بناء المجتمع العالمي والمحلي المتحرر، يقوم على القيم الراكزة، تبدأ بقيمة العدالة والإنصاف والاستقامة والمساواة، وهذه سواها من القيم الناهضة تتوافر في منهج الإمام علي، لذلك فإن العالم اليوم، يجب أن يبادر إلى دراسة هذا المنهج، ويفهم واقعة الغدير من أصولها ومنابعها التاريخية المنصفة، وليس المضلِّلة...
(يدين التطوّر الحضاري والمعنوي للغدير بما يملك)
سماحة المرجع الشيرازي دام ظله
الحضارة لا تولد جزافاً، بل هي كيان تراكمي فكري ومعرفي، يكون للتجريب فيه موقع حجر الزاوية، لذلك تدخل جميع التجارب البشرية، وفي الحقول كافة، في إطار التطوير الحضاري، ويبقى الأفضل منها هو المرجّح عن سواه في باب المساهمة بتجديد حضارة الإنسان والارتفاع بها، من هنا تأتي تجربة الإمام علي بن أبي طالب (ع) في السياسة والحكم وحقوق الإنسان والاقتصاد كعنصر فاعل في التطور الحضاري المعنوي والأخلاقي.
بناء المجتمع العالمي والمحلي المتحرر، يقوم على القيم الراكزة، تبدأ بقيمة العدالة والإنصاف والاستقامة والمساواة، وهذه سواها من القيم الناهضة تتوافر في منهج الإمام علي، لذلك فإن العالم اليوم، يجب أن يبادر إلى دراسة هذا المنهج، ويفهم واقعة الغدير من أصولها ومنابعها التاريخية المنصفة، وليس المضلِّلة.
وبعد البحث والتقصي ومعرفة الأسس والقيم والأسانيد التي قام عليها منهج الغدير، يغدو من اللازم الحصول على ثمار هذا البحث، ونشره وتسويقه بداية من الذات التي تمثلها (الدول والحكومات الإسلامية)، ومن ثم الصعود بهذه التجربة الحلاقة نحو بعدها العالمي، كون العالم اليوم محاصر بالظلم والغبن والعنف والاستقواء والانحراف، ولدينا الكثير من الإثباتات على أن البشرية اليوم تسير إلى حتفها بقدميها، إذا ما بقيتْ تهمّش التجارب والمعارف العظيمة عبر التاريخ.
بهذا المعنى يصبح عيد الغدير ومنهجه وتجربة الإمام علي (ع) في إدارة السلطة، درسا بليغا للإنسانية كلها، ويجب التسليم بها، ليس لأنها تعود للإرث الإسلامي فحسب، بل لأنها نتاج شخصية قيادية إنسانية قلّ نظيرها في التاريخ، ونعني بها شخصية الإمام علي ومنهجه واضح المعالم في إدارة العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس العقد الاجتماعي المنصف والعادل بين الطرفين.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(إحدى الشروط المهمة والرئيسية للوصول بنا إلى مجتمع الحريّة والبناء القائم على أساس العدالة والأخلاق وسيادة القيم والفضائل الأخلاقية الإنسانية.. أن نسلّم لما بلّغ به رسول الله صلى الله صلى الله عليه وآله في يوم الغدير، وأن نقبل عملياً بولاية الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه).
منهج الإمام علي وتحسين النظام العالمي
بسبب المشكلات العالمية المستعصية، النخب والقيادات كافة، تتحمل مسؤولية تغيير بوصلة العالم، وهذا لا يستثني أمة ما ولا ديانة ولا عرقا ولا فئة من المشاركة في تحمّل تغيير العالم، على أن تكون البداية واضحة المعالم، ومن الأفضل أن تبدأ النخبة بنفسها، وتؤكد البراهين والأسانيد أن اعتماد منهج الإمام علي (ع)، يجعل عالمنا أفضل.
وطالما أن التطابق مكتمل بين الغدير من ناحية، وبين منهج الإمام علي (ع) من ناحية أخرى، فإن هذا التطابق يجب أن يوضع في خدمة تحسين السياسة العالمية والمحلية في وقت واحد، ولا يُقصَد هنا بالسياسة (المفهوم السياسي وحده) والإجراءات السياسية وحدها، بل يشمل ذلك السياسات الاقتصادية والتعليمية والصحية وسواها، فالتغيير في النظام العالمي يشمل المجالات كافة.
التشابه التام بين منهج الغدير ومدرسة الإمام علي (ع)، يؤكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(الغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه التي تصلح لإسعاد البشر أجمع).
