إنّ الفرق بين العبادة المقرونة بالمعرفة وبين العبادة المفتقرة لها، كالفرق بين الوردة الواقعية ورسمها، من حيث إنّ لهما ماهيّتين ومعنيين، فليس لرسم الوردة الشكلية أيّ حقيقة من حقائق الوردة ذاتها. ولعلّ رسّاماً بارعاً يتمكّن من تصوير وردة هي في شكلها أجمل وأروع من الوردة الحقيقية...
(الإنسان يتمتّع بنوعين من الرؤية، إحداهما باصرة، والأخرى معنويّة كاشفة)
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)
المعرفة هي إدراك كنه الشيء، وليس ملامسة سطحه أو شكله الخارجي بالنظر، بمعنى لابد من التوغل إلى أعماق الشيء، كي ندرك ما خفي منه، ولا يكفي أن ننظر إلى خارجه بالعين ونكتفي بذلك، والإدراك هنا شرط من شروط الفهم والمعرفة، لهذا لن يكتمل الإبصار إلا برؤية الباطن مع ما يظهر من الشيء.
أي عمل يُقبل عليه الإنسان لابد أن يفهمهُ أولا، أي يعرفهُ ويدرك خفاياه وتفاصيله، والنظر هو أول مجسات الإنسان للفهم، ولكن تبقى الرؤية الخارجية قاصرة، ولن تتمكن من منح الإنسان الفهم المطلوب كي يبدأ هذا العمل أو ذاك، والعبادة عمل له شكله وله جوهره أو باطنه أيضا، لذا لن يكفي أن يعرف الإنسان ظاهر العبادة ويجهل جوهرها.
الفارق كبير وواضح بين رؤية العين ورؤية البصيرة الكاشفة، وكثيرا ما تخطئ نظرة العين للأشياء لأنها تراود السطح أو الشكل، ولكن قلّما تخطئ البصيرة، لهذا نحن بحاجة قصوى إلى رؤية البصيرة، كونها تتوغل في الأعماق، وتعتمد المعرفة والإدراك، وتمنح الإنسان معلومات معرفية وافية عن كنه الشيء وتفاصيله غير المرئية.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يشير إلى ما ورد أعلاه في كتابه القيّم (يا أبا ذر)، فيقول:
(إنّ الرؤية إما أن تكون بالعين الظاهرية، أو بعين العقل والإدراك العقلي. ومن خصائص العين الباصرة كثرة الخطأ، علماً أنّ «الرؤية بالعقل» قد تخطئ هي الأخرى أحياناً، ولكن خطأها أقلّ بكثير من خطأ العين المادّية، وأنّ البصيرة موجودة لدي جميع الناس ولكنّها بدرجات متفاوتة).
الناس ليسوا سواسية في عملية الإدراك أو التبصّر، فالأمر يعود إلى العقل والخبرة والإطلاع والذكاء، وحتى موهبة الإنسان لها دور في عملية الاستقصاء المعرفي الإدراكي للأشياء والأفعال والظواهر، فهناك من يمتلك بصيرة ثاقبة تفوق بكثير رؤية العين، وهناك من يعاني من خلل في بصيرته، وهو خلل تعود أسبابه إلى نواقص عدة، أبرزها الفقر المعرفي.
يستطيع الإنسان، صاحب البصيرة القاصرة، أن يطورها، وأن يرتفع بمستواها إلى البصائر الثاقبة التي تتسم بالفراسة والحكمة، وهذا يعتمد على اشتغال الإنسان ومواظبته في استبطان ماهية الشيء، كالعبادة التي تستوجب كشف الباطن ومعرفة الأعماق أو الأسرار العميقة، وعدم الاكتفاء بظاهر العبادة، ولذلك كلما ارتقت البصيرة، صارت العبادة أكثر جلاءً ووضوحا، وأصبح إدراك الله ممكنا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (بهذه البصيرة ـ بمستواها الراقي، طبعاً مع شرط التربية والمحاسبة الدقيقة والمتواصلة ـ يمكن إدراك الله عزّ اسمه، وبهذا الإدراك تتمّ عبادة الله أيضاً).
الترابط الحتمي بين المعرفة والعبادة
مثلما تلزم الإنسان تربية بصيرته عبر التدقيق والمراقبة الذاتية، وعبر تخفيف أو إزاحة العوز المعرفي كليّا، فإن عبادة الإنسان للخالق جلَّ وعلا لابد أن تقترن بالمعرفة، والأخيرة تساعد على نحو حاسم في تعضيد البصيرة، ومن ثم يكون الإنسان عارفا بما مطلوب منه في مجال العبادة.
الصلاة على سبيل المثال ليست حركات آلية تحدث في السجود والقيام والقنوت، وإنما هناك (انقطاع كلّي) عن الواقع المحيط، وإحداث الاتصال الروحي العميق مع الذات الإلهية، هذا الانقطاع عن الدنيا ومشاغلها، وإلغاء ما يلهي الإنسان أثناء العبادة، من هموم أو أهداف أو مشاكل، لا يمكن أن يحدث أثناء تأدية العبادة، إلا بعد معرفة عميقة لهذا الفرض، وللدين وما يتبع هذه المعرفة من التزامات.
