في مسيرة حياتنا الطويلة والمعقدة، لابد أننا التقينا بكثير من الناس، يختلفون بعضهم عن بعض في الكلام والعمل وطبيعة الشخصية والتفكير والأمزجة، وما إلى ذلك من طِباع كثيرة تطبع هذا الإنسان أو ذاك، كذلك مما يثير الانتباه أننا سريعا ما نرتاح إلى الأقوال الجميلة التي تسر السمع والنفس...
(إنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
في مسيرة حياتنا الطويلة والمعقدة، لابد أننا التقينا بكثير من الناس، يختلفون بعضهم عن بعض في الكلام والعمل وطبيعة الشخصية والتفكير والأمزجة، وما إلى ذلك من طِباع كثيرة تطبع هذا الإنسان أو ذاك، كذلك مما يثير الانتباه أننا سريعا ما نرتاح إلى الأقوال الجميلة التي تسر السمع والنفس، وننظر إلى قائلها بكثير من الإعجاب والاطمئنان.
هذا أمر بديهي وقد اختصره الحديث الشريف (الكلمة الطيبة صدقة)، ولكن ماذا لو كان القائل لا يلتزم بما يقول، أو بمعنى آخر، ماذا لو كان الإنسان يناقض ما يقوله بأفعاله وأعماله وسلوكياته، أي أنه يتكلّم ويتلفّظ بأقوال غاية في الجمال لكنها لا يطبقها في أعماله، ليس هذا فحسب، وإنما يطالب الآخرين بتطبيقها، أما هو فغير مشمول بتطبيقها عمليا، لأنه لا يلزم نفسه بها!!
هل يجوز مثل هذا الأمر؟؟، وهل هو أمر مقبول من إنسان يقول الجميل الجيد ولا يعمل به، من باب أولى أن من يتكلم جميلا يكون مؤمنا بكلامه، وهذا الإيمان يتأتى عن قناعة، والأخيرة لابد أن تدفع به للعمل بما يقوله من ألفاظ جيدة، لكن مع ذلك يوجد في حياتنا أناس يلفظون الجميل ولا يعملون به، وهذه مفارقة عجيبة حقا، لكنها موجودة، وقد يكون وجودها على نطاق واسع في مجتمعات يكثر فيها التناقض.
السؤال ما هو السبب الذي يدفع الإنسان في هذا الاتجاه؟، أي يقول الجيد ولا يعمل به أو لا يطبقه، مثال ذلك وعود المسؤولين الكثيرة للناس ولكن تبقى أقوالا غير قابلة للتطبيق، هناك نوعان من الأقوال، بعضها تقوله من قلبك، وهذا هو الذي تقوله وتعمل به، والنوع الثاني يُلفَظ بعيدا عن القلب، أي أن الإنسان يقوله بلسانه ولا يؤمن به بقلبه كما أنه لا يؤثر في الآخرين، وهذا هو القول الذي لا يطبقه صاحبه ولا يحوّله من لفظ إلى عمل.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كتابه القيّم الموسوم بـ (العلم النافع):
(إنّ القول الذي لا يعمل به صاحبه لا يكون منبعثاً من القلب، وما لم يكن منبعثاً من القلب لا يقع في القلب، أي لا يؤثّر غالباً).
التزام الأمانة عند الاقتباس أو التناصّ
بالطبع عدم تطبيق القائل لما يقوله، لا يمنعه من مواصلة نشر الكلام الجيد بين الناس، فهناك كلمات وجمل وألفاظ عبارة عن (حِكَم عظيمة) تنهض بالإنسان من قعر الجهل إلى قمم النور، وليس شرطا أن الأقوال مخصصة للتطبيق العملي فقط، فهناك قضايا معنوية لا تتحول إلى عمل ملموس بالحواس أو اليد مثلا، من هنا كان أئمة أهل البيت ينتقون كلماتهم انتقاءً لكي تفعل مفعولها في عقول وقلوب الناس، ولابد أن نذكر هنا بأن الكلام المنتقى بشكل سليم غيّر الكثير من العقول، ونظّف الكثير من النفوس من أدرانها وتعقيداتها.
الكلام الجميل سمة من سمات أئمة أهل البيت عليهم السلام، والنهي عن السيّئات سنة من سننهم، وما أعظم ذلك حين يرتبط الكلام بالعمل، وهذا هو لبّ ما يذهب إليه أهل البيت (ع)، وينصحون به ويحثون الناس عليه، لذلك نلاحظ في كتب الحكمة، والفكر، وحتى التاريخ، أن الكثير مما ينسبه حكماء ومفكرون وكتاب لأنفسهم، هو وارد في أصله عند أئمة أهل البيت (ع)، فيأخذه مفكرون ومؤلّفون ويعيدون صياغته، ثم ينسبونه إلى أنفسهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ كثيراً من العبارات الجميلة التي تُنسب لبعض الحكماء أو المفكّرين ترى لها أصلاً في كلمات أئمّة أهل البيت سلام الله عليهم، فإن لم تكن بالنصّ فبالمعنى؛ ذلك أنّ أهل البيت سلام الله عليهم ما تركوا شيئاً حسناً وجميلاً إلاّ أمروا به ودعَوا إليه، وما من سيّئة إلاّ ذمّوها ونهوا عنها).
