يمكنكَ أن تنجو من نفسك، بحسم أمرك كليّاً على عدم ارتكاب أي عمل يسيء للناس، سواء بصفتك الحكومية أو الوظيفية أو الاجتماعية أو الأخلاقية، أو أية صفة أخرى، من المهم جدا أن تتنبّه إلى أعمالك وأقوالك وتراعي فيها حقوق الآخرين المادية والاعتبارية، لأنها سوف تساعد على بناء فرد ومجتمع نقي صالح...
(الآثار التكوينية للأعمال تترك آثارها، سواء عَلِم الإنسان بها أمْ لم يعلمْ)
سماحة المرجع الشيرازي
توَّغل العلماء المعنيون بالنفس البشرية، عميقا في أسرارها وبكل ما يتعلق بها، وسعوا إلى سبر أغوارها، كونها تُعد من المسميات الغامضة التي تثير الجدل، حول معناها، وأصلها ومفهومها وكل ما يتعلق بها.
من الناحية اللغوية، يوجد للنفس أكثر من تعريف، فهي تعني الروح أو الدم أو الجسد أو الحسد، ونفس الشيء بمعنى عينه. وهناك اختلاف في الثقافات وحتى في نفس علم النفس، قال بعض العلماء بأنها ذلك النشاط الذي يميز الكائن الحي ويسيطر على حركاته. وفسرها البعض بأنها القوة الخفية التي يحيا بها الإنسان.
من ناحية أخرى عرفها فريق بأنها وظيفة العقل والجهاز العصبي، أو محرك أوجه نشاط الإنسان المعرفية والانفعالية والسلوكية والعقلية. وهناك رأي لغوي في محيط المحيط أن كلمة نفس مذكَّر ومؤنث في نفس الوقت، فكلمة نفس المذكرة تعني الإنسان كاملاً جسداً وروحاً، أما نفس المؤنثة فهي الروح.
في الغالب تُلصق الأعمال المسيئة للإنسان بنفس، وتعد مصدر هذه الأعمال، لذلك يُقال إن من يقود نفسَهُ هو الذي ينجو من الإساءة للآخرين، بل يحمي شخصيته وكينونته وذاته من نفسهِ، وفيما يبرر بعضهم أخطاءهم وسوء أعماله وتصرفاتهم، بأنه مكتوب عليهم مسبقا، فإن مثل هذه التبريرات لا أصل لها من الصحة، لأن ما يُصاب الإنسان من خير فهو من الله، وما يُصاب به من شر فمن نفسهِ.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة عن (آثار الأعمال):
(إنّ ما يصدر عن الإنسان إمّا أن يكون حسنة وخيراً ينتفع به، أو سيئة وشرّاً يضرّه) تبعا للآية الكريمة (﴿ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيّئة فمن نفسك﴾ سورة النساء، الآية: 79 .
ويضيف سماحته (دام ظله): (هذه الآية الكريمة تُخبر الإنسان أنّ ما يصيبه من حسنة ونفع وربح وخير وكلّ شيء في صالحه فإنّما هو من الله تعالى، لأنّ الله لا يريد لأحد شراً أو سوءاً. وأمّا السيّئات والمصائب التي تصيب الإنسان فهي من الإنسان نفسه. وكلّ ابتلاء يصيب الإنسان فسببه الإنسان نفسه).
تداعيات الأعمال السيئة لا تنتهي بنهايتها من الأخطار الكبرى التي تتركها الأعمال السيئة للإنسان، أنها لا تنتهي بنهايتها، فعندما يتسلّم أحدهم منصبا حسّاسا أو رفيعا في الدولة، وارتكب ظلما أو تمييزا أو قهرا أو اختلاسا أو أي عمل سيّئ، ألحق بالآخرين ظلما وتجاوز على حقوقهم المعنوية أو المادية، فإن خروجه من هذا المنصب وكفِّه عن عمل السوء، يُفترَض أن يقترن بتصحيحها، وهذه فرصة لمن غفل أو جهل من المسؤولين لأخطائهم.
والأمر ينطبق على الجميع، لا فرق بين مسؤول صغير أو كبير، أو بين غني وفقير، الكل عليه أن يبتعد كلّ البعد، عن جميع الأعمال وحتى الألفاظ التي تُلحق بالناس ضررا معنويا أو ماديا، لأنها (الأعمال السيئة) سوف تعود إلى صاحبها طال الوقتُ أم قصُر، وإذا لم تواجهه في دنياه، فإنها بانتظاره يومَ الحساب، يوم لا عملي يُنجي الإنسان مما ارتكبه من سيئات.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله): (قد تصيبنا في الحياة سيّئات ولا نعرف جذورها لأنّنا غافلون. فربما ظلمنا إنساناً أو غصبناه حقّه وإن لم نكن منتبهين، فإنّ الآثار التكوينية للأعمال لا تغيّرها النوايا ولا الجهل بها، فهي تترك آثارها، سواء عَلِم الإنسان بها أم لم يعلم!).
