فنحن مأمورون بالمداراة وليس بالمباراة، وبالعيش المشترك وليس بالقتال المشترك، وبالمحبة والسلام وليس بالعداوة والخصام، فالحياة لا تقوم بالنزاع والخصام أبداً بل تقوم بالأمن والسكينة التي تعمُّ الجميع، وما نراه ونسمعه في هذا العصر من دعوات عالمية من كبار العقلاء والأدباء والشعراء والمفكرين إلى ضرورة العودة إلى المنظومة القيمية...
مقدمة اجتماعية
العالم اليوم يعيش في حالة من القلق والاضطراب وعدم التوازن في كل شيء، وذلك لأن المشاكل والأزمات صارت عالمية، بل كونية، فلم تعد محصورة في مكان، أو بلد، أو مجتمع، بل صارت كل مشكلة تحدث في أي بقعة أو مكان من الكرة الأرضية تصير حديث الساعة ويتداعى بل ويتأثر بها الجميع، وهذا من بركات الحضارة الرقمية، والتطور التقني والتكنولوجي الكبير الذي جعل العالم قرية إلكترونية واحدة، وشاهدنا ما نعيش فيه من جائحة (كوفيد 19) كورونا التي أربكت العالم منذ سنتين وأوقفته عاجزاً عن فعل شيء، وما يزال يحصد الأرواح، والاموال، والجهود دون جدوى تُذكر فالعالم بعد الجائحة قطعاً غير العالم قبلها، لقد فرضت وجودها وتركت آثارها على الجميع دون استثناء، من الإمبراطور وحتى أفقر وأضعف الناس.
ولكن نحن المسلمين لنا شأن آخر نعيش فيه مع الكورونا، وقبلها بسنوات من هذا البلاء العظيم الذي ابتلينا به؛ ألا وهو الإرهاب، والجماعات التكفيرية التي شوَّهت كل جميل في هذه الحياة لدينا وفي بلداننا، فصرنا مستهدفين من كل الجوانب، ومحاربين بكل الأسلحة، وصرنا نرى العداوة ولا نرى أسبابها، وذلك لأن العدو فينا، ومنا، ودارت الحرب علينا وفي أرضنا فكانت خسائرنا لا تُقدَّر بثمن في كل شيء، وأعظم ما خسرنا هي قيمنا وأخلاقنا، وفضائلنا، وذلك لأن المستهدف الأول فينا هو الدِّين والعقيدة والمنظومة القيمية التي نعيش فيها.
ولا نستغرب إذا عرفنا بأننا نُشكِّل اكثر من ربع سكان المعمورة إلا أننا في حالة من الضعف والتخلف والتشتت والصراع والعنف، فضعنا في الوقت الذي يجب أن نكون القوة الأولى في الكرة الأرضية، ولكن لماذا وصل بنا المقام إلى هذا الوضع اليوم؟
والجواب الشافي في قول ربنا سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) (الأنفال: 46)، فذهاب القوة في الأمة يرجع إلى أسباب خمسة هي:
1- ترك الجهاد في سبيل والثبات في ساحات الجهاد.
2- عدم ذكر الله كثيراً على كل حال قياماً وقعوداً وعلى جنوبنا.
3- التقاعس وعدم طاعة الله ورسوله (ص) في كل ما يأمر.
4- التنازع فيما بيننا على الدنيا والمناصب.
5- الجزع وعدم الصبر في هذه الحياة.
تلك هي الأسباب الخمسة لذهاب (قوتنا) واقتدارنا، ومكانتنا ودورنا ووجودنا في الساحة العالمية والدولية وبين الشعوب والأمم، وذلك لأننا وقعنا في كل الأسباب وليس في سبب واحد منها، فضيَّعناها جميعها فذهبت هيبتنا، وقوتنا، ومكانتنا بين البشر، وأصل هذه الأسباب يكمن في عدم الطاعة لله ولرسوله (ص).
يقول سماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله): "إنّ كل المظالم التي تحدث في العالم هي نتيجة تحريف الإسلام من مسيره الصحيح الذي بيّنه النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) وعمل به وطبّقه في حياته.. وإنّ منشأ كل المظالم التي يتعرّض لها الناس إلى يومنا هذا هو ذلك التحريف الذي وقع بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله).
