إذا أراد الإنسان المتحرّر فعلا من أغلال التطرف والتعصّب، أن يعرف حقيقة النبي محمد (ص) وشخصيته كما هي، فإنه ملزم بعدم الانسياق الأعمى وراء الأبواق المشبوهة التي تسيء لأعظم شخصية في تاريخ البشرية، بحجة حرية الرأي أو حق الاختلاف، لأن إعطاء كل ذي حق حقّهُ وإنصاف الناس جميعا...
(نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله اليوم هو المظلوم الأكثر) سماحة المرجع الشيرازي
لا تزال بعض الأصوات النشاز المضادة للإسلام، تظهر هنا وهناك، على شكل موجات متطرفة، وليس آخرها موجة الإساءة لشخصية النبي محمد (ص) التي ظهرت قبل أيام في فرنسا، وتبدو مثل هذه الحملات الإعلامية مغلّفة بالعفوية والبراءة، ويتم فيها خلط الأوراق، إلا أن المحلل إذا كان منصفاً ومن ذوي الخبرات والنظرات الثاقبة، سرعان ما سيكتشف المخبوء المبطّن من غايات هذه الإساءات التي تكررت في السنوات القليلة الماضية في تبويبٍ عنصري ممقوت.
لقد ركّز الرسول الأكرم (ص) طيلة رحلته بشقيها النضالي والقيادي الحكومي، على جانبين متناقضين تحفل بهما حياة الناس جميعا، ونعني بهما الطيبات والخبائث، وهما يتفرعان من جذور الخير والشر، ويتصادمان بسبب اختلافهما الحاسم في الجوهر والانتماء، فالطيبات جذورها الخير، والخبائث تولد من رحم الشر، وشتان بين الاثنين.
النبي محمد (ص)، تبعا لطبيعة شخصيته، وحيثيات ونتائج سيرته الرسالية والسياسية، ينحو ويميل بشكل حاسم إلى الطيّبات ويدعو إليها، ويرفض ويحارب الخبائث بكل أشكالها، وقد ربّى المسلمين على الالتصاق بالطيبات والتشبث بها وجعلها سيرة ذاتية لكل شخص، مع نبذه القاطع للخبائث بكل أنواعها.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، أكد على مؤثِّثات السيرة النبوية وركّز على الصفات والأفعال المكمّلة لها، حين قال سماحته في إحدى كلماته التوجيهية القيمة:
(من أوصاف النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله انّه أحلّ جميع الطيّبات وما هو جيّد على الناس في مختلف المجالات، الاقتصادية والاجتماعية، والروحية، والنفسية، وغيرها، ودعا إلى اجتناب كلّ ما هو سيئ في كل مجال).
ولا يتعلق التوجيه النبوي بميدانٍ محدد من ميادين الحياة وحقولها، بل يشمل كل شيء، بدءاً من السياسة والاقتصاد والاجتماع، وليس انتهاءً بالأسرة واحتياجاتها، ويأتي التركيز الأكبر على أولوية التزام الطيّبات في هذه المجالات كافة، وهذا يدل على الرفض القاطع لتلويث السياسة والاقتصاد والاجتماع وسواه بالخبائث.
فلا يجوز أن تُدار السياسة بطرائق خبيثة، والمقصود هنا السياسة بشقيها الداخلي والخارجي، وينطبق هذا على التعاملات الاقتصادية والأسرية وحتى الأنشطة العسكرية، فالخبائث هنا مرفوضة بتاتا، وتندرج التعاملات الاجتماعية تحت هذا الشرط أيضا، بعيدا عن التلوث الاجتماعي بالخبائث، بل لا بديل عن منهج الطيّبات في أنشطة الحياة المختلفة.
