العلم الحق، والنظرة الواقعية للحياة البشرية برمتها، فهي مخلوقة لهدف سامي، وليست عبثاً، فهدف الحياة وغايتها الإنسان الصالح المصلح، وهدف الإنسان وغايته الجنة ورضا الرب سبحانه وتعالى، ولا يتحصَّل له ذلك إلا بالطاعة لله وما جاءت به أنبياءه ورسله، لا سيما خاتمهم وسيدهم صاحب الرسالة الخاتمة والكتاب الجامع لكل كتب السماء والدين الذي هو أكمل وأشمل الأديان وأوسعها تنظيماً وضبطاً للحياة البشرية كلها.
فلماذا يُضِّع الإنسان نفسه وعمره القصير بهدف حقير، أو عمل تافه يؤدي به إلى النار وغضب الجبار، فيخسر نفسه وحياته الأبدية لمعصية واتباع هوى النفس أو الشيطان الرجيم، والجدير بالإنسان أن يصرف همته وعمله بما هو منسجم مع غايته وطاعته لربه، يقول سماحة المرجع الديني الكبير السيد صادق الشيرازي (دام ظله): "أنّ علينا التفكير والسعي دائماً لأن نصرف أعمارنا فيما خلقنا الله تعالى من أجله وما هو سائلنا غداً عنه".
يقول الإمام (صلوات الله وسلامه عليه) بعد ذلك: (واستعمِلني بما تسألني غداً عنه)؛ أي: وفّقني لأن أتفرّغ للأعمال التي ستسألني عنها غداً، ويبدأ الغد عند كلّ إنسان من ساعة موته ويستمرّ حتى الآخرة والدار التي يقول الله تعالى عنها: (هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ).
فلا بدّ أن تحضِّر جواباً حين يسألك الله سبحانه وتعالى في اليوم الآخر... فلن تُسأل: لماذا لم تأكل الأطيب أو تلبس الأنعم أو تركب الأسرع أو تختار ما هو أغلى للعيش وأجمل؟ إني لم أر في الأدلّة الشرعية أنّا سنُسأل يوم القيامة أسئلة من هذا القبيل". (حلية الصالحين)
أعداء الإنسان
ولعلماء الأرواح والأديان منطقهم إذ يقولون: أن أعداء الإنسان ثلاثة هي:
1- الشيطان الرجيم.
2- النفس الأمارة بالسوء.
3- الهوى أو الأهواء النفسية، والجري خلف الملذات الدنيوية..
هؤلاء الأعداء متضافرة ومتعاونة مع بعضها البعض لحرف الإنسان عن خط الله وصراطه المستقيم إلى أي طريق وخط منحرف يُبعده فيها عن طاعة الله ليرميه إما في مصيدة الشيطان، أو النفس، أو الهوى، وفي أي واحدة سقط فإنه سيسقط من عين الله ويصير مطية للشيطان، وهذا ما نبَّه عليه سماحة السيد صادق الشيرازي (حفظه الله) بقوله شارحاً ومعلِّقاً على رواية الإمام الصادق (عليه السلام) التي يقول فيها: (احذروا أهواءكم كما تحذرون أعداءكم، فليس شيءٌ أعدى للرجال من اتّباع أهوائهم) (الكافي: ج2 ص335)
فإذا كان للإنسان عدوّ خطير، وأراد أن يتجنّب شرّه، فإنّه يحذره في مجلسه، فتراه يجمع كلّ انتباهه، وينظر إليه بعين الحذر وإن كان منشغلاً بالتحدّث إلى غيره أو يقرأ كتاباً، وربّما يتساءل في نفسه عن سبب مجيئه إلى المجلس، أيريد به سوءاً، أم كان مجيئه صدفةً؟ كذلك يحذره أينما يراه، وإذا ما قدّم له طعاماً، فإنّه يتأنّى ويتوجّس، وإذا دعاه إلى مكان، يتثبّت ويوجل، وهكذا. فكذلك ينبغي أن يكون الأمر مع الهوى الذي هو أعدى أعداء الإنسان، بمعنى ضرورة التثبّت منه واليقظة لدى أيّ عمل يقوم به الإنسان أو كلمة يتفوّهها، لئلاّ تكون مشوبة بالهوى".