فالإنسان ليعجب من الاضطرابات الموجودة حالياً في الجوانب الاجتماعية، والأخلاقية، والفردية، والعائلية.. فالإدمان على المخدرات، والجرائم، وعمليات الاختطاف، والغش والحيل، والنزاعات العائلية، والطلاق، وأمثال ذلك، تراها على رأس القائمة في الدول الإسلامية، أما في جانب التقدّم، ومداراة الناس، والحريّات، فهذا لا تراه إلاّ في آخر قائمة هذه الدول الإسلامية! وفضلاً عن السجناء السياسيين، ترى سجون هذه الدول مليئة بسجناء ارتكبوا أنواع الجرائم أيضاً!
وبيَّن سماحته سبب ذلك بقوله: "من الباعث على الأسى والتأسّف أن أرقام إحصائيات الفقر في الدول الإسلامية هي أكثر من الدول غير الإسلامية.. هذه الحالة المزرية الموجودة في الدول الإسلامية، يقيناً وقطعاً، ليست من الإسلام، ولا من القرآن، ولا من عمل، ولا من سيرة النبيّ (صلى الله عليه وآله)، بل هي بعيدة عن ذلك كلّه.. فاليوم، عندما يُعزل أو يموت فلان الوزير، أو فلان الرئيس وأمثالهما من حكّام الدول الإسلامية، تراه يخلّف أرقاماً خيالية في الثروات، وهي ثروات نهبها من ثروات الشعوب المستضعفة المسلمة.. إنّ عدم وجود الكفاءة السياسية، والإدارية، والاقتصادية، والاجتماعية، للحكّام المسلمين من بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله) والإمام أمير المؤمنين (صلوات الله عليه)، جرّت المجتمع الإسلامي إلى الابتلاء بمصير مشؤوم، واتّسع هذا الابتلاء بحيث لا يخلو أيّ بلد من البلدان الإسلامية من حالات الطلاق، والاضطرابات، والأزمات الاقتصادية، والجرائم، والإعدام، وغيرها من هذه الشذوذ.. وهذا كلّه نتيجة الانحراف عن مسير الإسلام الصحيح الذي ظهر بعد استشهاد رسول الله (صلى الله عليه وآله)". (كلمة ألقاها سماحته في 28 صفر المظفّر 1435)
فالتأمل بهذه الكلمات المؤسفة والواقع المحزن الذي يتحدَّث عنه سماحة السيد المرجع الشيرازي يجعلنا نبحث أكثر في المفردات والأفكار التي يطرحها سماحته، والعناوين التي يتناولها في كثير من الأحيان في محاضراته التوجيهية والأخلاقية الراقية التي طالما يتحدث عنها حتى في جلساته ولقاءاته الخاصة، وسنكتفي هنا إلى عنوان وقيمة حضارية صارت مهجورة، أو شبه ضائعة في سوق النفاق والدجل المعاصر، ألا وهي مسألة (المداراة)، فما هي وكيف نُطبِّقها في واقعنا، وما هو الخط الفاصل بينها وبين غيرها من القيم السيئة الباطلة كالمداهنة والمصانعة وغيرهما من القيم السلبية في المجتمعات البشرية؟
معنى المداراة وحقيقتها
قال ابن منظور في اللسان: (الدرء: الدفع؛ درأه يدرؤه درءاً، ودرأة: دفعه؛ وتدارأ القوم: تدافعوا في الخصومة ونحوها واختلفوا.. والمدارأة: المخالفة والمدافعة. يقال: فلان لا يدارئ ولا يماري؛... أي لا يشاغب ولا يخالف، وهو مهموز..
