الإسلام يكره الحرب ويدعوا إلى السِّلم والسلام ودعوته هذه واضحة من اسمه الشريف فالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، كلها تدعو إلى السلام، وإتباع نهج الدعوة إلى الإسلام بالكلمة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن.. يقول المرجع الشيرازي الإسلام دين الصلاح، والصلاح والفساد لا يجتمعان، إذن: لا، لكل أنواع الفساد في الإسلام...
مقدمة فكرية
تحدثنا عن العلم النافع الذي يجب أن نبحث عنه –كما أشار سماحة المرجع الكبير والمربي القدير في محاضراته السيد صادق الشيرازي– وبيَّن أن العلم النافع؛ هو العلم الذي يبني الإنسان من داخله على القيم، ويبني الحضارة على الفضيلة والقيم الإنسانية، وجِماع ذلك بالتقوى.
ولكن ما نراه اليوم في حضارتنا الرقمية المتطورة مادياً، والمتقدمة علمياً نراها تسير إلى الموت والفناء والدمار الشامل بسبب سباق التسلح العجيب الذي تشهده القوى العالمية، وكل ذلك باستخدام العلم وتقدمه قبل أي شيء آخر، فأين مكان العلم النافع هنا، وكل ما نراه هو علم ضار بل يمكن لنا أن نسميه بعلم الإبادة الجماعية للبشر، أو الدمار الكوني للكرة الأرضية؟
فالعلم الذي أمر الله به وبيَّنه رُسُله الكرام (ص) لبني آدم هو ذلك العلم الذي يخدم الإنسان لا العلم الذي يقهر، ويذل، ويستخدم الإنسان، فيحوله إلى شيء تافه وخادم في الماكينة الحضارية العملاقة التي لا هدف لها إلا المادة والتقدم على حساب كل القيم، وتدعس الإنسان وكرامته.
فالعلم كأي سلاح بيد الإنسان، وهو سلاح ذو حدَّين؛ إذا استخدمه بما ينفعه أنعشه وأحياه في سعادة غامرة لا مثيل لها، وأما إذا أساء واستخدمه بما يضره فإنه سيجعله يعيش في أتون وتنور وخوف وذعر طيلة حياته، كما في هذا العصر الأغبر حيث يعيش العالم كله على حافَّة الهاوية ويقترب ويبتعد عنها ومرَّت لحظات من آخر عهد رئيس الإمبراطورية الأحمق وتصريحاته الهوجاء أن كان الجميع أيديهم على الأزرار النووية، ومستعداً لإبادة الطرف المعادي وكأن الملايين في الدولة الأخرى نمل أو حشرات يُقتلون بكبسة زر من معتوه أو مجنون ولا يدرون لماذا كما حصل في الناغازاكي وجارتها، فإلى الآن لا يعرفون سبب إبادتهم بهذه الطريقة الوحشية، التي توصل إليها الإنسان بالعلم، والتفجر العلمي لديه، والحضارة الرقمية المعاصرة نمت على أنهار من الدماء وجبال من الأشلاء البشرية، بسبب هذا العلم واستخدامه بطريقة مدمرة وضارة جداً لكل ما في الحياة والأحياء لا سيما محورها وهدفها الإنسان.
فالعلم نعمة عظمى فلماذا نحوِّله إلى نقمة وكارثة على الأجيال ونجعل العلم ضاراً جداً ومبيداً ومدمِّراً لهذه الحضارة التي استغرقت من عمر الإنسان وأبحاثه وجهوده ملايين السنوات؟ تلك الفكرة التي يجب أن ننتبه إليها في كلمات ومحاضرات سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله).
فكل علم يخدم إنسانية الإنسان ويخدم رسالته، ويحفظ شرفه وكرامته، ويحقق هدفه بالوصول إلى السعادة هو علم نافع لأنه يخدم الإنسان في الدنيا والآخرة، وكل علم لا يكون كذلك فهو علم ضار لأنه يقزِّم الإنسان ويجعل عيشه نكداً، وحياته جحيماً لا تُطاق ولو أحطته بكل الألعاب البراقة والأرقام البنكية، أو البتكوين، والشيبا، ووضعته على رأس أعلى ناطحة سحاب فإنه سيُلقي بنفسه من أعلاها منتحراً لأنه لم يُخلق لأجل ذلك، بل خلق لأجل الله تعالى وإذا ما أبعدته عن ربه، وفطرته، وهدفه، فإنه سيعيش التعاسة، والمرض النفسي إلى أن يهلك همَّاً وغمَّاً.
