q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

لماذا يَغفُل الحكام المستبدون تجاربَ أسلافهم؟

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

لماذا لا يأخذ الحكام دروسا من أسلافهم، ما الذي يعمي أبصارهم وبصائرهم، ولماذا نادرا ما نجد في الواقع أو التاريخ، حاكما ظالما كفَّر عن ظلمهِ للناس وهو حيّ، وحين يقترب من نهايته، يبدأ شريط الأحداث الجسيمة التي ارتكبها بحق شعبه يدور في ذاكرته، ويعلن أسفه، و...

(الحكومة التي تبتني أساسها على الاستبداد والفساد زائلة لا محالة)

سماحة المرجع الشيرازي

من الأمور التي حيَّرت علماء النفس والسياسة معاً، أن الحكام قلّما يتّعظون من تجارب بعضهم، لاسيما أولئك الذين يحكمون شعوبهم بالحديد والنار، كأن عيونهم مغلقة، وعقولهم متحجرة، تعميهم السلطة وامتيازاتها، وتأخذهم العزة بالنفس إلى أبعد مما هو متوقَّع، ولا يستيقظون من غيِّهم إلا في حالتين، عندما تفاجئهم لحظة الموت، أو عندما تحين لحظة القصاص منهم.

لذلك يتكرر السؤال دائما وأبداً بين النخب وعامة الناس معاً، لماذا لا يأخذ الحكام دروسا من أسلافهم، ما الذي يعمي أبصارهم وبصائرهم، ولماذا نادرا ما نجد في الواقع أو التاريخ، حاكما ظالما كفَّر عن ظلمهِ للناس وهو حيّ، وحين يقترب من نهايته، يبدأ شريط الأحداث الجسيمة التي ارتكبها بحق شعبه يدور في ذاكرته، ويعلن أسفه، ولكن غالبا ما يتم هذا الأسف بعد فوات الأوان، وحين يلوح القصاص العادل قريبا وحتميا من الحاكم المستبد الفاسد.

لو أن الحكام ومن بأيديهم القرار الحاسم، يتبصّروا، ويتأملّوا تجارب غيرهم من المستبدين، ونهاياتهم الشائنة، ورميهم الأكيد في مزابل التاريخ، لما تجرأ أحدهم أن يعيد الكرة ويوغل في سفك الدماء، أو التعذيب، أو القمع، ويكفّ عن ذلك لأنه سوف يرى النهاية المأساوية الحتمية له، وسوف يحرق حاضره وتاريخه بيديه، ولكن مشكلة الحكام المستبدين الفاسدين لا يلتفتون إلى الوراء، ولا تغريهم الدروس التي تنقذهم من نهاياتهم المريعة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:

(لو أن الحكّام اليوم يتأمّلون في تأريخ من مضى من الحكّام أمثالهم، لأعادوا النظر في تصرّفاتهم وأفعالهم مع شعوبهم، ولما أقدموا على حرق تاريخهم بأيديهم).

في جميع الأنظمة الاستبدادية على مرّ التاريخ، يتضافر القمع مع الظلم مع الطغيان، ليتربع الفساد على رأس النظام، وينخر الدولة ومؤسساتها، ويُضعف الحكومة، ويدمر الشعب ويسلب شخصيته، ويحرمه من أية فرصة للنهوض والتقدم ومجاراة دول العالم، وأخطر ما يمكن أن يفعله الاستبداد هو تشويه شخصية الفرد والمجتمع معا، ويزرع الخوف في قلوبهم وعقولهم.

فيغدو الإنسان مسلوب الإرادة، ومصادَر الرأي، ضعيف الشخصية، يخلو من شجاعة الحسم حتى في بيته، بل حتى في الأمور الفردية المصيرية وحتى البسيطة، يكون عاجزا عن اتخاذ أي قرار، بسبب شبح الخوف والقمع الذي يجثم على صدره، وهكذا يتنمّر الحكام ومؤيدوهم المتملقون لهم، فتبدأ صفقات الفساد تجتاح مرافق الدولة والحكومة ومؤسساتها.

الفساد السياسي يضاعف نسبة الفقر

حين ذاك تتصاعد موجات الفقر والجوع والجهل، بسبب غياب العدالة في المجالات كافة، فلا تكافؤ في فرص العمل، ولا في الدراسة، ولا في النظام الصحي، ولا في توزيع الثروات والموارد، ولهذه الأسباب مجتمعة، ينتعش الفقر بقوة، ويضرب التخلف أطنابه في شرائح المجتمع المعدَمة، ويتزايد الجهل، وتسوء الخدمات حتى الأساسية منها إلى أدنى حد، كل هذا بسبب الاستبداد مدعوما بالفساد السياسي.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: (إن الفساد الإداري والاستئثار بأموال الناس وإيداعها في حسابات خاصة في البنوك الأجنبية أدى إلى المزيد من الحرمان والبطالة والتخلف والمرض والجهل وسوء الخدمات).

حريّ بالحكام المستبدين الانتباه إلى التداعيات، والنتائج الخطيرة لقراراتهم وسياساتهم، وهذا الخطر ليس موجّها للشعب وحده، بل حتى الحكام أنفسهم سوف يواجهون خطر الإطاحة والقصاص، فبسبب هذه السياسات الموغلة بالغباء، تتضاعف نسبة الفقر، وتتنوع الأمراض وتستفحل.