وأما المدارأة في حسن الخلق والمعاشرة فإن ابن الأحمر يقول فيه: إنه يُهمز ولا يُهمز.. يقال: دارأته مدارأة وداريته إذا اتقيته ولاينته.. قال أبو منصور: من همز، فمعناه الاتقاء لشره، ومن لم يهمز جعله من دريت بمعنى ختلت). (لسان العرب: لابن منظور (1/ 71)
وأما معنى المداراة اصطلاحاً: فهي "خفض الجناح للناس، ولين الكلام، وترك الإغلاظ لهم في القول"، كما عرَّفها ابن بطَّال، وقال ابن حجر: (المراد به الدفع برفق)، وقال المنَّاوي: هي "الملاينة والملاطفة؛ وأصلها المخاتلة من دريت الصيد وأدريته ختلته، ومنه الدراية وهو العلم في تكلف وحيلة"، ويقول المرجع الشيرازي في تعريفها: " المداراة؛ فهي من الدِّراية، والعلم، والمعرفة، والتوسّل بطرق الهداية، لجلب الإنسان إلى الحقّ أو إبقائه عليه.. وبعبارة أخرى: المداراة أن يكون موقف الإنسان تجاه الناس موقفاً يخدم في استقطاب الناس، وهدايتهم إلى الإسلام، والأخلاق، والفضيلة، بشتّى السُّبل المشروعة". (العلم النافع: ص118)
فالمداراة من أجمل وأعظم القيم الأخلاقية الإيجابية التي يجب أن يتحلَّى بها الإنسان في حياته لجذب الناس إليه بطريقة حضارية، وأسلوب مرن، اختصرها القرآن الحكيم بقوله تعالى: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125)، فالمعنى الدَّقيق للمداراة هي ترجمة هذه الآية الكريمة في واقع الحياة، قولاً وفعلاً.
مداراة الناس في الإسلام
الإسلام العظيم منظومة قيمية إنسانية إلى جانب منظومته التشريعية والفقهية، وقد أكَّد على مبدأ المداراة بين الناس، وحثَّ عليه، بل وأمر به، وجعل للمُدارين جزاء كبيراً، وفي السيرة النبوية الشريفة أن رسول الله (ص) كان يُعامل قريش في بداية الدعوة ولمدة ثلاثة عشر سنة بشكل عجيب، ثم استمر على مداراة الناس ومعاملتهم بإنسانية راقية هي الغاية في الحكمة والطيبة، حتى ليظن كل منهم أنه أحبُّ الناس إليه (ص)، فكان ذلك مصداق أكمل للمداراة لهم، ولذا جاء الكثير من الروايات التي تصف وتُعلي شأن المداراة للعيش مع الناس بسلام ومحبة.
ومن تلك الأحاديث والروايات الكثيرة، التي تُظهر مكانة المداراة في الإسلام؛ والتي أكَّد عليها المرجع الشيرازي في كتبه ومحاضراته الأخلاقية نأخذ منها، قوله (ص): (بُعثت بمداراة الناس)، أي أُمرتُ بمداراتهم، ولذا بيَّنها (ص) بقوله: (أمرني ربّي بمداراة الناس كما أمرني بإقامة الفرائض)، وفي الحديث القدسي عن الإمام الصادق (عليه السلام) قال: جاء جبرئيل (عليه السلام) إلى النبي (صلى الله عليه وآله) فقال: يا محمد، ربك يقرئك السلام ويقول لك: دار خلقي)، فهي فرض واجب على الإنسان المسلم، ولذا جُعلت كالجهاد في سبيل الله قال (ص): (مَنْ عاش مدارياً مات شهيداً)، فخُلُق المداراة ليس بالأمر السهل، وليس هو من الأخلاق السلبية كالمداهنة للعصاة والظالمين، ولا الرُّكون إلى الطغاة والجبارين، أبداً إنما هي طريقة وأسلوب حضاري وأخلاقي للدعوة إلى الله، بالكلمة الطيبة، والأخلاق الراقية، بأسلوب لبق.
المداراة نصف العقل والإيمان
الله سبحانه أعطى الإنسان العقل وكرَّمه به، ومنحه الإرادة وزيَّنه بها، ليعقل عن الله ما يأتي به رسله وأنبياءه وكتبه، وقد جعل هذا العقل متفاوتاً بين البشر ولكن أرضاهم جميعاً بعقولهم حتى أولئك البسطاء والمجانين راضين بما عندهم، ولهذا أمر سبحانه أن يُكلِّموا الناس على قدر عقولهم ويُعاشروهم بما يُطيقون ويعرفون ولا يحمِّلونهم فوق طاقتهم في كل شيء، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (أمرنا معاشر الأنبياء أن نخاطب الناس على قدر عقولهم).
