قد يكون الإنسان بعيدا عن الله، لأسباب كثيرة، أولها طبيعة الحاضنة التي نشأ فيها، والمحيط الذي تربى فيه، صعودا الى البيئة البشرية وافكارها وسلوكها، وانعكاس ذلك على بناء شخصية الانسان، فعندما يبدأ الوعي يظهر لدى الانسان، سيجد ميولا لديه تدفعه لكي يطلع على التجارب والافكار الجديدة والمتنوعة، وهذا الميل يتحدد وفق النشأة وطبيعتها، فقد يقرأ افكارا سليمة او منحرفة، وهذا سيؤثر بصورة كبيرة على بناء شخصيته وطريقة تفكيره، وكيفية سلوكه، فكل هذه الجوانب قد تجعل منه انسانا قريبا من قيم الدين الاسلامي او بعيدا عنها.
وقد لا يكون البعد عن الله قطعيا، ولا ثابتا، فالأمر يرتبط بقدرة الانسان على التغيير، وسعيه للوصول الى الحقيقة، بمعنى دائما يوجد هناك استعداد لدى الانسان كي يغير نفسه نحو الحياة المثالية، لأن أسس الخير توجد في التركيب النفسي والتكويني للانسان، لهذا توجد في اعماقه بذور التغيير اذا ما تم التعامل مع الافكار بقناعة ودراية، وهذا يستدعي توافر شروط زمانية ومكانية ونفسية تلتقي وتتحد مع بعضها لتقود الانسان نحو التغيير الأمثل والايمان.
لهذه الاسباب يعد شهر رمضان فرصة نادرة لتحقيق التغيير، لكون هذا الشهر يتحلى بأجواء روحانية نادرة، قد لا تتوافر في اوقات السنة الاخرى، كذلك هناك قدرة موجودة لدى الانسان كي يحقق التغيير، والانتقال من حالة الغموض والتيه، الى حالة الاستقرار والوضوح في الرؤية والفكرة التي تضع اقدام الانسان على الجادة الصواب.
لذلك نلاحظ هذا المعنى في قول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الشيرازي (دام ظله) إذ يقول سماحته حول هذا الجانب في الكتاب الموسوم (من عبق المرجعية): (مهما كان الإنسان بعيداً عن الخير والصلاح والتقوى، يمكنه أن يستفيد من أجواء شهر رمضان المبارك لتغيير نفسه، فإن الله تعالى أودع هذه القدرة في الإنسان، وشهر رمضان فرصة مناسبة جدّاً لهذا الأمر).
ولا شك أن قضية التدرّج في تحقيق هدف التغيير يعد من الاساليب المهمة في هذه المجال، فالانسان عندما يعتاد على افكار معينة وسلوك يومي معين، لا يمكن أن يتخلى عنهما في ليلة وضحاها، لذلك تدخل قضية التدرّج هنا كعنصر اساس في تحقيق هدف التغيير وبناء الذات بالصيغة التي تصب في صالح الانسان، لأن التغيير والبناء الفكري والمادي يأخذ اشكالا ومسارات متعددة منه السلبي بطبيعة الحال، ولكننا نتحدث هنا عن البناء الجيد والسليم لشخصية الانسان وأفكار بطريقة متدرجة، ويعد شهر رمضان من اهم الفرص في تحقيق التغيير المتدرّج.
كما يؤكد سلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (من الممكن أن يغيّر الإنسان نفسه ولو خطوة خطوة، وشهر رمضان مناسبة جدّاً للتغيير).
بناء الذات مهمة الانسان أولا
من المعروف أن قضية البناء تعود لعدة عوامل تشترك في هذه المهمة، ولكن ينبغي أولا أن يكون هناك ارادة ذاتية تدفع في هذا الاتجاه، بمعنى لابد أن يرغب الانسان في ان يغير وضعه نحو الافضل، وأن يكون اكثر قربا الى الله تعالى، وأن يحسّن منظومة القيم التي يؤمن بها، ويستند إليها في ادارة شؤونه العملية والفكرية معا، كذلك لابد أن تقوم الجهات المعنية ونعني بها خارج الذات بمهمتها في هذا المجال، إذ لابد للمدارس الدينية والاخلاقية والمؤسسات التي تسعى نحو بناء الانسان وتحقيق التغيير أن تؤدي دورها في هذا المجال كما يجب.