ثم يقول سماحته: "فإنّ أسوأ ما يتعرّض له الإنسان من أعدائه أنّ العدوّ يقضي على جزء من حياته، فيُحرمه ـ مثلاً ـ سنين معدودة من عمره، بينما الهوى ـ وهو أعدى الأعداء ـ في حال استرسل الإنسان معه، تاركاً له العنان، يحطّم كلّ حياته، حتى يأخذ بآخرته مع دنياه، روي عن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) أنّه قال: (أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى وطول الأمل، فأمّا اتّباع الهوى فيصدّ عن الحقّ، وأمّا طول الأمل فينسي الآخرة) (نهج البلاغة: ج1 ص92) (العلم النافع: ص218)
ويقول في مكان آخر من دروسه الأخلاقية راقية: "في قضيّة تزكية النفس والتحوّل إلى إنسان، ثمّة عدو لدود يُسمّى الشيطان، وقد أقسم على عدم السماح لأيّ إنسان بالتقدّم والتطوّر فيما يتعلّق بالأمور المعنويّة، ولا ننسى أنّه لا قيمة للعلم وحياة ابن آدم عموماً دون إحراز التقوى والالتزام بقوانين السماء، ولذا قال أحد الشعراء معبّراً عن هذا المعنى الكبير:
لو كان للعلم من غير التقى شرف *** لكـان أشــرف خــلق الله إبليــس
إنّ علم إبليس أكثر من علم الناس(العاديين)، ولكنّه لا تقوى له، وتلك كانت مشكلته، ولذلك فإنّ مَنْ له علم، ولا تقوى له، فإنّه في واقع الأمر لا يحقّق شيئاً في إطار التقدّم والتطوّر الإنساني.
إنّ الشيطان لا يتربّص بالقتلة، والسرّاق، والمفسدين فحسب، وإنّما سخّر كلّ قواه وأسلحته لصدّ العلماء والصالحين أيضاً، بل إنّ اهتمامه بتخريب شخصيّة العالم أكبر بكثير من اهتمامه بسائر الناس، ذلك لأنّ العالَم برمّته قد يفسد بفساد العالِم، وقد قيل: "صلاح العالِم صلاح العالَم، وفساد العالِم فساد العالَم".
إنّ الدنيا تصلح وتعمر بصلاح العالِم، وفساد العالِم يعني خراب الدنيا وما فيها، لأنّ المفترض بأهل العلم أن يكونوا القادة الفعليين للحركة الإنسانيّة، فما بالك إذا فسد قادة المجتمع وأصبحوا يوجّهونه نحو الشرّ والفساد؟! وقد قال الله عزّ اسمه في القرآن المجيد: (لقدْ مَنَّ اللهُ عَلى المؤمِنينَ إذْ بَعَثَ فيهِمْ رَسُولاً مِنْ أنْفُسِهمْ يَتلُو عَلَيهِمْ آياتِه وَيُزَكّيهِمْ وَيُعلِّمُهُمْ الكتابَ والحكمةَ) (آل عمران: 164)
فقدّم سبحانه التزكية على التعليم، لأنّ العلم من دون التزكية لا ينفع، وعلى المرء أن يكتسب القدرة لإصلاح نفسه، ومفتاح ذلك بيد الإنسان نفسه". (يا أبا ذر: ص102)
فأنتَ – أيها الإنسان – صاحب القرار، ففيك الخصام وأنت الخصم والحكم، فإما أن تطيع ربك، وتسير في طريقه، أو تطيع هواك ونفسك الأمارة فتسير في طريق الشيطان، ولذا قال سبحانه لنا مرشداً وآمراً، والعجيب أنها وردت خمس مرات في أربع آيات لو استعرضناها لتبيَّن لنا ما هي خطوات الشيطان الرجيم التي يستخدمها لإيقاع الناس في المعصية، فهي:
1- الأكل الحرام؛ وهي الكارثة التي تفتك بالمجتمعات البشرية، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 169)
2- الحروب والقتال بغير حق؛ وهي آفة الحضارة الرقمية اليوم، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (البقرة: 208)
3- الترف والبطر والتبذير والإسراف بالنعم؛ كما نشهد في دول العالم الغنية الآن، قال تعالى: (وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (الأنعام: 142)
4- الفساد في الأرض؛ بإشاعة الفحشاء والمنكر وكل أنواع الفساد القيمي والأخلاقي، كما نرى ونشهد في هذا العصر الرقمي الذي يريدون أن يُخرجوا الناس من فطرتهم، بما يُشيعونه من مفاسد كالمثلية، والإباحية، وحتى الزواج بالحيوانات، قال سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 21)
هذه هي الخطوط العريضة لخطوات الشيطان التي يستجر الإنسان إليه ليوقعه في فخِّه ليُطرد من رحمة ربه كما طُرد هو منذ البداية، وأعلنها علينا حرباً شعواء لا ذنب لنا فيها إلا أننا أبناء آدم (ع) الذي امتحنه الله به فسقط في الإمتحان وطرد من الرحمة، فأخذ على نفسه عهداً وأقسم على ذلك بعزة الله سبحانه أن يسقطنا جميعا في امتحاننا في هذه الدنيا: (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) (سورة ص: 83)
وقال متحدياً: (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ) (الأعراف: 17)
فمن ذلك اليوم أعلن الشيطان لنا العداوة جهاراً نهاراً وقال ربنا سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) (فاطر: 6)
والتدقيق في الآيات الكريمة تجد أنها متوجه للناس (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) فهنا الحديث يشمل البشر كلهم ولا يخص أصحاب دين أو قومية أو عنصر معين بل الشيطان عدو كل البشر، ولكن يا حسرتا عليهم فقد أضلَّهم الشيطان وأخذهم وأبعدهم عن طريق الحق والصدق والرحمن، فخسروا الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين.
