بلغت حياة الناس اليومية درجة عالية من التعقيد، بسبب التطور الحاصل في مجالات عديدة، منها التكنولوجي والإعلامي والثقافي، وقد أثَّر ذلك بشكل كبير على أنماط العيش، فتحوَّل المجتمع البسيط إلى معقَّد يغصُّ بالتصادمات، بسبب البحث والسعي عن التفوّق المادي، ومحاولات تغيير طريقة العيش، وتنامي حالة التنافس بين الناس...
(من المهم جدّاً أن يسيّطر الإنسان على نفسه، ويلقى بالبِشْرِ كلَّ العالَم) سماحة المرجع الشيرازي
بلغت حياة الناس اليومية درجة عالية من التعقيد، بسبب التطور الحاصل في مجالات عديدة، منها التكنولوجي والإعلامي والثقافي، وقد أثَّر ذلك بشكل كبير على أنماط العيش، فتحوَّل المجتمع البسيط إلى معقَّد يغصُّ بالتصادمات، بسبب البحث والسعي عن التفوّق المادي، ومحاولات تغيير طريقة العيش، وتنامي حالة التنافس بين الناس، بحثا عن الأفضلية في إطار تنافسي متصاعد.
في ظل هذه التعقيدات المتنامية، وتحوّل عقلية الإنسان وطريقة تفكيره، لابد من وجود إطار أخلاقي نفسي يحمي الفرد والمجتمع من هذه المتغيّرات المتسارعة، ولابد من حماية منظومة القيم الرصينة وتطويرها، حتى لا تؤثّر المستجدات الهائلة سلبا على حياة الناس.
ومع أن حالة البناء الأخلاقي والنفسي تبدأ بالجهد الفردي للإنسان نفسه، أي أن كل فرد عليه أن يحمي نفسه أولا بالأخلاق والقيم النبيلة، حتى لا يكون عرضة للإساءة والانتقاص، لكن يبقى العمل والجهد المجتمعي في هذا الإطار متقدما على الجهد الفردي، وفي هذه الحالة سوف يتعاضد الجهدان الجمعي والفردي لتوفير نمط جيد من العيش الذي يقوم على التعاون والتكافل والوئام والانسجام.
من الأمور الواجب مراعاتها من قبل الأفراد، تطوير قدراتهم على التعامل البنّاء مع الآخرين بمختلف أفكارهم وطبائعهم وسلوكياتهم، فليس بالضرورة أن ينسجم معك الجميع، وأن يشابهك بالأفكار والآراء، ونتيجة للتصادمات الحياتية المختلفة، تنشأ توجهات مختلفة قد تكون متناقضة مع بعضها، كلّها تدخل في باب التنافس من أجل التفوّق والنجاح، وهي صفة يتحلى بها الإنسان منذُ خُلِق!!
لك الحق أن تتنافس، وتتفوق، لكن ليس لك الحق أن تزيد من حالات التأزّم والتعقيد في المجتمع، وهذا يخضع إلى حالة الانضباط التي تتمتع بها، فأنت تعيش في ظل مجتمع يتكون من أفراد مختلفين في الأذواق والآراء والتفكير والأهداف الشخصية، لهذا أنت مطالَب بضبط النفس إلى أقصى درجة ممكنة، مع مشروعية انطلاقك نحو أهدافك في إطار تنافسي متوازن.
خيارات الإنسان في بحر الحياة المتلاطم
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية) متسائلاً:
(كيف يتمكّن الإنسان أن لا يضجر ولا يتبرّم ولا تظهر عليه آثار الاستياء مع أن في مجتمعه وبيئته الأذواق المختلفة والسلوكيات المتباينة، ناهيك عن الأحقاد والعداوات والمشاحنات والمشاكسات، فهذا يحسدك وذاك يعاديك، والآخر لا يتفق مع ذوقك في الطعام والشراب أو الدرس أو غير ذلك).
هذا الضغط التنافسي المستمر، لن يتوقّف طالما أن الفرد يواصل مسيرته نحو التفوّق، وهو هدف لا يتخلى عنه الإنسان حتى لحظة الممات، فمن طبيعة البشر أنهم خُلقوا ومعهم خاصية التفوق، والمنافسة، والتأثّر من الآخرين، فحين يرى جاره تفوّق في هذا المجال أو ذاك، سوف يسأل نفسه بإلحاح، لماذا تخلّقتُ عنهُ، لماذا لم أكن مثله، لماذا صار أفضل مني؟؟
هذه الأسئلة بمثابة محركات مستدامة لطموح الإنسان، لكن الحركة والنشاط والسعي المستمر نحو التفوّق، يرافقه تصادمات مختلفة، ومشكلات عديدة، وهذا يتطلّب من الإنسان أن يضبط نفسه، وأن يسعى في الإطار التنافسي المشروع، وأن يقابل الضغط المجتمعي بوجه بشوش، ونفس منضبطة، وأن يتحلى بنكران الذات، ويحب لأخيه وقرينه في العمل ما يحبّ لنفسه.
لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ما أعظم الشخص الذي يُنكر نفسه ويقاومها رغم كل ذلك ويظل ضاحك الوجه باسماً!).