يبقى التطابق بين القول والعمل هو الهدف الأسمى، وهذا ما تحقّق بالفعل عند أئمة أهل البيت وعند الشخصيات التي استطاعت أن تلزم نفسها بما تقوله، لأن عملية إقران القول بالتطبيق تعدّ من الاختبارات العصيبة للإنسان، وهي حجر الأساس في نجاح المسؤول بمهماته أو فشله، والمسؤول هنا ليس القائد السياسي وحده، وإنما جميع المسؤوليات التي تُناط بقادة النخب، والمؤسسات والدوائر، حتى رب العائلة لا يُستثنى من ذلك، فهو مطالب بحسن الكلام والحرص الشديد في تطبيق ما ينصح به أبناءَهُ على نفسه أولا.
من هنا يستعين الكثير من العلماء والمفكرين وغيرهم، بأقوال كثيرة مسندة إلى أهل البيت (ع)، فأما يتم اقتباسها نصا، وأما يتم التصرف بها وفق صياغة لغوية أخرى، لكن الفكرة الأصلية تبقى متواجدة في الكلام المحوّر أو المصاغ بأسلوب وتركيب لغوي جديد، لكن الأمانة العلمية والأخلاقية تلزم الجميع بأن يذكروا مصادر اقتباساتهم، سواء كانت اقتباسات نصيّة أو أفكارا مأخوذة من الفكرة الأصل.
(لذلك يجد الباحث كلّ العبارات الصائبة والجميلة للحكماء مقتبسة من كلمات الرّسول وأئمّة الهدى عليهم الصلاة والسلام).
الأعمال أعلى صوتا من الأقوال
إذاً لابد من أن يحرص الإنسان، لاسيما القادة منهم أو المسؤولون في أي مهمة أو مهنة أو مركز كان، على أن يقدّم العمل الجيد في سلوكياته، لأن الناس أقرب إلى تطبيق التجارب والسلوكيات الفعلية أكثر من الكلام المجرّد من الفعل، لذلك جاء في القول المأثور (إن الأعمال أعلى صوتا من الأقوال)، وهذا ما يحتاجه عامة الناس لاسيما الشباب منهم، حين ينظرون إلى النموذج الأعلى فيسعون إلى تعلم الأعمال الحسنة منه.
وهذا ما يؤكد عليه سماحة المرجع الشيرازي، حين يركّز على أهمية جوة السيرة العملية للنموذج، أكثر مما يقوله من مواعظ أو إرشادات كلامية، وقد ثبت علميا أن الأطفال يتعلمون الأشياء إذا تم تقديمها لهم بشكل عملي أكثر من الشرح أو التفصيل بالكلام وحده.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إنّ الناس لا يكونون كما تقولون، بقدر ما يكونون كما تكونون، إنّهم يأخذون من سيرتكم أكثر ممّا يأخذون من أقوالكم).
وهذا قول واضح ومفهوم وفي غاية الأهمية، ومن الأفضل لمن يسعى لكسب الآخرين، أن يكون قدوة لهم بأعماله، وأن لا يقتصر ذلك على جودة الكلمات، أو على الكلام المعسول الذي يتضاعف تأثيره الإيجابي في حال تم إقرانه بالسلوك السليم.
حتى الإنسان النموذجي بالنسبة لنا، والذي نجد في شخصا مكتملا طيبا حاملا للأخلاق الحميدة، فإننا حين نتذكره بعد غيابه أو رحيله، فسوف تحضر أعماله الفعلية في ذاكرتنا أكثر من أقواله، ونتعلم من سيرته العملية أكثر من نصائحه النظرية، على الرغم من أهمية النصائح اللفظية وقدرتها على التأثير في توعية الناس إيجابيا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد على:
(إنّ الأشخاص الذين نراهم طيّبين ـ أو كنّا نراهم كذلك وانتقلوا إلى الدار الآخرة ـ إنّما تأثّرنا بسيرتهم أكثر ممّا تأثّرنا بكلماتهم، وما تأثُّرنا بكلماتهم إلاّ لأنّها طابقت أفعالهم. وبعبارة: إنّ كلماتهم التي نعتقد أنّها تتطابق مع سيرتهم هي التي أثّرت فينا وربّما غيّرتنا).
وبهذا من المهم أن يراعي الإنسان هذه الترابط الجوهري بين ما يقوله ويفعله، ويحرص على أن يقدم المثال العملي الجيد للناس، ولا بأس بعد ذلك في شرح ما يقوم به باللفظ، بمعنى يعمل الشيء الجيد أمام الناس كي تتعلم من عمله وتقلده فيه، ثم تستقبل شرحه بالكلام برحابة صدر، أما أن نقول شيئا لا نطبقه على أنفسنا، فهذا ما لا يجدي نفعا لا للناس ولا لصاحب القول الخالي من الإلزام والتطبيق.
اضف تعليق