حضارة الحرب الرقمية
حضارتنا اليوم هي حضارة الحرب بامتياز، لأن كل ما فيها من تقدم وتطور وتكنولوجيا هي في خدمة الصناعات الحربية، والقتالية، حتى لو لم تكن من بدايتها لأجل ذلك ولكن في نهايتها تُستخدم في الحرب والقتال، وصناعة الموت لا صناعة الحياة، وصناعة السموم قبل صناعة الدواء، وتلك هي الكارثة العظمى لهذه الحضارة العملاقة.
فلماذا الحرب والموت والدمار والنار يا أدعياء الحضارة والرقي والتقدم التقني وليس الحب؟
والحرب؛ هذه الظاهرة الاجتماعية التي بدأت قبل أن يُخلق الإنسان ويسكن في هذه الأرض، حيث بدأت مسألة العداوة لآدم (ع) من إبليس اللعين حين أمر الله ملائكته بالسجود لهذا المخلوق المكرَّم الذي خلقه الله من طين، ونفخ فيه نفخة ونفحة إلهية (الروح)، وهي الجوهر القدسي في هذا المخلوق الإنسي، وهو ما خفي على إبليس وجنسه الجنِّي، فحسده على تلك الكرامة، ثم ناصبه العداء حيث قال: (فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ). (سورة ص: 83)
وقال: (فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ). (الأعراف: 17)
فكانت أول جريمة قلبية وقعت من إبليس اللعين هي الحسد لآدم (ع)، فوسوس له لتناول ثمار تلك الشجرة المنهي عنها، وأقسم كاذباً بأنه ناصحاً، فكانت أول كذبة ويمين كاذبة، ولما هبط أبونا آدم إلى الأرض، وكان من المخلَصين المحصنين من مكائد إبليس فبدأ يعمل على أولاده وذريته فوقعت أول جريمة وعدوان في جنس الإنسان بين ابني آدم حيث قتل قابيل الشقي، أخاه هابيل التقي، فانتصر إبليس الغوي.
تلك كانت أول منازعة، وأول جريمة قتل وقعت في التاريخ، قال تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آَدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) (المائدة: 27)، ومن ذلك اليوم بدأت قصَّة الحرب تلك الظاهرة الاجتماعية النشاز العدوانية في تاريخ البشرية، لأن الأصل في الحياة والاجتماع البشري السِّلم والسَّلام، والأمن والأمان، وما الحرب إلا خروج عن الأصل الصحيح، وانحراف عن المنهج السماوي القويم في بناء المجتمع الإنساني.
فالحرب؛[1] هي ظاهرة اجتماعية قديمة قدم الوجود والإنسان كظاهرة استثنائية في هذا الكون وأول مظهر من مظاهر الحرب الإنسانية كانت بين الأخوين قابيل وهابيل أبناء آدم (ع) وكان الضحية ربما ربع العالم في ذاك الزمن الموغل في القدم وهكذا استمرت وتجددت عبر الأجيال وتطورت تطور المجتمعات وكثرت بكثرة البشر وتنوعهم وتوزعهم على هذه الكرة الترابية..
الموقف الإسلامي من الحرب
الإسلام دين السلام والأمان، والحرب أسوء شيء عرفه الإنسان في تاريخه الطويل لأنها توجب قتل الإنسان، أو نقص أعضائه، وفقد بعض قواه وتشويهه.. كما توجب هدم العمران وإثارة البغضاء والشحناء بين البشر وإيراث الأجيال العقد النفسية، أو الوقوع بالأسر.. ولذا يكون من الازم تجنب الحرب بأية قيمة (أو طريقة) وإذا إضطر الإنسان (أو البلد) إلى الحرب لأن عدوه جرَّه إليها، كان الواجب أن يقتصر فيها على أقصى درجات الضرورة..
