q
مسألة تحديد منشأ وانتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الذي ضرب العالم وتسبب بخسائر كبيرة، لا تزال مثار جدل وخلاف، خصوصاً مع استمرار الاتهامات والازمات، واتُهمت عدة دول، منها الولايات المتحدة وأستراليا على وجه الخصوص، بكين بالتقليل من خطورة تفشي المرض خلال مراحله المبكرة، ومنع الاستجابة الفعالة حتى فوات الأوان...

مسألة تحديد منشأ وانتشار فيروس كورونا المستجد (كوفيد-19) الذي ضرب العالم وتسبب بخسائر كبيرة، لا تزال مثار جدل وخلاف، خصوصاً مع استمرار الاتهامات والازمات، واتُهمت عدة دول، منها الولايات المتحدة وأستراليا على وجه الخصوص، بكين بالتقليل من خطورة تفشي المرض خلال مراحله المبكرة، ومنع الاستجابة الفعالة حتى فوات الأوان. كما حملت إدارة الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته دونالد ترامب، مراراً الصين المسؤولية عن جائحة كوفيد-19، ووصف ترامب فيروس كورونا بـ(الفيروس الصيني). وكتُشف كوفيد-19 للمرة الأولى في ووهان أواخر 2019 وانتشر مذّاك في أنحاء العالم كافة وأصاب عشرات الملايين من البشر. وتسعى منظمة الصحة العالمية والكثير من الدول لفهم منشأ فيروس كورونا.

وواجهت مهمة لبعثة خبراء منظمة الصحة العالمية إلى الصين للتحقيق في مصدر فيروس كورونا المستجد حالة من الإرباك بعد أن رفضت بكين السماح للفريق بدخول أراضيها في اللحظة الأخيرة رغم أشهر من المفاوضات الشاقة. وكان من المتوقع أن يصل عشرة خبراء إلى الصين، في مهمة مسيسة وبالغة الحساسية لمعرفة كيف انتقل الفيروس من الحيوان إلى البشر.

لكن فيما يوجد عدد من أعضاء الفريق في الترانزيت، امتنعت الصين عن منحهم تأشيرات دخول ما دفع بالمدير العام لمنظمة الصحة العالمية تيدروس أدهانوم غيبرييسوس لإبداء “خيبة أمل كبيرة”.

ورغم وابل الانتقادات قاومت بكين حتى الآن الضغوط لإجراء تحقيق مستقل، بل زرعت الشكوك حول ما إذا كان الوباء نشأ أساسا داخل حدودها. وأكدت الناطقة باسم وزارة الخارجية هوا شونيينغ عدم إعطاء فريق منظمة الصحة العالمية الضوء الأخضر للدخول كما كان مقررا مضيفة “ليست مجرد مسألة تأشيرة”. وقالت في إيجاز صحفي روتيني إن “مسألة تتبع منشأ الفيروس بالغة التعقيد”. وأضافت “لضمان سلاسة عمل فريق الخبراء الدوليين في الصين، يتعين علينا القيام بالإجراءات الضرورية والترتيبات اللازمة”.

ويقول الخبراء إن التوترات الجيوسياسية أفرغت التعاون الدولي الضروري لمكافحة الفيروس في مراحله المبكرة، من مضمونه. وقالت إيلونا كيكبوش، المؤسسة ورئيسة مركز الصحة العالمي في جنيف إنه لولا الحروب التجارية والتوترات في 2019 “ما كان ينبغي لكانون الثاني (يناير) 2020 أن يكون سيئا لهذا الحد”. وأضافت “التوترات الجيوسياسية … قادت العالم إلى هذا الوضع”.