وهذا يجري في التعامل والمعاشرة والحياة الاجتماعية كلها، فما تُطيقه أنتَ من الكلام والمزاح قد لا يُطيقه غيرك، ولذا قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): (مداراة الناس نصف الإيمان (أو نصف العقل)، والرِّفق بهم نصف العيش)، وقال (ص): (ثلاث مَنْ لم يكن فيه لم يتم له عمل: ورع يحجزه عن معاصي الله، وخُلُق يداري به الناس، وحُلم يرد به جهل الجاهل).
وأما كلمات أمير المؤمنين الإمام علي (عليه السلام) في المداراة فهي كثيرة ورائعة ومتنوعة كقوله (ع): (ليس الحكيم من لم يدار مَنْ لا يجد بداً من مداراته)، و(المداراة أحمد الخلال (أفضل الخصال)، و(ثمرة العقل مداراة الناس)، و(رأس الحكمة مداراة الناس)، و(عنوان العقل مداراة الناس)، و(مداراة الرجال من أفضل الأعمال).
ولكن ما ثمرة المداراة والنتائج الإيجابية الرائعة لها؟ نأخذها من أقوال الإمام علي (عليه السلام): (دار الناس تستمتع بإخائهم، والقهم بالبشر تمت أضغانهم)، و(دار الناس تأمن غوائلهم، وتسلم من مكائدهم)، وبالتالي فإن (سلامة الدِّين والدنيا في مداراة الناس)، هذه ثمرات تُنعش الحياة وتُعطيها معناها ورونقها، والإمام الصادق (عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا) قال: (أي للناس كلهم مؤمنهم ومخالفهم، أما المؤمنون فيبسط لهم وجهه، وأما المخالفون فيكلمهم بالمداراة لاجتذابهم إلى الإيمان، فإنه بأيسر من ذلك يكفُّ شرورهم عن نفسه، وعن إخوانه المؤمنين)، هذا هو معنى المداراة في الإسلام العظيم.
فنحن مأمورون بالمداراة وليس بالمباراة، وبالعيش المشترك وليس بالقتال المشترك، وبالمحبة والسلام وليس بالعداوة والخصام، فالحياة لا تقوم بالنزاع والخصام أبداً بل تقوم بالأمن والسكينة التي تعمُّ الجميع، وما نراه ونسمعه في هذا العصر من دعوات عالمية من كبار العقلاء والأدباء والشعراء والمفكرين إلى ضرورة العودة إلى المنظومة القيمية الأخلاقية لما رأوا من كوارث كبيرة تحل على البشرية بفقدانها.
يقول سماحة السيد المرجع الشيرازي في محاضرته الأخلاقية في مداراة الناس: "فيعاملهم معاملة يتصورون أنه يحبهم، وهذا ليس من النفاق في شيء، بل من مقتضيات العقل وأصول الأخلاق الرفيعة؛ إذ لا شك في وجود الاختلاف، والتفاوت في الأذواق، والأساليب والتوجيهات بين الناس، ولكن ليس من الضروري أن يظهر المرء كل ما في قلبه للآخرين، بل من الضروري أن يُبدي احترامه لأذواقهم، وأساليبهم، وتوجهاتهم، وآرائهم، كما يُمكنه أن يعكس وجهة نظره ورأيه، أو طبيعة ذوقه، وما يرتئيه من أسلوب بالصورة المناسبة والحكيمة، لكي لا يقع الشقاق والفرقة.. وعلى المرء أن يطلب من ربه أن يساعده في تحويل المودة الظاهرية إلى حب باطني حقيقي يضاعف الترابط الاجتماعي ويكرس العلاقة الطيبة بينه وبين باقي أفراد المجتمع".