فالحرب في ذاتها قبيحة لما فيها من قتل النفوس والتخريب والتدمير وقد قال سبحانه مؤيدا لذلك: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) (البقرة: 216)، فالحرب؛ هي ظاهرة اجتماعية تمليها الغرائز الفاسدة، وليست أمراً طبيعياً في البشر".[2]
فهي حالة إستثنائية في الإمكان الوقوعي حالها حال إجراء عملية جراحية.. وإلا فاللازم عند الخلاف تحكيم الحوار ورضوخ مَنْ ليس له الحق للحق، ومن مفاخر الأديان عبر الأجيال أنها كانت تحكِّم الكلمة (والمنطق والحوار لحل النزاعات الناشئة).. والحرب على قسمين..
1ـ حرب باطلين.. وتُسمى: بحروب الاستغلال والاستعمار واحتلال الغير وإخضاعه..
2ـ حرب حق وباطل.. والحق لا يقدم على الحرب إلا دفاعاً أو لأجل إحقاق الحق وإنقاذ المستضعفين.. وتُسمى: حروب التحرير (أو ثورات التحرر الوطنية بلغة معاصرة).
فالإسلام يكره الحرب ويدعوا إلى السِّلم والسلام ودعوته هذه واضحة من اسمه الشريف (الإسلام)، فالآيات القرآنية المباركة، والأحاديث النبوية الشريفة، ومواقف أئمة المسلمين، كلها تدعو إلى السلام، وإتباع نهج الدعوة إلى الإسلام بالكلمة الحسنة، والجدال بالتي هي أحسن..
أما إذا اضطر الإسلام للحرب فإن لها عدد كبير من القيود والشروط لأن المناقبيات والأخلاق الإسلامية يجب أن تطبَّق في أحلك الظروف كما تُطبَّق في الأيام العادية وأيام الرَّخاء.. فالإسلام رسالة هداية ونور من الله الرحمن وكتاب الله ينادي بالجميع: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ). (البقرة: 208)
ويقول: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). (الأنفال: 61)
يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه الرائع (السياسة من واقع الإسلام): "ولم يكن الإسلام - يوماً ما - مثل هذه الدول التي تدعو إلى السلام في شعارها فقط، ثم إذا قامت الحرب أفنت قنابلها عشرات الملايين، وتفتخر بأنّ في استطاعتها إبادة العالم في دقائق معدودة.
وعجيب هذا! أيكون الفخر بالتدمير وسفك الدماء؟!
ولكن الإسلام حينما يدعو قرآنه إلى السلام، يسير على السلام في الصغيرة من خطواته والكبيرة، فهذا التاريخ يحدّثنا بأنّ دولة الإسلام قامت على أقل من ألف وأربعمائة ضحية من المسلمين والكفّار جميعاً، وكان ذلك نتيجة الحروب التي شنّها الكفّار، فدافع المسلمون عن أنفسهم.. فهل ترى اليوم يقام نظام، على أقل من ملايين من الضحايا؟
ومن سياسة الإسلام الإنسانية في الحروب: أنّه لم يبدأ بحرب قط، فالحروب والغزوات التي قامت في حياة الرسول الأعظم (صلی الله عليه وآله) كلها كانت دفاعية كما أنّه لم يبدأ بحرب إلا بعد الصبح".[3]
وكان من سيرة أمير المؤمنين الإمام علي (ع) أنه يبدأ القتال بعد الظهر ليكون أقرب إلى الليل حيث يحجز الظلام بين الطرفين ولتكون فرصة لمراجعة النفس أو حتى الفرار من الحرب في عتمة الليل البهيم، فتقل القتلى بين الطرفين لأن الدماء البشرية مقدسة في شرائع السماء.
فالإسلام يدعو إلى السلام لا إلى الحرب، وإلى العمار لا إلى الدمار، وإلى الحضارة لا إلى الحقارة، وإلى القيم والفضائل لا إلى التحلل والرذائل، وهذا راسخ وواضح في الأسس والأصول العامة للإسلام إلا أنه لا يُريد للإنسان المؤمن فيه الذِّلة والخضوع للظالمين، لأن المؤمن عزيز وعزته من عزة الله عز وجل، ورسوله الكريم (ص).