سعادتك من سعادة الآخرين
كنتيجة متوقَّعة من التنافس والتزاحم على تحقيق الأهداف، لابد أن تحدث أخطاء مقصودة أو دون قصد، وهو أمر طبيعي، فطالما يتحرك الإنسان ويسعى نحو تأمين رزقه، وتطوير حياته، فإنه معرَّض لارتكاب الخطأ، قاصداً ذلك أو غير قاصد، لكنَّ عظمة الإنسان وتسامي نفسه وعلوّ شأنه يكمن في الاعتراف بالخطأ، والاعتذار لمن وفع بحقه، ومن ثم تصحيحه.
فهل هناك من يكون قادرا على التراجع عن خطئه، ويكون إنساناً إيجابياً؟؟، هذا هو السؤال الفيصل؟؟، فإذا كان الإنسان الذي يرتكب خطأً بحق آخر، ويكون على استعداد للتصحيح والتراجع، فهذا يعني أنه يمتلك نفسا منضبطة، يحكمها عقل إيجابيّ راجح وليس العكس، بمعنى لو كانت النفس متمردة على العقل لما تمكنّ الإنسان من التراجع عن خطئهِ بحق الآخر، وهنا يكمن الفارق بين النفوس الإيجابية المنضبطة والمنفلتة.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(لو اكتشف بعض الناس أن الحقّ ليس معه بل مع مقابله، سواء أكان أستاذه أم تلميذه أم صديقه أم قريبه أم زميله أم المتعامل معه أم أي شخص آخر، ويقرّ له ويتراجع، فلن تكون هذه الخصلة إلاّ في نفس خاضعة للعقل).
امتلاك هذه الخاصية الإيجابية في تعامل الفرد مع الآخرين، ليس سهلاً، بل هو في غاية الصعوبة، إذ يحتاج الإنسان إلى قدرة حاسمة على إخضاع النفس، وتدريبها على التواضع، وإحقاق الحق، وترك العزّة بالإثم، فما فائدة أن تبني أمجادك على أسس خاوية من الآثام والأخطاء، والأسوأ من ذلك حين يتمسك مرتكب الأخطاء بموقفه الذي يرفض الاعتراف بالخطأ والتراجع عنه.
وحين يفشل الفرد في السيطرة على نفسه، وتغيب المواقف الإيجابية عن سلوكه، فإنه سوف يتمسك بالخطأ، بل يعلن صحّتهُ حتى لو كان يؤمن في قرارة نفسه بأنه ليس صحيحا!!، لذلك من الصعب جداً أن يفلت الإنسان من هذا الفخ النفسي المتجبّر إلا ما ندر، لهذا عُدَّ (الاعتراف بالخطأ فضيلة)، فليس الجميع يمتلكون شجاعة هذا النوع من الاعتراف.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(لا تخضع النفوس، في الغالب، في إظهار الانصياع للحق، ولا تذعن في أن موقفها لم يكن صحيحاً، بل كلٌ يحاول أن يُظهر أن موقعه كان صحيحاً، وأنه لم يكن جاهلاً، وأنه كان يعلم بحقيقة الأمر، أما أن يقبل من الآخر فهو شيء صعب جداً).
مع كل يوم جديد تزداد حياة البشر تعقيدا، لم تعد الحياة بسيطة سهلة كما في السابق، وأصبح للصراع المادي المتواتر حضورا قويّا في تلويث الواقع البشري وحتى الحيواني والنباتي، لذلك بات الإنسان متوترا، يعيش يومه على إيقاع ماديّ محموم، وقلّما تجد وجها بشوشا، يلقى الآخرين ببشاشة أناس ما قبل عصر العولمة والتكنولوجيا.
في غمرة هذه التعقيدات الحياتية الهائلة، هنالك الفرد الإيجابي القادر على مواجهة المصاعب بقلب سليم، وروح سمحاء، ووجه بشوش، وهذا النوع من الناس وصل إلى هذه الخاصية بعد أن حقق حالة انضباط النفس وامتلك بشاشة الوجه، بمعنى لا يمكن لأي إنسان يترك زمام القيادة لنفسه أن يحقق هذه الخاصيّة، وهذه الإيجابية في التفاعل مع الآخرين، تعود لكون زمام القيادة مناطاً بالعقل، بعد أن تربَّت النفس على الانضباط والإيجابية وبشاشة الوجه عند ملاقاة الآخرين.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على أنّ: (الإنسان الذي يلقى الآخرين بالبِشر هو إنسان ضبط نفسه وربّاها حتى بلغت هذه الدرجة من النقاء).
الخلاصة كي تكون فردا إيجابيا بشوشا، عليك بالدرجة الأولى بضبط النفس، ومن ثم التدريب على التعامل الإنساني، وجعل الشعور بحقوق الآخرين واحترامها من ضمن مجموعة أهدافك إن لم تكن بالمقدمة منها، فمن يبحث عن سعادة نفسه، عليه أن يراعي سعادة الآخرين، ويساعدهم على تحقيقها.
اضف تعليق