روايات متضاربة

وتحديد أصل كورونا المستجد يزداد تعقيدا بعد عام على بدء انتشار الجائحة وفي 11 كانون الثاني/يناير 2020، وأعلنت بكين بعد يومين على الوقائع، تسجيل أول وفاة معروفة بفيروس كورونا المستجد وهي لرجل في سن 61 عاما كان يتردد باستمرار على أحد أسواق مدينة ووهان التي تعد 11 مليون نسمة في وسط الصين. وبعد وفاة هذا الرجل الذي لا يزال اسمه مجهولا حتى اليوم. وإن بات واضحا أن الوباء ظهر للمرة الأولى نهاية 2019 في سوق هوانان الواسع في ووهان حيث كانت تُباع حيوانات برية حيّة، فلا يمكن الجزم بالضرورة بأن هذا المكان يشكّل مهد الفيروس الفتّاك.

ويعود ذلك إلى أن الفيروس يحتاج وقتا طويلا ليتحول بدرجة تتيح له التفشي بسرعة، وفق عالم الأوبئة في جامعة جورجتاون في واشنطن دانيال لوسي. وبالتالي فإن الانتقال السريع للعدوى إثر الإبلاغ عن أولى الإصابات في كانون الأول/ديسمبر 2019 يعني أن انتشاره بدأ قبل ذلك بفترة طويلة. ويشير لوسي إلى أنه "من المستبعد تماما" أن يكون الفيروس نشأ في سوق ووهان، مضيفا "هو ظهر طبيعيا قبل أشهر عدة، ربما قبل سنة أو حتى أكثر".

لكن مشكلة أساسية تكمن في محاولة السلطات الصينية الترويج لفرضية غير مدعّمة بالوثائق عن دخول الوباء إلى الصين من الخارج، مدفوعة بحرصها على التنصل من أي مسؤولية في نشوء الفيروس. وتقول بكين إن آثارا للفيروس اكتُشفت في مياه الصرف الصحي في إيطاليا والبرازيل قبل ظهور المرض في ووهان. غير أن هذه التحاليل لا تثبت شيئا لناحية تحديد أصل الفيروس، وفق خبراء.

ومنذ كانون الثاني/يناير 2020، يحدد الباحثون الصينيون أنفسهم سوق هوانان على أنه مصدر الجائحة، رغم وجود دراسات سابقة كشفت نتائجها ألا صلة بين بعض من أوائل المصابين بالفيروس وهذا الموقع. وأعلنت السلطات الحجر الصحي في ووهان في 23 كانون الثاني/يناير، ثم في كامل مقاطعة هوباي التي تتبع لها المدينة، ما ألزم أكثر من خمسين مليون نسمة منازلهم.

وفي آذار/مارس، بدأت السلطات تبدّل روايتها الرسمية إذ أوضح رئيس هيئات مكافحة الأوبئة في الصين غاو فو أن السوق في ووهان ليس مصدر الفيروس بل "ضحية" له وموقع انكشاف الحالات فيما المنشأ في مكان آخر. غير أن بكين لم تدل مذاك بأي تفسير مقنع عن أصل الفيروس مع الاكتفاء بقلة من المعلومات بشأن العيّنات المسحوبة من ووهان.

أما الخبراء الأجانب فتمنّعوا عن اتخاذ مواقف حاسمة في الموضوع. وأعيقت في اللحظات الأخيرة مهمة فريق من منظمة الصحة العالمية كان يُفترض وصوله إلى الصين، بعدما قالت بكين إنها لا تزال "تتفاوض" مع المنظمة بشأن سير المهمة. ويرتدي تحديد أصل الفيروس أهمية كبرى في الوقاية من إعادة ظهور جائحة جديدة، إذ يتيح ذلك توجيه الجهود الوقائية نحو أجناس حيوانية محددة ومنع صيدها أو تربيتها وتفادي التفاعلات مع البشر.

ويقول بيتر داشاك رئيس منظمة "إكوهيلث ألاينس" الأميركية المتخصصة في الوقاية من الأمراض "إذا ما توصلنا لفهم سبب ظهور (الأوبئة)، سنتمكن من محاربة الوسائط الناقلة لها". ولقي دور الصين العلمي البحت إشادة دولية في البداية، بعدما سارعت إلى الإعلان عن مجين الفيروس خلافا للضبابية التي تعاملت بها مع وباء "سارس" (متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد) في 2002 و2003.