وهناك ركيزة أهم تقوم عليها منهجية الغدير التي استقت مصاديقها من الإسلام الحقيقي، فما حدث في واقعة الغدير كان مصدره نبويا، أي أن النبي (ص)، في تشريعه وتطبيقه لخطوات الغدير، إنما طبَّق بذلك ما أراده الله، ومن هذه الحقيقة كان ولا يزال إسلام الإمام علي (ع) هو الإسلام المقرون بالعمل وليس القول وحده، وهذا هو الفارق الكبير بين إسلام (الاسم فقط) وإسلام (القول والعمل).
سماحة المرجع الشيرازي يقول (إنّ إسلام الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه، يعني الإسلام الصحيح؛ أي إسلام القول والعمل، وليس إسلام الاسم فقط).
مبدأ إقران القول بالعمل يدعم الحضارة ويسندها، ويجعلها أكثر تجسيدا لحاجان البشرية، وهو مبدأ التزم به الإمام علي (ع) وطبقه إبّان قيادته للمسلمين، وإدارته لدولة الإسلام، وما يعزز ما ذهبا إليه، أن يوم الغدير ليس يوما مقترنا بقيادة الإمام علي للأمة، بل هو يوم النبي (ص) الذي قام بدوره بجعل التوجيهات الإلهية موضع التطبيق، فأعلن تنصيب الإمام علي خليفة من بعده للمسلمين.
منهج الغدير يعالج المشكلات العالمية
الجميع من دون استثناء عرف بالأمر النبوي الواضح، وقدتم إعلانه على رؤوس الأشهاد في (حجة الوداع)، وهذا ما هو مثبت في المصادر التاريخية الموثوقة، ليس من علماء وفقهاء الشيعة وحدهم، بل ورد في كتب أهل السنة أيضا، لذلك فإن من يتحجج بعدم المعرفة، أما هو موهوم أو يتعمّد الوهم.
ولو التزم الجميع بمقررات يوم الغدير، وطبقوا ما أعلنه الرسول (ص)، وأوكلوا مهمة قيادة الأمة لمن نصّبه النبي قائدا من بعده، لكان المسلمون في منأى من هذه الجلجلة التي أدت بالنتيجة، إلى حرف مسيرة الإسلام عن طريقه، بل حتى العالم الذي يعاني اليوم من مشكلات احتقان لا حصر لها، كان يمكن أن يكون أكثر أمنا وسلاما وعدلا، على عكس ما هو عليه اليوم من تذمر وغليان وتشرذم.
الذين وافقوا الرسول (ص) على مقرراته في يوم الغدير، ونكثوا بعهودهم بعد استشهاده، هؤلاء هم من حرف بوصلة المسلمين، وعبثوا بمبادئهم، وسعوا (إلى يومنا هذا) إلى تحريف الإسلام، وتلبيسه بلباس العنف والتكفير والإرهاب، لكن الإسلام الحقيقي هو إسلام السلام والعفو والرحمة التي جسدها منهج الإمام علي خير تجسيد، لذلك فإن يوم الغدير هو يوم الله ورسوله ويوم علي (ع).
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(إنّ عيد الغدير ليس يوم الإمام أمير المؤمنين سلام الله عليه وحده، بل هو يوم الرسول الكريم صلى الله عليه وآله أيضاً، بل يجب القول بأنه يوم الله تعالى. لقد أوحى الله تعالى عزّ وجلّ بالأحكام والواجبات الواحدة تلو الواحدة حتى ختمها بالولاية، لأنه عندما تم بيان هذا الحكم، أنزل الله هذه الآية: (أَطِيعُواْ الله وَأَطيعُواْ الرّسُولَ وَأُوْلِي الأمْرِ مِنْكُمْ)، وعلموا أن عليهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله الامتثال لطاعة الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب وأبنائه الطاهرين سلام الله عليهم).
من هنا تتأكد للجميع، أن من أنكر يوم الغدير، والتف حول ما جرى فيه من تنصيب شفاف وواضح للإمام خليفة الرسول (ص)، هو الذي يتحمل مسؤولية ما حدث على مر التاريخ، من حالة تمزّق بين المسلمين، ومن انحراف مخيف لبوصلتهم باتجاه حياة الوئام والسلام، وتدمير الإرث الحضاري للإسلام، بعد أن تنكروا لقيمه ومبادئه التي أرسى قواعدها الرسول الأكرم (ص).
وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(يعدّ إنكار الغدير بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية الممتدة على أرض الإسلام الواسعة).
اليوم إذا أراد المسلمون، والعالم أجمع، العودة إلى جادة الصواب، فما عليهم إلا الاعتراف بالحقائق، وعدم التنكّر لها، أو محاولة التنصل من مسؤوليتها، فالمشكلات أيّا كان حجمها أو نوعها أو درجة تعقيها قابلة للحل، ولكن يجب العودة إلى الجذور والاعتراف بأن حقائق يوم الغدير هي نقطة بداية التغيير نحو عالم حضاري أفضل.
اضف تعليق