مَنْ نُداري من الناس؟
فالمداراة خُلق إيماني أصيل وتعامل إيجابي يهدف إلى كسب الآخرين، والتقرب إليهم ومحبتهم، وهي غير المداهنة السلبية المذمومة، يقول المرجع الشيرازي: "الفرق الرئيسي بين المداراة والمداهنة أنّ المداهنة لا تكون في طريق التربية والهداية"، وأما المداراة فهي التي تسهِّل وتُعبِّد طريق الهداية والتربية في المجتمع، ولذا سماحة السيد المرجع يُبيِّن لنا مَنْ نُداري من الناس، فهل نداري كل الناس الأعداء والأصدقاء، على حدٍّ سواء؟
لا يمكن مداراة الأعداء بل نداهنهم إذا خفنا منهم وكانوا أقوى منا، وأما الأهل والأصدقاء والأخوة والأحباب فلهم المداراة لا سيما الطبقات الضعيفة كالنساء، والشيوخ، والأطفال، وضعاف الإيمان، يقول سماحة السيد المرجع: "فمن الجدير المداراة مع أمثال هؤلاء، لضعف إيمانهم، كما ينبغي المداراة مع الشباب أيضاً من أجل عدم انفلاتهم عن الطريق وتوغّلهم في المعاصي".
المداراة: تقديم الأهم على المهم
من الجدير بالذكر هنا أن نلتفت إلى مسألة هي في غاية الأمية يُشير إليها سماحة السيد المرجع في محاضراته، وهي أن استخدامنا لأسلوب المداراة هي في الحقيقة تقديماً للأهم على المهم، بحيث أننا نُقدِّم جذب الإنسان وكسب قلبه وتقوية إيمانه على نهيه عن مسألة لا يعرف أنها ممنوعة أو محرمة أو محظورة أو ما شابه ذلك من المسائل الفرعية فجذبه إلى الحق هو الأهم.
وجميلة هي الذكريات والقصص الأخلاقية التي يرويها سماحته كثيراً في محاضراته وهنا ينقل لنا قصة حدثت معه شخصياً في أيام الشباب في كربلاء المقدسة، فيقول: "كنتُ قد عقدتُ مجلساً في كربلاء المقدسة ـ في زمن بعيد ـ لمجموعة من الشباب لبيان أصول الدِّين والأحكام والآداب الإسلاميّة.. وكان يحضره إلى جانب طلاب العلوم الدينية شباب من طلاّب المدارس الحديثة وبعض المثقّفين.. ففي إحدى الجلسات لفتَ انتباهي شابّ لم أعهد حضوره من قبل ولم أعرفه، رأيته متختّماً بخاتم من ذهب، ويظهر أنّه كان جديد عهد بالزواج.. إلاّ أنّي رأيتُ عدم التعجّل في نهيه عن التختّم بالذهب؛ لاعتبار كونه جديد عهد في حضوره المجلس، فضلاً عن عدم معرفتي به، فخشيتُ ألا يحضر المجلس بعد ذلك إذا نهيته في أوّل تعرّفي به، ولم تكن خشيتي ـ بالطبع ـ من عدم حضوره المجلس، إلاّ لأنّه بعدم حضوره قد يتّخذ مسالك غير سليمة.
وبعد أن نقلتُ القضيّة لوالدي (رحمه الله) فقال لي: حسناً فعلتَ، دعه يحضر أوّلاً، ويستمرّ في حضوره ليتعلّم أصول الدِّين وفروعه، وما يترتّب عليه من أوامر ونواه، وبعد أن يقوى إيمانه وترتقي إرادته في الإقدام على ترك المنكرات يمكنك أن تطرح عليه المسألة، وتقول له: إنّه لا يجوز له ذلك، فاحتمال عدم حضوره المجلس وارد لو نهيته الآن".
ثم يُعلِّق سماحته عليها قائلاً: "فهذا يُعدّ من معاني المداراة، أي تقديم الأهمّ على المهمّ، عند التزاحم، من أجل هداية الناس إلى الإسلام أو إبقائهم عليه وعلى أصوله وأحكامه، ومهما يكن، فالمداراة ليست كالمداهنة التي لا ترجو هدفاً كهذا، فترى صاحبها يتوخّى من وراء سكوته على الباطل أن يصل إلى تحقيق منافع شخصية دنيوية صرفة". (العلم النافع: ص121)
فالمداراة تشمل كل الناس وذلك لأن؛ "الناس إمّا مؤمن، أو كافر، أو منافق، وكلّهم بحاجة إلى المداراة، فأمّا المؤمن فهو بحاجة إلى المداراة ليزداد إيماناً، والكافر يحتاجها ليسلم، والمنافق ليُقلع شيئاً فشيئاً عن نفاقه ويصير مؤمناً، والمسلم بكلا قسميه يحتاج للمداراة ليثبت على إسلامه ويقوّيه.. وهذا يوضّح ما للمداراة من أهميّة في الشريعة".