وتقر عالمة الأحياء ديانا بل من جامعة إيست أنغليا البريطانية بأن الصين "أظهرت انفتاحا نسبيا". لكن في خضم فوضى ووهان في مطلع 2020، قد تكون آثار فيروسية طُمست أو نُقلت ما يزيد المعضلة تعقيدا. ويوضح بيتر داشاك "لا شيء مفاجئا في ذلك. كل جائحة تحصل بالطريقة عينها، وسط الفوضى والهلع". وعلى المقلب السياسي، يحاذر نظام الرئيس شي جينبينغ الخوض بالتفصيل في مجريات الأسابيع الأولى من الجائحة، بعد انتقادات طاولته حينها بسبب محاولات كمّ أفواه الأطباء الذين سعوا للتحذير من خطورة الفيروس منذ كانون الأول/ديسمبر 2019.

ومن هؤلاء، اتهمت الشرطة الطبيب لي وينليانغ بـ"الترويج لشائعات"، لكنه توفي جراء كوفيد-19 في السابع من شباط/فبراير 2020 داخل مستشفى في ووهان. وأثارت وفاته غضبا عارما ضد النظام الصيني عبر شبكات التواصل الاجتماعي. لكن مع سيطرتها على الجائحة في الربيع الفائت، باتت بكين تطرح نفسها منقذا للإنسانية من خلال عرض لقاحاتها للبلدان الفقيرة بوصفها منتجات "للخير العام العالمي".

ومن غير الوارد لدى بكين في هذا الإطار التسامح مع الأصوات المنتقدة. وفي نهاية كانون الأول/ديسمبر، حكم القضاء الصيني بالسجن أربع سنوات في حق "مواطنة صحافية" غطت مجريات الإغلاق العام في ووهان. وأسهم موقف الإدارة الأميركية في ثني السلطات الصينية عن تشارك معارفها حول الفيروس، بحسب بيتر داشاك الذي يأمل كسرا للجليد بين الجانبين مع مغادرة دونالد ترامب البيت الأبيض في الأيام المقبلة.

وأجج موقف الرئيس الأميركي المنتهية ولايته التنافر بين البلدين من خلال حديثه عن "فيروس صيني" وتلميحه إلى إمكان أن يكون نتج عن تسرب من مختبر لعلم الفيروسات في ووهان، وهي فرضية استبعدها العلماء. ويشير الخبراء إلى أن العدوى انتقلت من الخفاش لكنهم لا يزالون يجهلون أيا من الحيوانات الأخرى أدى دور الوسيط لنقل العدوى إلى الإنسان. بحسب فرانس برس.

ويبدي بيتر داشاك "قناعة بأننا سنحدد في نهاية المطاف نوع الخفافيش التي نقلت الفيروس ومسار العدوى المرجح"، مضيفا "لن يكون لدينا يوما يقين تام لكننا سنحوز بالتأكيد أدلة صلبة". غير أن تحديد الجنس الحيواني المسؤول عن نقل العدوى أمر ثانوي برأي ديانا، وهي تقول إن "المصدر قلما يهمّ، يجب ببساطة وضع حد لهذا المزيج المشؤوم من الأجناس في الأسواق. يجب وقف الاتجار بالحيوانات البرية المعدة للاستهلاك الغذائي".

انتقادات متواصلة

في السياق ذاته قالت لجنة مراجعة مستقلة، إنه كان بإمكان الصين ومنظمة الصحة العالمية التصرف بشكل أسرع وأكثر قوة لاحتواء بداية تفشي "كوفيد-19". وفي تقريرها المؤقت الثاني، حدّدت اللجنة المستقلة للتأهب للجائحة والاستجابة لها، والتي يقع مقرها في سويسرا، أنه كان من الممكن أن تكون بكين أكثر قوة في تطبيق تدابير الصحة العامة عند اكتشاف حالات فيروس كورونا المستجد لأول مرة في مدينة ووهان بمقاطعة هوبي.