ولأن سنن الكون تقول: بأن التنازع بين الأقوياء، أو الضعفاء، أو الأقوياء والضعفاء، ستكون للأقوى والأجدر، والرسالات السماوية تقول: للأصلح، والأفضل، وأتقى، والأرقى، فإذا لم تمتلك القوة سيمتلكها غيرها كما هو حالنا حالياً، وسيهددنا أو ربما يغزونا فيها، أو على الأقل يفرض علينا ما يشاء كيف يشاء متى ما يشاء.. لذلك قال ربنا سبحانه: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) (الأنفال:60 - 61)، ليكن الإعداد والقوة أولاً ثم الجنوح للسلام من منطلق القوة وفرض الحق وعدم الإستسلام للباطل أو مداهنة أهله بأي شكل من الأشكال، وأما ما يجري اليوم على الساحة العربية من إنهزام أمام المشروع الصهيوني فهو عار وشنار يلحق كل الراكضين خلف أعداء الله وأعدائهم بل وأعداء الإنسانية والبشرية.
فمسألة القوة والعلم؛ هي مسالة في غاية الأهمية بالنسبة لهذه الحياة فالقوي دائماً مرهوب الجانب والإعداد الإسلامي لهذه القوة هو دائماً ضرورة حضارية وأمنية من أجل إرهاب الأعداء والعلم العسكري قديماً وحديثاً يُقرر: بأن الإعداد والتحضير الجيد للحرب يمنع وقوع الحرب.
الحضارة الرقمية والسلام العالمي
نعم؛ الثورة العلمية، والحضارة الرقمية اليوم جعلت من الكرة الترابية قرية إلكترونية ولكن هل استطاعت أن تجعلها واحة للأمن والسلام؟ أو ينعم في ظلها الإنسان بالراحة والاطمئنان؟
كلا، وألف كلا؛ بل صات الدنيا وكأنها على فوَّهة بركان تنتظر الثوران لتذوب في حممه النارية وتكون في خبر إن وكان، والأسباب الواضحة لفشل الحضارة العلمية الرقمية في ذلك هو ما أظهرته جائحة كورونا أو (كوفيدا 19) حيث أظهرتها على واقعها البشع، وحقيقتها المرَّة من حيث خواءها من القيمة والفضيلة والإنسانية.
فالمشكلة تعود إلى أن الحضارة يقودها شياطين وفراعين، ويتحكم فيها قوارين، وما أقساها وأصعبها تلك الحياة عندما يقودها فرعون يجبر الناس على عبادته وخدمته لأنه إله أو نصفه، وما أفقر الشعوب والأمم عندما يتحكم في قوتها وعصب حياتها (الاقتصاد) قوارين لا يعرفون معنى أن يعيش الإنسان جائعاً، أو مشرداً، أو منبوذاً للونه، أو شكله أو فقره، أو مرضه وبؤسه؟
فكيف سيعم الأمن والسلام وقادة العالم المتحضر يبحثون عن الحرب والدمار لتحقيق مصالحهم الشخصية والقومية فهم أولاً ومن بعدهم العالم إلى الجحيم فلا شأن لهم، فتراهم يقذفون ملايين الأطنان من القمح في المحيط ليُحافظوا على سعره، وينام الملايين جياعاً لا يجدون اللقمة؟
فالمشكلة في الحضارة الرقمية هي الفساد بالمعنى الكلي للكلمة؛ بكل مناحي الحياة لا سيما الفساد السياسي، والاقتصادي، والتجاري، والإداري، والعسكري، والخلل في منظومة القيم الحضارية حيث تعصف بها أزمات عالمية خانقة أدخلوا أنفسهم فيها ولا يعرفون كيف الخروج منها، يدورون في حلقة مفرغة ويفكرون فيها ولو نظروا إليها من خارجها لعرفوا الحل، ولكن مَنْ يستطيع أن يخرج من متاهة الحضارة الرقمية المعاصرة؟
يقول سماحة السيد المرجع الشيرازي في ذلك: "لا.. لكل فساد فعن محمد بن سنان، أنّ أبا الحسن الرضا (عليه السلام)، كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: (حرّم الله الفرار من الزحف، لما فيه من الوهن في الدِّين، والإستخفاف بالرُّسل والأئمة العادلة (عليهم السلام)، وترك نصرتهم على الأعداء، والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية، وإظهار العدل، وترك الجور، وإماتة الفساد، لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين، وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله عزّ وجلّ وغيره من الفساد)[4].
