تتعكز معظم القنوات الفضائية، ومعها مواقع التواصل الاجتماعي في اعداد محتويات المسلسلات التلفزيونية والبرامج الترفيهية المعروضة في ليالي شهر رمضان المبارك على حقيقة اجتماعية في معظم بلادنا الاسلامية، ومنها العراق، وهي العمل على أن تكون هذه البرامج محطة استراحة لجميع افراد العائلة، واسترخاء بعد ساعات من الشد والجذب...
تتعكز معظم القنوات الفضائية، ومعها مواقع التواصل الاجتماعي في اعداد محتويات المسلسلات التلفزيونية والبرامج الترفيهية المعروضة في ليالي شهر رمضان المبارك على حقيقة اجتماعية في معظم بلادنا الاسلامية، ومنها العراق، وهي العمل على أن تكون هذه البرامج محطة استراحة لجميع افراد العائلة، واسترخاء بعد ساعات من الشد والجذب مع معاناة وازمات من كل جانب.
فقد أجمع معظم الخبراء والمهتمين بأمر الاعلام والاتصال الجماهيري على أن الصحافة الورقية وحتى الالكترونية أخلت الساحة للتلفزيون، ثم للانترنت في ملء أوقات فراغ الناس وتحقيق المُتعة والاسترخاء بفضل الصورة المتحركة، والاحداث المثيرة للمشاعر، حتى أن الترفيه بات يحتل حيزاً كبيراً في وسائل الاعلام والاتصال، بوجود مؤسسات مالية ضخمة تصنع الترفيه بمسابقات مغرية، وألعاب، وحفلات غناء وموسيقى، حتى إن "المؤسسات التي تسهم في أنشطة الترفيه الجماهيري تمثل مكاناً كبيراً في البنية الاساسية للاتصال"، (علم الاتصال الجماهيري- الدكتور فلاح المحنّة)، فثمة اعتقاد سائد لدى بعض المعنيين بأن المشاهد اليوم بحاجة الى الترفيه والاسترخاء اكثر من المعلومة والفكرة التي ربما تعيده –وهو في البيت- الى التقاطعات والتناقضات والجدل الدائر خارج البيت على الحقيقة، والصراع المرير بين الحق والباطل، ولذا فان نفسه المتعبة –بعد جسده المنهك- يرنو الى الرجل المتميّز والمتفوق والمثير في المسلسلات التلفزيونية، وربما نجد نفس الشيء في مباريات كرة القدم بين الاندية العالمية الشهيرة عندما يشعر الشاب بنشوة غريبة، وهو في بيته الذي ربما يكون في العشوائيات، عندما يحرز لاعب شهير هدفاً على الخصم، او يفوز هذا النادي على نادي آخر، فيشعر وكأنه هو الفائز، و ربما لامس الكأس مع من يشاهدهم على الشاشة الصغيرة!
بين حقائق الواقع واحترام الاذواق الهابطة!
لعل وجود هذا اللون من المشاعر لدى الغالبية من الناس هو الذي جعل الانتقادات الشديدة على المضامين الهابطة لبعض المسلسلات التلفزيونية خلال شهر رمضان تذهب ادراج الرياح، ولا يلتفت اليها؛ لا المنتجون والراعون لهذه الاعمال، ولا حتى الجمهور، وربما وجد في الاستمرارية نوعاً من النضال من اجل تحقيق أعمال جريئة تعبر عن واقع يعيشونه، مع الاقرار ببعض المبالغات والاثارات، بيد إن المبدأ المتفق عليه بين شريحة من الجمهور و رعاة المسلسلات التلفزيونية؛ التعبير عن الواقع الموجود، كما حصل في مسلسل "فايروس"، في العراق، او المسلسلات التي تتحدث عن الفساد المالي والاخلاقي، او تتحدث عن حالات الخيانة، والغدر، وايضاً إظهار الظلامات التي يشهدها المجتمع، فيسعى المخرج لإضفاء مسحة كوميدية على حالات الفساد للتخفيف من حدّتها على النفوس والفطرة، وايضاً إضفاء مسحة حزينة ومأساوية على الظلامات لاسيما اذا كان محور القصة؛ المرأة، او الفتاة الصغيرة.
التعكّز على الواقع، وادعاء محاكاة الضمير والوجدان الجماهيري، يبدو لا يصمد أمام ابحاث أجراها علماء نفس من زمن بعيد محذرين من العواقب السيئة للاكثار من الحديث عن الواقع السيئ والظواهر السلبية من خلال الاعمال الفنية، كون هذه الاعمال يفترض انها تعبر عن مشاعر الناس وافكارهم، فاذا هي تخلق مشاعر الكراهية، واليأس، والاستخفاف في احداث متواصلة تستغرق شهر رمضان كله، بحيث يجعل –مثلاً- من إقامة الفتاة علاقات محرمة مع الشباب في الجامعة او في محيط العمل أمراً طبيعياً، ولا حاجة لادانته، حتى وإن وقع المحظور فمن الممكن إصلاح الخطأ بالاستمرار في العلاقات بين الاثنين بقطع النظر عن رأي الأسرة والمجتمع، وهكذا الأمر ينسحب على حالات عديدة.