إن شهر رمضان هو الوقت الأنسب للتغيير، ولكن على الانسان أن يحث نفسه في هذا الاتجاه وأن يكون مستعدا بصورة فعلية لتحقيق وانجاز هذه المهمة، وأن يراقب درجة التغيير التي يتمكن من إحداثها في نفسه وافكاره، فهي اذن مهمة فردية ايضا يتابع فيها الانسان ما يحدث من تغيير ايجابية في شخصيته.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بالكتاب المذكور نفسه: (بناء الذات واجب عيني في حدّ أداء الواجبات وترك المحرّمات، فعلى الإنسان أن يحاول في شهر رمضان المبارك أن يعمل حتى يبلغ مرحلة يعتقد فيها أنه تغيّر فعلاً وأنه أصبح أحسن وأفضل من السابق). فالمراقبة الذاتية ينبغي ان تكون حاضرة لدى الانسان وعليه ان يراقب مدى استجابته للتغيير الافضل.
والجميع يشعر بل ويؤمن ان شهر رمضان الكريم، هو الأنسب من حيث الزمن والاجواء الايمانية على انجاز هدف البناء الجيد لشخصية وعقلية الانسان وافكاره، لذا ينبغي على الجميع ان يسعوا في هذا الاتجاه، ولا ينحصر هذا الهدف في فئة دون غيرها او في مستوى علمي دون سواه، فأهل العلم وعامة الناس يتساوون في هذا الجانب، أي ان تحصيل العلم وتطوير الذات، وتغييرها نحو الافضل مطلوبة من الجميع، ولا يصح أن يقول أحدهم انني لا احتاج هذا الامر لأنني اكثر علما من الاخرين، فالإنسان ينبغي أن يؤمن تمام الايمان بأنه يحتاج العلم والتطوير مهما بلغ من سعة الاطلاع ومستوى الوعي.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب: إن (شهر رمضان المبارك هو شهر بناء الذات وتغيير النفس، وهذا الأمر مطلوب من الجميع، يستوي في ذلك أهل العلم وغيرهم، ومهما يبلغ المرء درجة في هذا الطريق فثمة مجال للرقي أيضاً).
الوقوف الى جانب الفقراء
في الحقيقة هناك امور تتعلق بإنسانية الفرد، يمكنها أن تسهم في التغيير، فالفقراء ينبغي أن يجدوا الدعم اللازم في هذا المجال، وقد نجد من لا يرغب في التصدي لمثل هذه المهمة، لكن ينبغي ترويض الذات على القبول بأداء هذا الدور، ليس لتحقيق التغيير الذاتي فقط، بل لابد للإنسان أن يتمسك بالمستحبات، ويبتعد بجدية عن جميع المكروهات، لأنه بهذه الطريقة يحقق المزيد من النجاح في البناء الجيد.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بالكتاب نفسه: (نحن، جميعاً، بحاجة إلى ترويض وانتباه بحيث إذا دخل أحدنا شهر رمضان وخرج منه يكون قد تغيّر ولو قليلاً، وملاك التغير هو العمل بالمستحبّات وترك المكروهات).
وكذل يجب أن يسعى المؤمنون الى تغيير حال الفقراء نحو الافضل، وينبغي العمل الدؤوب على مساعدتهم في بناء أنفسهم بالصورة التي تليق بالإنسان المؤمن، لاسيما أن هذا الشهر الفضيل يساعد على ذلك، فهو مليء بأجواء الايمان، وقد جعله الله تعالى شهرا للخير والكرم والتعاون بين الجميع، ويبرز هنا دور الاثرياء والمتمكنين ومدى حرصهم على مساعدة الفقراء وتذليل مصاعبهم، ولا ينحصر هذا الهدف في فئة دون غيرها، فجميع الفقراء ينبغي أن يكونوا ضمن اطار التعاون الذي يبديه الاغنياء، وهؤلاء لا تحد منهم يُعفى من هذه المهمة في تذليل مصاعب الفقراء، خاصة في هذا الشهر الكريم.
لذلك لابد لمن يتمكن من مساعدة الفقراء في عموم العالم ان يبادر نحو تحقيق هذه الغاية النبيلة، بصورة أفضل من خلال دعم الفقراء الدائم، من هنا نقرأ قول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بقوله: (ينبغي للمؤمنين الكرام الاهتمام أكثر من ذي قبل بالفقراء والمحرومين في كل بلاد العالم، وخاصة في بلدهم، فقد استشرى الحرمان والفقر في كثير من البلاد من جرّاء المناهج الوضعية الناقصة).
اضف تعليق