الغدير روضة الفضائل والأخلاق والمكارم والمحاسن، بل هو المكارم بعينها، والتطوّر الحضاري والمعنوي كلّه يدين له بذلك؛ لاعتباره أهمّ عامل في حفظ كيان الدين والملّة، ويعدّ إنكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية. فالغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة أمير المؤمنين التي تصلح لإسعاد البشر جميعاً...
لقد أنزل الله تعالى في يوم الغدير:
(اليَوْمَ أكمَلتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتـي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً)(1).
وقال رسولُ الله صلى الله عليه وآله عن هذا اليوم:
وهو اليومُ الذي أكملَ اللهُ فيه الدينَ وأتمَّ علَى أمّتِي فيه النعمةَ ورَضِي لهُم الإسلامَ ديناً...(2).
وهذا معناه أنّه بإعلان ولاية أمير المؤمنين عليّ سلام الله عليه كفريضة من الله تعالى على المسلمين، يكون قد كمُل الإسلام، وبه تمّت نعمُه تعالى على الخلق. ومنه يمكن أن نستخلص أنّ الغدير:
أوّلاً: آخر الفرائض
روي عن الإمام أبي جعفر محمّد الباقر سلام الله عليه أنّه قال:
آخِرُ فريضةٍ أنزلها اللهُ الولايةَ (اليَومَ أكمَلتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأتمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتـي وَرَضيتُ لَكُمُ الإسْلامَ ديناً) فلم يَنزِلْ من الفرائضِ شيءٌ بعدها حتَّى قَبَضَ اللهُ رسولَهُ صلَّى الله عليه وآله(3).
وروي عن الإمام الباقر سلام الله عليه أيضاً قوله:
وكانت الفرائضُ يَنزلُ منها شيءٌ بعد شيء، تَنزلُ الفريضةُ ثم تنزلُ الفريضةُ الأخرى وكانتِ الولايةُ آخِرَ الفرائضِ فأنزلَ اللهُ عزّ وجلّ: (اليَوْمَ أكْمَلْتُ...) يقولُ اللهُ عزّ وجلّ: لا أُنزِلُ عليكُمْ بعدَ هذهِ الفريضةِ فريضةً، قد أكملتُ لكُمْ هذهِ الفرائض(4).
لقد أوحى الله عزّ وجلّ بالأحكام والواجبات الواحدة تلو الأخرى حتى ختمها بالولاية، فأنزل هذه الآية (اليَوْمَ أكمَلتُ...) ليعلن أن لا فريضة بعدها. فبعد نزولها وتنصيب أمير المؤمنين سلام الله عليه خليفة لرسول الله صلى الله عليه وآله أدرك الناسُ مرادَ الله تعالى من الآية الكريمة: (أطِيعُوا اللهَ وَأطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ)(5) وعلموا أنّ عليهم بعد رسول الله صلى الله عليه وآله أن يطيعوا أمير المؤمنين سلام الله عليه. فكانت فريضة الولاية آخر فريضة أنزلها الله تعالى على نبيّه صلى الله عليه وآله.
ثانياً: تمام النعم
ممّا يثير الانتباه في هذه الآية الكريمة أنّ الله تعالى قد ربط إتمام نعمته على الخلق بموضوع الولاية، أي كما أنّ كمال الدين يتحقّق بالولاية لمحمد وآل محمد عليهم الصلاة والسلام، كذلك فإنّ بها تمام النعمة على المسلمين.
والمقصود بالنعمة ـ في الآية ـ جميع النعم، ظاهرها وباطنها كالعدل والمساواة والاتّحاد والأخوّة والعلم والأخلاق والطمأنينة النفسية والروحية والحرّية، وبعبارة موجزة جميع أنواع العطايا.
لذا، فقول أولئك الذين سعوا إلى تفسير النعمة في الآية بالشريعة وبالنعم المعنوية فحسب، محلّ تأمّل ونظر، لأنّ الآية المذكورة لم تتطرّق لمسألة أصل النعمة، بل سياقها يدور حول إتمام النعمة، أي جمع أنواع النعم، فأينما ورد ذكر إتمام النعمة في القرآن الكريم كان المراد منها كلّ النعم التي يصيبها الإنسان في الدنيا(6)، ومن هنا نستطيع معرفة علاقة مباشرة بين ولاية أمير المؤمنين علي سلام الله عليه والتمتّع بالنعم الدنيوية المشروعة، وذلك لمحورية الولاية العلوية باعتبارها أحد الشروط المهمّة والرئيسية للوصول بنا إلى مجتمع قائم على أساس الحرية والعدالة والقيم والفضائل الأخلاقية والإنسانية؛ لذا يحتمّ الواجب أن نسلّم لما بلّغ به رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم الغدير، وأن نقبل عملياً بولاية أمير المؤمنين سلام الله عليه.