أما إذا تم أداء العبادة بطريقة روتينية، وكأنها فرض يومي آلي يؤديه الإنسان في وقت معين وينتهي الأمر، فهذا يعني وجود خلل معرفي بالعبادة، وسوف يكون أداء الفرض أو الطقس العبادي غير مكتمل، أما ما يجعله متكاملا فهو اقترانه بالمعرفة المسبقة، لذلك كلما كانت بصيرة الإنسان قوية، كانت معرفته عالية، ومن ثم تقوى وتتماسك عبادته بهذه البصيرة والمعرفة في نفس الوقت، ولن يكون أداء هذا الفرض الديني أو ذاك روتينيا، كما يحدث مع من يصلي بلا معرفة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد هذه النقطة حين يقول:
(العبادة غير ذات فائدة دون المعرفة، كما أنّ المعرفة التي لا تستتبعها العبادة ناقصة، كما هي العلاقة بين الصلاة والطهارة؛ إذ لا صلاة بلا طهارة، ولا تنفع الطهارة تارك الصلاة).
وهنالك خطر أكبر في عدم اقتران العبادة بالمعرفة، فالإنسان قد يرتكب محرمّات (معروفة و واضحة)، لكنه في نفس الوقت يؤدي الفرائض الدينية أو بعضها كالصلاة، وهو لا يعي بأن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وترفض ارتكاب الحرام، وبعضهم يعرف بهذا الشرط الواضح، لكنه لا يمنع نفسه عن الحرام.
متى يكون الإنسان محصناً ضد الانحراف؟
الخلل هنا غالبا ما يكون مزدوج، فمن يزاوج بين (الحرام، والعبادة) في وقت واحد، تنقصه البصيرة السليمة، ولديه خلل بالمعرفة، كما أنه يعاني من هشاشة الإيمان الصلب، لذلك من المحال أن تأتي العبادة صحيحة دون معرفة تعاضد البصيرة وتطورها وتحميها من الضعف والضمور.
كذلك هنالك مشكلة أصعب، حين تفترق المعرفة عن العبادة، لأنها في هذه الحالة سوف تكون مصدر ضرر لمن يؤديها، فتقودهُ إلى الرياء وحتى الشرك، فتنعكس لديه الثوابت، وتختلط عليه الأوراق، فيرى الذنب لا غبار عليه، ويظن أن الشرك نوع من التوحيد!!
هذا ما يشير إليه سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) في قوله:
(إنّ العبادة إذا لم تقترن بالمعرفة، أصبحت عامل ضرر، وأخرجت العابد عن جادّة الصواب، فيرى نفسه منحرفاً نحو الشرك والرياء. والعابد على هذا النحو سيعتقد بالشرك توحيداً وبالذنب ثواباً، وستكون حتى عبادة الصنم حسب وجهة نظره عبادة لله، وهكذا تكون العبادة له بمثابة الطعام المسموم، فتصيب الروح بالمرض، بدلاً من أن تكون عامل إنقاذ للروح والنفس، وتغرق صاحبها في الضلال وتعب الروح ومرضها).
إذاً يقف الإنسان أمام مفترق، ويصبح إزاء مشكلة معقّدة، فهو يؤدي الصلاة والفرائض الأخرى، وملتزم بالجوانب الشكلية التي ترافقها، كالوضوء مثلا، لكن بسبب ضعف البصيرة وقلة المعرفة، تحولت الصلاة إلى أداء يومي روتيني، بعيدا عن الاتصال والانقطاع العميق، ولكونها شكلية، فإنها لا تؤثر في صاحبها، فيذهب إلى ارتكاب الحرام مع أنه يؤدي صلاته وفرائضه.
هناك أمثلة موجودة في واقع المسلمين، أي هناك أشخاص يعبدون الله، لكنهم في نفس الوقت لا يتورعون عن الإتيان بالمعصية، والسبب تحوّل الفريضة إلى فعل روتيني، يخلو من العمق والانقطاع لله، مع غياب المعرفة وضعف البصيرة، وتصبح المشكلة أكبر حين يتبوّأ هؤلاء مراكز مهمة مسؤولة عن حقوق الناس.
ولكي تكون النتائج أكثر وضوحا، يأتي سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، بمثال واضح، كي يقرِّب للناس الفارق بين العبادة التي تقترن بالمعرفة وخلافها، فيقول سماحته:
(إنّ الفرق بين العبادة المقرونة بالمعرفة وبين العبادة المفتقرة لها، كالفرق بين الوردة الواقعية ورسمها، من حيث إنّ لهما ماهيّتين ومعنيين، فليس لرسم الوردة الشكلية أيّ حقيقة من حقائق الوردة ذاتها. ولعلّ رسّاماً بارعاً يتمكّن من تصوير وردة هي في شكلها أجمل وأروع من الوردة الحقيقية، ولكن يستحيل أن يكون لها مميّزات الوردة الواقعية).
نستخلص مما تقدَّم، أن الإنسان مطالَب بتقوية البصيرة، وعليه أن يذهب نحو المعرفة دائما، لأنه في حال جمع بين الاثنتين، ضمن العبادة المكتملة، وبالتالي فهو محصّن من الانحراف، أو التجاوز على حقوق الناس - لا سمح الله – حتى لو أتيحت له فرص هذا التجاوز، كأن يكون مسؤولا كبيرا أو ما شابه، المهم بالنتيجة ضمان الترابط بين المعرفة وقوة البصيرة تحقيقا للعبادة المكتملة.
اضف تعليق