الإسلام دين الصلاح، والصلاح والفساد لا يجتمعان، إذن: لا، لكل أنواع الفساد في الإسلام".[5]
الإسلام دين الحب
وما يُميِّز رسالات السماء ودين الله الإسلام هو منظومته الفكرية، والقيمة الناظمة للحياة كلها والتي تبنيها على أساس التوحيد، فلا حضارة للشرك، ولا تقدم مع غياب منظومة السماء، ولذا ترى الإنسان المعاصر يبحث عن الحضارة لينعم فيها بالسعادة التي يأمل، ويحلم بها منذ أن خلقه الله، ولكنه أضلَّ الطريق الصحيح والسوي لتلك الحضارة الإنسانية، فتراه في ظل التطور التقني والتقدم العلمي بنى ناطحات السحاب، والأقمار الصناعية، والطائرات العملاقة، والغواصات النووية، ولكنه نسي نفسه فأهملها فصار عبء على الحضارة وراح أهل السياسة والاقتصاد يبحثون عن التخلص منه إذا أُحيل إلى المعاش وكبر سنه.
ولذلك تحدثت كل رسالات السماء وبدأت من قاعدة التوحيد، لأن المجتمع دون تلك القاعدة الموحدة لا يمكن أن تقوم له قائمة، أو يبني حضارة، والتقوى الفردية والاجتماعية هي حصن الحضارة وضمان عدم انهيارها، ولذا أمر الله بها وكانت وصية كل الأنبياء (ع) عبر التاريخ.
والتقوى تعني؛ الخوف، والحذر من المعصية، والسلوك المنحرف، والابتعاد عن قيم الحق والعدل والفطرة السليمة التي خُلق البشر عليها، كالقتل، والسرقة، والزنا، والظلم، والدجل، وكل المفاسد، فهي الذنوب والمعاصي التي يرفضها العقل السوي، والفطرة السليمة في البشر، والتاريخ والواقع يشهد على أن هذا السلوك المنحرف، والمعاصي المختلفة، هي السبب في انهيار الحضارات.
فالأنبياء العظام (ع) يرسمون لنا خارطة الطريق، ولكن تبقى إرادة الإنسان هي التي تقرر أن يسير بضوء ونور السماء ويسعى لبناء مدنيته وحضارته، أو يبقى محبوساً وراء الطغاة ينعم في ظلام الجهل والجاهلية البغيضة، وقد ورد في الرواية: (هل الدِّين إلاّ الحبّ في الله والبغض في الله).[6]
وجميل ما يقوله سماحة السيد المرجع صادق الشيرازي (حفظه الله): "وبالحبّ والفضيلة استطاع الإسلام أن يكسب العالم فكرياً، ويخضع حكومات الدنيا سياسياً، حتى أنّ المؤرخين يذكرون: أنّ الزحف الإسلامي في قوته وسرعته هو الفريد الذي لم يحدّثنا تاريخ العالم كله لـه مثيلاً ولا نظيراً.
وما هذا التأخر الفظيع الذي حدث للمسلمين في هذا القرن إلا وليد عدم قدرة المسلمين على تطبيق الإسلام كما ينبغي، وقد عمد الأجانب إلى تشويه صورة الإسلام، وإعطائه إطار العنف والشدّة والقسوة، لكي يستقطبوا غير المسلمين ويضيقوا الخناق على المسلمين.
وقد إستفادوا من جهل كثير من المسلمين أيضاً، وسوء تصرّفهم، فلو أظهر المسلمون الإسلام ناصعاً كما أنزل الله لاعتنقه أكثر البشرية، لأنّ أكثر الناس ليسوا متعصّبين، وإنما هم جهّال لا يعلمون، فإذا علموا أتوا"،[7] إلى الإسلام زرافات ووحدانا كما دخلته الأمم السابقة.
فالحضارة التي ينادي ويعمل إليها الإسلام هي هذه الحضارة التي تُبنى بالحب والمودَّة والإحسان، وتنشر العدالة والحق والأمن والسلام في ربوع العالم، فتكون عولمة حق وصدق، وليس عولمة فساد وإفساد في البلاد والعباد، وهذا ما تتحدَّث عنه أحوال دولة آخر الزمان بكل ما فيها من قيم وفضائل، وستكون الكرة الأرضية واحة أمن وسلام في ظل قيادة حكيمة لصاحب الأمر والزمان (عج) بإذن الله تعالى.
اضف تعليق