بعبارة أخرى: إنّ الأخذ بولاية أمير المؤمنين سلام الله عليه التي أنزلها الله تعالى وفرضها على المسلمين في يوم الغدير، له أثر تكوينيّ يوجب سبوغ البركات والخيرات على الناس من الأرض والسماء. قال الله تبارك وتعالى في كتابه العزيز:
(وَلَوْ أنَّهُمْ أقَامُوا التَوْراةَ وَالإنْجيلَ وَما أُنزِلَ إلَيهِمْ مِنْ رَبـّهِمْ لأكَلوا مِنْ فَوقِهِمْ وَمِنْ تحْتِ أرجُلِهِم)(7).
ثالثاً: سبيل الله الأوحد
لو أردنا أن نفهم الغدير في عبارة موجزة لأمكننا القول:
إنّ الغدير هو الوعاء الذي تجتمع فيه جميع تضحيات الرسول الكريم صلى الله عليه وآله، وهو مخزن الأحكام والآداب التي أوحى الله تعالى بها إلى رسوله الأمين، والإشارة إلى هذه الحقيقة ومدى توقّف البعثة الخاتميّة عليه تجسّد في قوله جلّ وعلا:
(يا أيُّها الرَّسولُ بَلِّغ ما أنزِلَ إلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإنْ لم تفعَل فما بَلَّغتَ رِسالَتَه)(8).
والغدير روضة الفضائل والأخلاق والمكارم والمحاسن، بل هو المكارم بعينها، والتطوّر الحضاري والمعنوي كلّه يدين له بذلك؛ لاعتباره أهمّ عامل في حفظ كيان الدين والملّة، ويعدّ إنكاره بمثابة إنكار لجميع القيم الإسلامية السامية.
فالغدير بجوهره وروحه يعني مدرسة أمير المؤمنين سلام الله عليه التي تصلح لإسعاد البشر جميعاً. فأمير المؤمنين سلام الله عليه هو ـ بعد الرسول صلى الله عليه وآله ـ أعظم آيات الله عزّ وجلّ، ولا تضاهيه آية، ولذلك يقول الإمام الصادق سلام الله عليه عن الذي تخيّل أنه يبلغ معرفة الله عن غير طريق أمير المؤمنين فَلْيُشَرِّقْ وَلْيُغَرِّبْ، أي لن يبلغ غايته ولو يمّم وجهه شرقاً وغرباً.
إنّه لمن تعاسة الإنسان وسوء حظّه أن يطلب العلم والمعرفة من غير طريق محمّد وعلي وآلهما سلام الله عليهم. ومهما كان العلم المستحصل من غيرهم فلا قيمة له، لأنه مفرّغ من القيم الأخلاقية والمعنوية، وبعيد عن روح الشريعة. وكلّ خطّ لا ينتهي إلى الغدير فهو ردّ على الدين والردّ عليه ردّ على الله ورسوله صلّى الله عليه وآله وأهل بيت رسوله سلام الله عليهم، لأنّ كلّ القيم والفضائل ومكارم الأخلاق تختزل في الغدير وتنبع منه.
رابعاً: مظهر القيم
وقد يطرح التساؤل الآتي: كيف يكون إحياء الغدير عند الله تعالى وفي الملأ الأعلى؟
نقول في الجواب: الحقّ أنّ العقل عاجز عن الخوض في غمار هذه البحوث، ويظلّ كلّ ما يفهمه الآخرون ـ سوى المعصومين سلام الله عليهم ـ قاصراً أمام فهم عظمة الغدير في السماوات، ومن ثم فإنّه يكفينا أن نفهم ما وردنا في عظمة الغدير عن أئمّتنا المعصومين وما تناله عقولنا من أنّ إحياء الغدير يعتبر إحياءً للعدالة وحسن السياسة والتدبير في معاش الناس وأمنهم، وطرداً للجور واللامساواة والإجحاف.
فعندما يكون أمير المؤمنين سلام الله عليه هو المولى بمقتضى الغدير وغيره، فهذا معناه أن يعيش الناس كلّهم في أمان واطمئنان، ولا يوجد جائع أو محروم، ولا ضلال أو انحراف بهذه الصورة ويكون أدنى الناس حالاً متساوياً أمام القضاء مع أعلاهم منزلة، بل حتّى مع الحاكمين أنفسهم، وما تراه من حالات الخير والإحسان ـ وإن كثرت ـ إن هي إلا قطرة في بحر مواهب الإمام سلام الله عليه.
إنّ خطّ الله تعالى والصراط المستقيم ممتدٌ في طول ولاية الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه وذلك لتسود الفضائل في المجتمع.
فيوم الغدير في الحقيقة هو روح جميع الأيام، وإحياؤه إحياء لعيد الفطر والأضحى والجمعة بل كلّ الأعياد. ففي الغدير استمرار العدل والإنصاف، وكلّ القيم التي خلق الله من أجلها الإنسان وبعث إليه الأنبياء والرسل.
اضف تعليق