الدرس الأهم من التجربة الأسترالية ليس في تقليد القرار حرفيًا، بل في فتح النقاش. حماية الأطفال ضرورة، نعم. لكن الحماية لا تعني العزل، ولا تختزل بقرار إداري. المطلوب هو مقاربة شاملة: تعليم رقمي في المدارس، تمكين الأهالي بالأدوات، إلزام المنصات بالشفافية، وفتح حوار صادق مع الأطفال أنفسهم...
في لحظة وصفت بأنها “تسجل في التاريخ”، قررت أستراليا أن تضع حدًا فاصلاً بين الطفولة والعالم الرقمي، فأغلقت أبواب وسائل التواصل الاجتماعي أمام من هم دون السادسة عشرة. قرار جريء، صادم للبعض، ومريح لقلوب كثير من الآباء، لكنه في الوقت نفسه فتح نقاشًا عالميًا لا يقل اتساعًا عن الفضاء الإلكتروني نفسه: هل حماية الأطفال تعني عزلهم؟ أم أن العالم بات فعلًا أضيق إلى درجة تستدعي هذا المنع؟
القرار الأسترالي لم يأتِ على استحياء، بل جاء بحظر شامل، لتصبح أستراليا أول دولة تتخذ هذا المسار الصارم بدل الاكتفاء بالتوصيات أو القيود الجزئية. رئيس الوزراء أنتوني ألبانيز لم يخفِ فخره، واعتبر الخطوة “إصلاحًا عظيمًا”، ورسالة واضحة مفادها أن الدولة تقف إلى جانب الآباء في معركة لم يعودوا قادرين على خوضها وحدهم. لكن، بعيدًا عن لغة السياسة، ما الذي يعنيه هذا القرار فعليًا للأطفال؟ وكيف يمكن أن يقرأ في دول أخرى، مثل العراق، حيث الواقع الاجتماعي والتقني مختلف، وربما أكثر تعقيدًا؟
بين الحماية والوصاية
من حيث المبدأ، لا يختلف اثنان على أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تعد مجرد منصات ترفيه. هي اليوم ساحات ضغط نفسي، ومقارنات قاسية، وتنمر إلكتروني، وتسويق خفي، وإدمان مقنع. الأرقام العالمية حول الاكتئاب والقلق بين الأطفال والمراهقين ترتفع، وغالبًا ما توضع المنصات الرقمية في قفص الاتهام. من هذا المنطلق، يبدو القرار الأسترالي منطقيًا، بل متأخرًا في نظر بعض المختصين.
لكن الوجه الآخر للصورة لا يقل أهمية. الأطفال الذين خرجوا للحديث عن القرار قالوا، بعبارات بسيطة ومؤثرة، إن “العالم أصبح أضيق”. ليس لأنهم فقدوا تطبيقًا، بل لأنهم شعروا بأن نافذتهم على الأصدقاء، والأفكار، والهوايات، وحتى التعبير عن الذات، أغلقت فجأة. بالنسبة لجيل ولد وفي يده هاتف ذكي، لا يمكن التعامل مع وسائل التواصل بوصفها رفاهية زائدة، بل كجزء من بنية الحياة اليومية.
السؤال هنا: هل الحل هو المنع؟ أم التنظيم الذكي؟ وهل نعالج المرض بقطع العضو، أم بتقوية المناعة؟
مسؤولية الدولة أم دور الأسرة؟
أحد أهم أبعاد القرار الأسترالي أنه نقل جزءًا من العبء من الأسرة إلى الدولة. كثير من الآباء يعترفون اليوم بعجزهم عن مراقبة كل ما يمر عبر الشاشات الصغيرة، في عالم يعمل على مدار الساعة. هنا، تتدخل الحكومة لتقول: لسنا محايدين، وسنضع خطًا أحمر.