الإدارة السياسية والاقتصادية النموذجية
سماحة المرجع الشيرازي يقول: (من الطيّبات – التي دعا إليها وأسسها وعمل بها الرسول الأكرم (ص)- هو الاقتصاد الصحيح، والسياسة السليمة، والمجتمع الطيّب، والأسرة الفاضلة، والسلامة البدنية، والروح المتعالية، والنفس المطمئنّة الطيّبة. وأما الخبائث التي نهى عنها النبي صلى الله عليه وآله، فهو كل شيء خبيث، ومنها الاقتصاد السيئ والسياسة السيّئة والمجتمع السيّئ والعسكرية السيّئة في زمن الحرب وغيرها).
ولأن السياسة الاقتصادية التي انتهجها الرسول الأكرم (ص)، بعيدة عن الخبائث بكل أنواعها، فإن التاريخ والمؤرخين الموثوق بهم، أكدوا على قوة الاقتصاد في عهد النبي (ص)، مما جعل من دولة المسلمين الفتية من أقوى دول ذلك العصر، لتصبح ندّا زاحم الإمبراطوريات العظمى آنئذِ، وتوجد أدلة قاطعة على القوة الاقتصادية المتفرّدة لدولة المسلمين، من أهمها القضاء التام على الفقر.
فالدولة التي ينعدم فيها الفقر، ويقلّ أو يغيب فيها الفقراء بشكل قاطع، يعدُّ هذا مؤشرا حاسما على قوتها الاقتصادية أولا، وانعكاس ذلك على قوتها السياسية والعسكرية وتماسكها الاجتماعي، فمع انتشار ظاهرة الانتحار فقرا في عالم اليوم، لم تؤشَّر حالة انتحار واحدة في عهد الرسول الأكرم (ص).
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك بقوله:
(في أيّة حكومة إسلامية بعصرنا الحالي، يمكنك أن تجد مثل تلك الكفاءة الاقتصادية التي كانت في حكومة نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله؟ وهل تجد في حكومة النبيّ صلى الله عليه وآله من انتحر بسبب شدّة فقره؟).
هل من المتوقَّع أن قائدا سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأخلاقيا من هذا الطراز، يصبح عرضةً لموجات وحملات الإساءة؟، وهل هناك مبررات تجعل هذه الإساءات مقبولة؟، كلا بالطبع، لكنّ النيّات الخبيثة المبيّتة، والأهداف التي تقف وراءها قوى ومراكز دولية متطرفة، هي التي تغذي مثل هذه الأصوات النشاز، وتدفع بها نحو التشهير والتشويه والتضليل، لا لشيء إلا لأن الرسول الأكرم (ص) أسس وأدام فكرا ومبادئ وسياسات وأخلاقيات تنتصر للإنسانية كلها.
وكما يُقال في المثل الشعبي المعروف (إن العين لا تحبّ الأرجحَ منها)، لهذا فإن هذه الحملات المسيئة تقف خلفها جهات مشبوهة، هي نفسها تعرف حق المعرفة ما هي مكانة النبي محمد (ص) في التاريخ البشري وبين الأمم كلّها.
معالجة الأمراض السياسية والاقتصادية والأخلاقية
فقد عولجت الأمراض السياسية والاقتصادية والأخلاقية، لتنشأ دولة ضاهت الدول الأقوى، وأمة وقفت حينها في صدارة الأمم، وتضاءلت الأمراض الاجتماعية، لدرجة لم تحصل حالة انتحار واحدة، على النقيض مما يحصل في عالم اليوم المعقَّد.
(لا تجد في حكومة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله حتى حالة اختطاف واحدة، أو مثلها من جرائم، وذلك بسبب الكفاءة الاقتصادية والسياسية والأخلاقية لرسول الله صلى الله عليه وآله. وأما اليوم، فكيف تتعامل الدول مع بعضها؟).