و ذات مرة سُئل الفنان السوري المعروف دريد لحّام عما جناه من الاعمال الفنية الكوميدية التي سخر فيها من خيانة الانظمة العربية، وسياساتها القمعية والفاشلة، فأجاب بما يوحي للندم وعدم معرفة المستقبل، فربما كان يتصور إن –مثلاً- مسرحية "كأسك يا وطن" يفترض ان تغرس في المشاهد العربي الوعي السياسي، وان عليه واجبات ومسؤولية إزاء ما يجري، فهو لم يكن ممثلاً كوميدياً همّه إثارة ضحك المشاهدين وحسب، انما كان يحمل افكاراً واضحة ودقيقة منذ كان شاباً في التلفزيون ثم المسرح والسينما، بيد أن مشكلة هذا النوع من الخطاب والذي كان رائجاً في الساحة الفنية العربية أن الفكاهة والاستخفاف طغى على اصل الفكرة، فبعد اربعين عاماً من تلك الاعمال بقيت الشعوب خانعة للحكام المستبدين، ولا يعبأون لمفهوم "الوطن" في ظل الفقر والتخلف والفساد، فهو لم يتعلم كيف يغير الواقع الفاسد الذي ضحك عليه طويلاً في المسرح وفي السينما وفي التلفزيون.
وقد بحث خبراء الاعلام والاتصال في السنوات الماضية في سبب انتشار المعجبين والمتابعين لهذا النوع من المسلسلات التلفزيونية بان مردّه الى المستوى التعليمي، وحتى المستوى المعيشي عند جمهور التلفاز، فهؤلاء لا يجدون المتنفس من ضنك عيشهم ومعاناتهم وبشكل رخيص ومجان، سوى متابعة هذه المسلسلات، وهذا تجاهل مجحف للحالة المعنوية للناس، فالفقر العلمي والمادي لا يعني بأي حال من الاحوال، الفقر الثقافي و خلو هذه الشريحة من القيم والاعراف والآداب ذات المدخلية في تحديد ذائقة المشاهد، بل حتى القول بسعة جمهور "الفن الهابط"، هو الآخر تجنّي على الحالة الثقافية المتنامية لدى عامة الناس في المرحلة الراهنة، وبعد الاطاحة بانظمة الحكم الديكتاتوري و زوال مناهج التضليل والتسطيح الرسمي، وتوفر مساحات كبيرة من حرية التعبير والرأي والعقيدة، فمُشاهد الأمس ليس مُشاهد اليوم، بامكانه التمييز بين الطرح الداعي الى التحلل، وبين الطرح الداعي للالتزام والتشجيع على القيم الايجابية.
"نتفرّج بعدها نحكم" والتهرّب من المسؤولية الاخلاقية
أثيرت في الآونة الاخيرة ضجة على توقيف الرقابة المصرية بعض المسلسلات عن الشاشة الرمضانية لما فيها أخطاء في المضمون التاريخي مثل "الملك"، او ايحاءات ورسائل غير مناسبة للأسرة والمجتمع مثل "الطاووس" الذي يطرح مشكلة الاغتصاب، فكان رد المدافعين عن هذه الاعمال أن "شاهد واحكم"، واشترار مقولة؛ "لا للاحكام المسبقة"، وأن المنع والحظر يحول بين "العمل الفني" والجمهور ليحكم هو بنفسه، إن لم يدفع المشاهد للإصرار على المشاهدة، وفي اكثر التعليقات إثارة على مواقع التواصل الاجتماعي على أنصار "الملك"، أنه "عندما تسأل الممثلين عن رأيه بالنقّاد، سيقول لك: الجمهور هو الناقد الحقيقي، ولكن عندما يعطي الجمهور رأيه يرفعون هاشتاغ: "نتفرج بعدها نحكم"، في رسالة مضمونها؛ أن الجمهور جاهل و لازم نربيه ونجبره يتفرج على تشويه للحقائق والتاريخ".
وسواءٌ يكون الانتقاد لمضمون تاريخي، او اجتماعي، في الحالتين يدافع أنصار هذا النمط من الطرح الفني عن أعمالهم وأنها "تستحق المشاهدة"، كما نراهم ينتقدون لجوء الجمهور الى منصات التواصل الاجتماعي لإبداء رأيهم عادّين هذه "محاكم فنية" تدعو الى منع بعض الاعمال الفنية، وكما يحدث في مصر، يحدث في العراق ايضاً، حيث الإصرار على التحلل في الطرح، ثم التحلل من أي التزام رقابي او حتى شعبي رافض لبعض المشاهد والمضامين التي لا تنسجم مع قيم المجتمع، كما لا تناسب ليالي شهر رمضان المبارك.
إن إصرار هذا اللون من "الاعمال الفنية"، ومن يقف خلف المسلسلات من طواقم الممثلين والمصورين والكتاب، وايضاً الجهات الممولة، على الحضور في شهر رمضان، واحتلال أغلى الاوقات في ليالي هذا الشهر الفضيل، يدل على إصرار آخر للمحافظة على سعة الشريحة المُحبة لهذا النمط من الفن، وعدم التفكير بأعمال ذات جنبة تنموية بناءة في مجال السلوك الاجتماعي، او حتى ما يتعلق بالمفاهيم الوطنية والانسانية، بدعوى الابتعاد عن الشعارات والمثاليات، متناسين الطابع العام لشهر رمضان وأنه قائم اساساً على الجانب المعنوي البحت، فهو شهر "دُعيتم فيه الى ضيافة الله"، والإمساك عن الطعام والملذات بهدف تحصيل التقوى وتعزيز القوى الداخلية في النفس، مثل الأمل، والإيمان، والثقة بالنفس، والارادة، فمن المفترض ان تكون الاعمال الفنية على الشاشة الصغيرة، وحتى على مواقع التواصل الاجتماعي منسجمة مع أذواق الصائمين، لا ان تسعى لجرّهم من أجواء الصوم والعبادة وما يرجوه من آثار على نفوسهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي، الى إزالة جميع هذه الآثار الايجابية والبناءة لهذه الفريضة الحيوية.
اضف تعليق