لكن هذا التدخل يفتح بابًا آخر للنقاش: إلى أي مدى يحق للدولة أن تقرر عن الأسرة؟ وهل يمكن لقانون واحد أن يناسب جميع الأطفال، بمستويات نضجهم المختلفة، وبيئاتهم المتباينة؟ الخطر أن يتحول القرار من أداة حماية إلى شكل من أشكال الوصاية، خاصة إذا لم يرفق بسياسات تعليمية وتوعوية بديلة.
الاقتصاد الرقمي… والوجه المسكوت عنه
لا يمكن تجاهل أن وسائل التواصل ليست فقط منصات تواصل، بل اقتصاد ضخم. آلاف الأطفال والمراهقين حول العالم وجدوا فيها مساحة للإبداع، والتعلم، وحتى تحقيق دخل مبكر عبر المحتوى. الحظر الشامل قد يغلق هذه الأبواب، أو يدفع الأطفال إلى التحايل باستخدام حسابات وهمية، ما يفرغ القرار من مضمونه.
كما أن الشركات التقنية الكبرى لن تقف متفرجة. هذا القرار، إن انتشر، قد يعيد رسم علاقة المنصات بالمستخدمين، ويجبرها على تطوير نسخ أكثر أمانًا للأطفال، أو آليات تحقق عمرية أكثر صرامة. وهنا، قد يكون الأثر الإيجابي الحقيقي.
العراق… متى؟ وكيف؟
السؤال الذي يفرض نفسه محليًا: متى يمكن أن يُطرح مثل هذا القرار في العراق؟ والأهم: هل هو قابل للتطبيق أصلًا؟
في العراق، حيث أكثر من نصف السكان دون سن الخامسة والعشرين، ووسائل التواصل ليست فقط ترفيهًا بل متنفسًا، ومنبرًا، وأحيانًا مصدر رزق، يبدو الحظر الشامل خيارًا شديد الحساسية. البنية القانونية غير مكتملة، والرقابة التقنية ضعيفة، والثقة بين المواطن والقرار الحكومي ليست في أفضل حالاتها.
رد فعل الأهالي، على الأرجح، سيكون منقسمًا. فئة سترحب، بدافع الخوف على أبنائها من محتوى غير لائق، أو علاقات خطرة، أو إدمان يلتهم الوقت والدراسة. وفئة أخرى سترى في القرار هروبًا من معالجة جذور المشكلة: ضعف التعليم الرقمي، غياب البدائل الثقافية والترفيهية، وانعدام التوعية الحقيقية.
أما الأطفال والمراهقون، فمن المتوقع أن يكون رفضهم صريحًا. ليس عنادًا، بل لأن المنصات الرقمية بالنسبة لهم ليست “عالمًا افتراضيًا” كما يراها الكبار، بل امتداد طبيعي لحياتهم الاجتماعية. منعهم دون إشراكهم في النقاش سيُنتج فجوة أعمق بين الأجيال.
الحل ليس أبيض أو أسود
الدرس الأهم من التجربة الأسترالية ليس في تقليد القرار حرفيًا، بل في فتح النقاش. حماية الأطفال ضرورة، نعم. لكن الحماية لا تعني العزل، ولا تختزل بقرار إداري. المطلوب هو مقاربة شاملة: تعليم رقمي في المدارس، تمكين الأهالي بالأدوات، إلزام المنصات بالشفافية، وفتح حوار صادق مع الأطفال أنفسهم.
العالم فعلًا أصبح أضيق، لا بسبب التكنولوجيا وحدها، بل بسبب عجزنا عن إدارتها بحكمة. وإذا كانت أستراليا قد اختارت طريق الصدمة، فإن دولًا مثل العراق بحاجة إلى طريق التدرج، حيث يصان حق الطفل في الأمان، دون أن يسلب حقه في أن يكون جزءًا من عصره.
في النهاية، السؤال ليس: هل نمنع أم نسمح؟ بل: كيف نربي جيلًا يعرف متى يفتح الشاشة، ومتى يغلقها، دون أن يحتاج إلى قانون يمسك بيده طوال الوقت.



اضف تعليق