وحدثت الحالات الأولى في ووهان بين 12 ديسمبر/كانون الأول، و29 ديسمبر/كانون الأول من عام 2019، وفقاً لسلطات المدينة. ولم يتم إبلاغ منظمة الصحة العالمية عن الحالات حتى 31 ديسمبر/كانون الأول. وبحلول الوقت الذي تم فيه إغلاق ووهان في 23 يناير/كانون الثاني في عام 2020، كان الفيروس قد انتشر بالفعل إلى اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايلاند، والولايات المتحدة.

وانتقدت اللجنة المستقلة، والتي تترأسها رئيسة وزراء نيوزيلندا السابقة هيلين كلارك ورئيسة ليبيريا السابقة إلين جونسون سيرليف، منظمة الصحة العالمية أيضاً بسبب تأخرها في دق ناقوس الخطر، ودعت اللجنة إلى إجراء إصلاحات في هذه الوكالة التابعة للأمم المتحدة. ورغم تنبيهها بشأن الحالات بحلول نهاية ديسمبر/كانون الأول في عام 2019، إلا أن منظمة الصحة العالمية لم تعقد اجتماعاً للجنة الطوارئ حتى 22 يناير/كانون الثاني من عام 2020، ثم انتظرت حتى 30 يناير/كانون الثاني لإعلان حالة طوارئ دولية.

وقال التقرير: "ليس من الواضح سبب عدم اجتماع اللجنة حتى الأسبوع الثالث من يناير/كانون الثاني، كما أنه ليس من الواضح سبب عدم تمكنها من الاتفاق على إعلان حالة طوارئ صحية عامة على المستوى الدولي عند اجتماعها لأول مرة". وسلط التقرير الضوء أيضاً على عدم إعلان منظمة الصحة العالمية عن تفشي جائحة، إلا حتى 11 مارس/آذار من عام 2020، وذلك بعد أن بدأ بعض خبراء الصحة ووسائل الإعلام بالفعل في الاعتماد على ذلك المصطلح. وبحلول ذلك الوقت، كان هناك بالفعل 118،000 حالة، وأكثر من 4 آلاف حالة وفاة في جميع أنحاء العالم.

وفي وقت سابق وصل فريق يضم خبراء من منظمة الصحة العالمية إلى ووهان للتحقيق في منشأ الفيروس المتسبب بجائحة كوفيد-19 بعد أكثر من عام على ظهوره، علما بأن اثنين من أعضاء الفريق لم يتمكنا من صعود الطائرة في سنغافورة بعدما أثبتت الفحوص أنهما يحملان أجساما مضادة للفيروس. وكان في استقبال الفريق الدولي المكون من 13 خبيرا مكلفين المهمة التي تأخرت كثيرا، مسؤولون صينيون يرتدون ملابس واقية أخذوا عينات لأعضاء الفريق من مسحات للحلق لدى الوصول.

لكن رغم أشهر من المفاوضات الشاقة حول مهمتهم، منع الفريق من الوصول في مؤشر على الحساسية السياسية لمسألة شهدت تبادل الاتهامات بين الدول والتخمينات والإنكار. وقالت المنظمة إنه فيما وصل غالبية أفراد الفريق، لم يُسمح لاثنين منهم بصعود الطائرة من سنغافورة إلى ووهان، بعدما أثبتت الفحوص أنهما يحملان أجساما مضادة للفيروس، في عقبة جديدة ضمن الرحلة الطويلة للخبراء إلى الصين. بحسب فرانس برس.

وقالت المنظمة في تغريدة إن جميع أعضاء الفريق أجروا " في بلدانهم عدة فحوص بي.سي.آر وفحوصا للاجسام المضادة لكوفيد-19 جاءت سلبية قبل السفر". وتغذي بكين الفكرة القائلة إن الوباء ظهر للمرة الأولى خارج حدودها، وتفضل التركيز على سيطرتها السريعة نسبيا على الأزمة الصحية. وتقول بكين إنه على الرغم من أن ووهان هي المكان الذي رصدت فيه أول بؤرة من الإصابات، إلا أنها ليست بالضرورة منشأ الفيروس.

اضف تعليق