دوافع الإساءة واضحة ومعروفة، حتى لو حاول الجهات والقوى المسيئة، إخفاء الأسباب التي تدفع بها إلى مثل هذه السلوكيات الشاذة، فقد شُنَّت حملات تشويه وإساءة للرسول الأكرم (ص)، بلغت من الظلم أقصاه، ومن الإجحاف منتهاه، ومن الغرابة بمكان أن تُرصَد أموال كبيرة وضخمة لتنفيذ مثل هذه الحملات.
ومن المؤسف حقا أن تشترك بها أصوات وجهات تدّعي الحرية والمدنية، ومناصرة الديمقراطية، لكنها بمثل هذه الأعمال المسيئة والتهم الجاهزة الظالمة، إنما تسيء لنفسها قبل أي شخص آخر أو جهة أخرى، وكان الأولى بهم تخصيص الميزانيات الضخمة لمقارعة التطرف، وليس لتأليب الرأي العام على شخصية عظيمة، أثبتت أفكارها ومبادئها وأفعالها وقيادتها، بأنها الشخصية القيادية الأعظم على مرّ التاريخ.
لذا ينبغي أن يتوقف هذا الظلم، وتتوقف موجات الإساءة المتلاحقة لشخصية الرسول الأكرم (ص)، وبدلا من هذه المحاولات التي تغذيها العصبية والعنصرية والتطرف، يجب أن يكفّوا عن مثل هذه الحملات المشبوهة، وأن يطبقّوا ما يعلنوه من مبادئ تناصر حرية الإنسان، بدلا من أن تبقى حبيسة الألفاظ حصرا.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول: إنَّ (نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله اليوم هو المظلوم الأكثر، حيث نسبوا إليه الكثير من التهم والافتراءات، وقد خصّصوا لذلك ميزانيات كبيرة ووسائل إعلامية كثيرة).
وطبقا لمبدأ أو قانون (لا يصحُّ إلا الصحيح)، فإن كل هذه الحملات المسيئة للرسول الأعظم (ص)، سوف تذهبُ أدراج الرياح، ولن يبقى إلا ما هو مؤكَّد ومثبت بالبراهين والدلائل القاطعة، فسيرة النبي محمد (ص)، متاحة للجميع، وبإمكانهم إن توخّوا الصدق والحقائق، أن يعرفوا شخصية الرسول الأكرم (ص)، كما هي وليس كما يسعى المضللون إلى تصويرها بغير حقيقتها.
وحريّ بشباب المسلمين، بل شباب العالم غير المكبّل بأغلال التطرف، الإطلاع على هذه السيرة بالمعطّرة بأريج الحق والحرية والجمال والأخلاق الفاضلة، حتى يتمكنوا من السير في خط النبي (ص)، وعلى الجميع أن يتعلموا من هذه السيرة الخصبة، لاسيما قادة النخب السياسية والاقتصادية والعلمية وسواها، لكن سماحة المرجع الشيرازي ركّز على شريحة الشباب حول أهمية الإطلاع.
يقول سماحته (دام ظله): (حقّاً إنّ تاريخ نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله لجدير بالمطالعة وبالنشر والتبليغ. فكل ما كُتب عنه وقيل بحقّه وتم تأليفه فهو قليل. ولذا أوصي الشباب، بنين وبنات، أن يطالعوا التاريخ وسيرة النبيّ الكريم صلى الله عليه وآله في مختلف الكتب).
في الآخر، إذا أراد الإنسان المتحرّر فعلا من أغلال التطرف والتعصّب، أن يعرف حقيقة النبي محمد (ص) وشخصيته كما هي، فإنه ملزم بعدم الانسياق الأعمى وراء الأبواق المشبوهة التي تسيء لأعظم شخصية في تاريخ البشرية، بحجة حرية الرأي أو حق الاختلاف، لأن إعطاء كل ذي حق حقّهُ وإنصاف الناس جميعا، تاريخيا أو واقعيا، يعدّ من أعظم القيم التي يجب أن يتبناها المتحضّرون قبل غيرهم.
اضف تعليق