في المقابل تعجز الجهات الحكومية المستبدة، عن معالجة الأوضاع، لأن العودة إلى الوراء لم تعد تنفع الحاكم المستبد، ولا حكومته التي تلوّثت بالظلم والفساد والطغيان، فتبقى الأمور كما هي عليه، وتزداد جراح المسحوقين ويتضاعف الحرمان، في حين تعيش الطبقة السياسية في بحبوحة وعيش رغيد بسبب الرواتب العالية والمخصصات المالية عبر تبويب متعدد الجوانب، مثل مخصصات السكن، والصحة، والحماية، وما إلى ذلك من أمور تزيد المسؤول رفاهية وتزيد الشعب حرمانا وفقرا وجهلا وأمراضاً جسدية ونفسية معقدة.

وبسبب سياسات الاستبداد والفساد، يتزايد الحرمان والمآسي، ويصبح التفاوت الطبقي علامة فارقة للدولة المحكومة بالاستبداد والفساد، لهذا وسواه من أسباب أخرى، لا تندمل جراح المظلومين وهم يواجهون العديد من المشكلات والمحن، لا لشيء إلا لأنهم محكومون بقبضة من حديد، تحركها رؤوس القمع التي لا ترحم أحداً حتى نفسها، ذلك أن نهاية المستبدين معروفة على مر التاريخ.

لذا فإن سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله)، يؤكد على أن: (جراح المظلومين والمسحوقين من أبناء هذه الشعوب جرَّ عليها أنواع المآسي والمحن).

ومن الغرابة بمكان، أن من يوغل بقمع الناس، ومصادرة حقوقهم، وهدر ثرواتهم، وانتهاك حقوقهم، لا يفكر بالمطلق بالعواقب الوخيمة التي تقف بانتظاره، متأهبة للقصاص منه، ومن كل عقل أو يد، أو رأي، سانده وأيده على قمع الناس، ومحاصرتهم بصفقات الفساد، وسلبهم حقوقهم التي كفلتها الشريعة والقوانين والمواثيق الدولية الحقوقية والمدنية.

جيل البحث عن الحقيقة والسعادة

هذه الأنظمة الفاسدة المستبدة، لا بقاء لها، بل تبقى مهدَّدة بالفناء في كل لحظة، ويبقى أشد ما يخشاه حكّامها سقوط عروشهم، لذلك يتخذون من القمع وسيلة لحماية السلطة، فيما تزداد كراهية الجماهير لهم، كونهم لم يعبأوا بحقوق الناس، ولم يعدلوا بينهم، واتخذوا من القمع منهجا لهم، ومن الفساد طريقا لمضاعفة ثرائهم على حساب الكثرة الساحقة من الناس، فيكون مصيرهم الزوال.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه) يذكِّر بهذا المآل الحتمي فيقول:

(الحكومة التي تبتني أساسها على الاستبداد وهضم حقوق الناس المشروعة هي حكومة زائلة وفانية لا محالة).

المشكلة أن الحكام المستبدين، والفاسدين الذين يشدون أزرهم بسبب تشابك المصالح، لا يريدون أن يفهموا الحقائق والتطورات المعاصرة، بل هم لن يعترفوا بأن الجيل الجديد لا يكفّ بحثهِ المستمر عن الحقيقة والسعادة، فالعقول تغيّرت، والأفكار تنوعت وتعددت وتعمّقت، وأنماط الحياة اختلفت كل الاختلاف عمّا مضى، لذلك فالحرية وحدها هي الوعاء الصحيح لهذه التطلعات المعاصرة.

أما الاستبداد فلا ولن يليق بالشباب المتجدد، والعقول المتطلّعة نحو الحرية، لذلك فإن أنظمة القمع لن يكون لها مكانا في عالم اليوم المتطور باضطراد، ولن يكون بمقدور الحكومات وحكامها، تسيير الشعوب إلا وفق قيم العدالة الاجتماعية، وحرية الرأي، وكفالة الحقوق كافة، بغير هذه الشروط، يبقى النظام السياسي (حكّاما وحكومات)، معرَّضا للهزيمة والاندحار.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (إن عالم اليوم وجيل اليوم يبحث عن الحقيقة والسعادة، وهذا لا يتأتى إلاّ في ظل الحرية بما في الكلمة من معنى، وفي إطار العدل بما للكلمة من شمول).

النتيجة لا يصح إلا الصحيح، فكل من يقف أمام تطلعات الشعوب، فإن سقوطه بات حتميا، وزواله ليس إلا مسألة وقت لا أكثر، وهذا ما أكده سماحة المرجع الشيرازي بالقول: إن (الممارسات الظالمة للحكّام ليست إلاّ سدّاً أمام طموح الشعوب في نيل الحرية المشروعة التي تنتهي إلى انتصار المظلوم على الظالم).

هذا هو الدرس المستخلَص من سياسات أنظمة القمع والفساد، فالنتائج واضحة وضوح الشمس، والحاكم والمسؤول الذي يوغل بمعاداة الشعوب، ليس عليه سوى انتظار اللحظة التي تهتز فيها الأرض تحت أقدامه، وتطيح بعرشه، وتدمّر حاضره ومستقبله السياسي، وحينها لا ينفع الأسف، ولا توجد فرصة للإصلاح أو التراجع قرارات وسياسات الظلم والفساد.

اضف تعليق