قد يتصوّر بعضهم جهلاً أو تقاعسا، بأن ما يقوم به من أفعال وأعمال وألفاظ مسيئة، إنما هي ليست كذلك، فكما يراها هو وفق تصوره لا تسيء لأحد ولا تنتقص من أحد، ولا تتجاوز على حقوق أحد ماديةً كانت أو اعتبارية!، ولكن هل يكفي تصوّره هذا، وهل يمكن أن يقلب الخطأ إلى صحيح؟، ولنفترض أنه يثق بعقله وعلمه، أليس الصحيح أن يُشرك غيره من راجحي العقل والعلم، قبل أن يرتكب هذا القول أو ذلك العمل؟
التبريرات لا تنفع مرتكب العمل واللفظ السيّئ، حتى لو تصوّر المرتكب بأنه لا يقصد إلحاق الأذى بالآخرين، التصور وحده لا يكفي، والغفلة لا تمحو الأثر الذي يتسبب للناس، والجهل كذلك لا يُنجي المسيء، فمن يجهل الأعمال والأقوال الصحيحة، حرّي به أن يتعلم العمل الصحيح والقول اللطيف فـ (الكلمة الطيبة صدقة)، وكونك تتصور عملك صحيحا، فهذا ليس مقبولا، لأنك لا يجوز أن تكون (الخصم والحكم) في وقتٍ واحد.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يضرب مثلا حول هذه النقطة فيقول:
(لو أخذتَ حبة شعير وتصوّرت أنّها حبة قمح وبذرتها في التربة، فهل ستنبت حسب تصوّرك أم بحسب واقع الحبة؟ لاشكّ أنّ النبت سيكون حسب واقع الحبة. فمن يزرع قمحاً يحصد قمحاً ومن يزرع شوكاً لا يحصد إلاّ الشوك، وإن تصوّر أنّه كان غير ذلك!)
فوائد البحث عن أسباب العمل المسيء
لذا فإن من يقع في عمل مسيء للآخرين، عليه أن يبحث عن الأسباب الصحيحة الواقعية التي تقف وراء ذلك، ويبادر إلى التصحيح الفوري، ولا يصحّ أن يلقي باللوم على خالقه العظيم، وليس صحيحا أن يبرر أعماله الخاطئة ويربطها بغيره من الناس، فطالما ارتكبها بنفسه أو بلسانه، فهو المسؤول الأول عنها.
الله سبحانه وتعالى، أعظم من أن يَظلم مخلوقه، فهو العادل الرحيم، وإنما الإنسان ونفسهُ التي تفلت من زمامهِ، هي التي تقوده إلى ما لا يُحمَد عقباه!!، وإذا سار خلفها كالأعمى، فإنها ذاهبة به إلى الحضيض عاجلا أو آجلا.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله: (كلّما أُصبتَ بسيّئة فابحث عن السبب لأنّ الله عادل لا يظلِم أحداً ﴿وما ربّك بظلاّم للعبيد﴾، بل هو مبعث الإحسان والكرم).
أسّ هذه المشكلة الظاهرة، تكمن في من لا يعبأ بما يرتكبه من أخطاء، لاسيما عليَة القوم والنخب التي تمثل نماذج للآخرين، فإن أخطأ القائد أخطأ جميع من يرون فيه قدوتهم، وإن أخطأ الأستاذ أخطأ طلابه، علما أن عدم الاكتراث لا يعني الخلاص من عواقب الأعمال السيئة، فما يترشَّح عنها من تداعيات خطيرة، سوف يلحق بمن يرتكبها، فضلا عمّا سيلاقيه يوم الحساب وهو أشدّ وأعظم.
هناك مَنْ يُغدق عليهم الله بالنِعَم، فيما هم يَغرقون بوحل الأعمال السيئة، هؤلاء عليهم أن يحذروا الله، لأنهم ملاقون لشرّ أعمالهم (يوم لا ينفعُ مال ولا بنون).
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(أما الذي لا يكترث فإنّ النتيجة السيّئة سوف تلحقه طالت المدّة أو قصرت. وعلى الإنسان أن يكون حذراً ولا يغترّ. يقول أمير المؤمنين علي سلام الله عليه: «يابن آدم إذا رأيت ربّك سبحانه يتابع عليك نعمه وأنت تعصيه فاحذره». أتدري لماذا؟ لأنّ هذا معناه أنّ الله أخّر له السوء في الآخرة. وهناك المصيبة أعظم! لأنّ الدنيا تنتهي وتنصرم والإنسان ينجو منها على كلّ حال، أمّا السوء في الآخرة فليس فيه منجى).
يمكنكَ أن تنجو من نفسك، بحسم أمرك كليّاً على عدم ارتكاب أي عمل يسيء للناس، سواء بصفتك الحكومية أو الوظيفية أو الاجتماعية أو الأخلاقية، أو أية صفة أخرى، من المهم جدا أن تتنبّه إلى أعمالك وأقوالك وتراعي فيها حقوق الآخرين المادية والاعتبارية، لأنها سوف تساعد على بناء فرد ومجتمع نقي صالح، تقل فيه الأعمال والأفعال السيئة، وتتلاشى فيه الألفاظ النابية.
اضف تعليق