الأخلاق عطر الحياة الاجتماعية
فالدِّين له صبغة اجتماعية وهدفه النهائي صناعة الإنسان التقي النقي، والحضارة الإنسانية بقوانينه التي شرَّعها الخالق لتقويم وضبط حركة الإنسان الرباعية في مسيرته الدنيوية وهي:
1- تجاه ربه وخالقه.
2- تجاه نفسه وروحه.
3- تجاه أخيه في الإنسانية.
4- تجاه الحياة والأشياء من حوله (الأرض وما فيها من حجر وشجر وحيوان وماء وهواء).
هذه القوانين كلها واضحة ومشرَّعة في الدِّين الإسلامي، وكلها مبنية على أساس العدل في الحكم، والقسط في المجتمع، والفضيلة الأخلاقية في الحياة، فما يُميِّز القانون والدِّين الإسلامي هو هذه المنظومة القيمية الأخلاقية التي تمثَّلها رسول الله (ص) حتى قال سبحانه بوصفه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، ورسول الله (ص) جعلها سبباً لبعثته الشريفة في حديث المشهور: (إنما بعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق)، فلإسلام مبني على الأخلاق والفضائل والقيم، وأينما حلَّ الإسلام نشر هذا الطيب، وهذا العبير في الناس من حوله، ولذا أكثر الدول والشعوب والأمم دخلت في الإسلام حباً بقيمه وأخلاقه وإنسانيته الراقية جداً، فقد ورد: (الإنسان عبد الإحسان)، والإسلام جعل من الإحسان درجة عالية بعد الإسلام والإيمان لما للإحسان من مكانة في الفكر الإسلامية، والحياة الاجتماعية فيه التي بُنيت على أساس الأخوة في الله.
عطر المدرسة الشيرازية
وهنا نرجع ونستذكر المدرسة الشيرازية المباركة التي قلنا: بأن أعظم وأكثر ما يُميِّزها هي الأخلاق قولاً وعملاً، فكراً وممارسة، وهذا سماحة السيد المرجع الديني الكبير والمربي الأخلاقي الخطير، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يطفح وجهه الشريف بشراً وبشاشة وأخلاقاً فاضلة تسحرك – كما يقولون عنه – وليس هو كشخص ومرجع بمهابته ومكانته، بل بيته المكرَّم في قم المقدسة إذا دخلت فيه تشتم منه رائحة مميزة، هو الأخلاق، والفضيلة، فتشعر من لحظة دخولك إلى أعتابه أن الوجوه تغيَّرت، فكلها بشوشة، ضاحكة مستبشرة، تتلقاك بالهلا والترحيب، وأحسن الضيافة، مع البساطة والتواضع والسكينة.
هذا ما تحسه وتشعر به في البيت المكرم، وأما عندما تدخل إلى الغرفة الخاصة لسماحة السيد وتراه كيف يبسط وجهه الشريف للجميع ويتلقاهم ببسمته وبشاشته وسلامه ويوزع عليهم حتى نظراته وبسماته ويلتقي الجميع، ويستمع منهم وينصحهم، ويهدي لهم بعض الهدايا المادية والمعنوية وتراه فرحاً بزواره أكثر من فرحهم به، وهذا العطر الذي يسحر كل مَنْ يدخل على بيت السادة الشيرازية، أو يجلس معهم ولو للحظات معدودات.
كم الأمة الإسلامية، بل العالم والإنسانية اليوم بحاجة إلى هذا العطر الفوَّاح من هذه المدرسة المباركة، التي يطفح منها عبير الفضيلة، وتنشر عبق الأخلاق، في محيطها الصغير، حيث الطلاب والأتباع والمحبين والموالين، ولكن هي تعمل لنشر هذه الرائحة الطيبة في كل المجتمعات البشرية بالدروس والمحاضرات والكتب والمقالات ونشرها في كل مناسبة بما لديها من إمكانيات مقتدية برسول الله (ص) المثال الأعلى، وبأهل بيته الأطهار (ع) الذين تأدَّبوا بآداب الله ورسوله، ثم أدَّبوا أبناءهم وشيعتهم على تلك الآداب الراقية لينشروها في كل مكان وزمان، فمتى يأتي اليوم الذي ينتشر هذا العطر القيمية، والعبير الأخلاقي في العالم أجمع؟
ومتى ننشر في العالم كله هذه الروائح العطرة من سيرة ومسيرة محمد وآله الأطهار (ع)؟
تلك هي مسألة المسائل التي يتطلع إليها العالم أجمع في هذا العصر الأغبر الذي داست فيه الآلة العملاقة للحضارة الرقمية على كل الفضائل والقيم، وصارت الإنسانية في ضنك عيش فالجميع يضجون إلى الله ويدعونه طلباً للمخلص الموعود، وهل من مخلِّص إلا من هذا البيت الطاهر والنسل الطاهر لآل محمد (صلوات الله عليهم)؟
اللهم عجل لوليك الفرج وسهل له المخرج لينشر في العالم عطر الرسالة وطيب الأخلاق المحمدية والعلوم العلوية فينعم الناس بالسعادة وراحة البال.
اضف تعليق