ليخلص سماحة المرجع الشيرازي إلى نتيجة مهمة هي: "فكما أنّ الإنسان يتعامل في الأمور المادّية والشخصية على أساس الترجيح بين الأهمّ والمهمّ، كأن يعطي تارة مبلغاً كبيراً من المال لأحد ولا يعطي مثله لغيره، وذلك بحسب ما يراه من المصلحة والأهمية، أو تارة ينفق من وقته ساعات لشخص ما، ولا ينفق إلا دقائق معدودة لآخر، فكذلك الحال في المداراة حيث ينبغي النظر إلى الأهمّ والمهمّ وتقديم الأوّل على الثاني، وهذه سيرة الأنبياء والرّسل، وبالأخصّ سيرة نبيّنا وأهل بيته المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وبتبعهم الأولياء والعلماء والصلحاء". (العلم النافع: ص124)
المداراة أجمل أساليب الهداية
فخُلق المداراة هو من أجمل وأسهل طرق الهداية، وكسب القلوب بالمحبة، وجمع الناس بالإلفة لأن الفظاظة، والقسوة، والنفرة تُبعد الناس عن الإنسان وتُنفِّرهم عن كل ما يدعوهم إليه، ولذا قال ربنا سبحانه لحبيبه المصطفى (ص): (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) (آل عمران: 159)
فلولا أخلاق رسول الله (ص) ورحمه، ولينه بكلامه، وطيب معشره، ومداراته لهم وكلامه معهم كل بما يحتمل وما يفهم، وما يُطيق، هو الذي جذبهم إلى شخصه الكريم، يقول سماحة السيد الشيرازي: "فأسلوب هداية الناس لا يعني السكوت عن الحرام أو ترك الواجب، بل يعني التدرّج في مراحل بيانه ونحو ذلك، لكيلا يقع المدارِي والمدارَى كلاهما في حرام أهمّ منه وأشدّ، وبما أنّ الناس ـ بما فيهم المؤمنون ـ ليسوا كلّهم عدولاً فضلاً عن عدم علمهم لجملة ممّا له مدخلٌ في التشريع؛ لذا يلزم على مَنْ يريد هدايتهم أن يتحلّى بأعلى قدر من المداراة في تعامله معهم.. إنّ الله سبحانه وتعالى خلق الخلق ليرحمهم، فيلزم على مَنْ يُريد هدايتهم أن يكون مدارياً لهم إلى آخر لحظة ليتمكّن من توجيههم نحو الله تعالى، فيكون قوله وفعله جامعاً للناس وهادياً لهم، لأنه مسؤول على ألا ينفرّهم عن الحقّ".
هذا شامل جميع المؤمنين العاملين ولكن طلبة العلوم الدينية لهم خصوصية ولذا يتوجه لهم سماحة المرجع ليوضح لهم الطريق الصحيح لهداية الناس وكسبهم إلى الحق والدِّين، في هذا الزمن العنود، وتحت هذه الحرب الناعمة لأمتنا وأجيالنا لا سيما الشباب منها بالخصوص، فيقول لهم: "ينبغي لطالب العلم أن يعرف كيف يهدي الآخرين ويوجّههم إلى الله سبحانه وتعالى، أمّا إذا أخذهم بالشدّة والغلظة فربّما كثير منهم ينحرف عن الطريق، خصوصاً في زماننا هذا الذي تكثر فيه التيّارات المختلفة، والكفيلة بالتقاط المنفرط عن الحق فيما إذا تاه ونأى، لذا علينا ألا نفسح المجال أمام تلك التيّارات الفاسدة والمضلّة باصطياد شبابنا، خاصّة مع كثرة أهل الباطل وتيّاراتهم التي أعدّت فخاخها ومصائدها المتنوّعة لاصطياد أيّ شخص قد يضعف إيمانه أو ينفلت عن الحقّ وأهله".
اضف تعليق