لو أن قادتنا اليوم عرفوا قيمة الأخلاق في كسب عامة الناس، وسعوا إلى استنبات القيم الصالحة، لكانوا يعيشون اليوم في قلوب الناس، ويكسبون تأييدهم واحترامهم، ولأصبح المسلمون في طليعة العالم، تطورا وتقدما وإنسانية، هذا ما كان سائدا في قيادة رسولنا الكريم، فأخلاقه الأرفع هي التي طوّعت له القلوب والعقول...
(لقد جذب رسول الله صلى الله عليه وآله كثيراً من الناس بأخلاقه الرفيعة)
سماحة المرجع الشيرازي
في هذه الأيام ونحن نعيش ذكرى استشهاد نبيّنا محمد صلى الله عليه وآله، سوف نعيش لا إراديا ذلك المنجز القيًمي الأخلاقي العظيم الذي أحدثته انطلاقة الرسالة النبوية في تغيير المجتمع الجاهلي، فمن منظومة قيم بائسة متناحرة، ومن حزمة عادات متخلفة تتكئ على التعصّب والتطرف والغضب والانفلات وضرب حقوق الآخرين، إلى منظومة قيم أخرى مختلفة كل الاختلاف، تقوم على الأخلاق والعفو واللين والتكافل وعلى كل القيم الإنسانية النبيلة.
ولأن الله تعالى خلق الإنسان ووهب له الفطرة ومنحه العقل دون سائر الكائنات، بالإضافة إلى النفس والروح، فتميز الإنسان عن سواه، بتلقّف الأفكار والقيم، وأظهر استعدادا للتطور والنمو الروحي والفكري والمعنوي، ولذلك كان التأثير النبوي الأعظم على مجتمع الجاهلية في الجزيرة، ينصبّ على التغيير العقلي والروحي والنفسي، وينعكس هذا على منظومة السلوك.
لقد أراد الرسول الأعظم (ص) بانبثاق رسالته، أن يغير العقل ويقوّم النفس ويدعم الزخم الروحي لدى الإنسان، وحدث هذا كنتيجة لمواقف ونماذج رافقت أقوال الرسول (ص) وأفعاله، وكل السلوكيات التي كان الهدف منها تغيير الإنسان، وهذا ما حدث بالفعل بما يشبه المعجزة.
فالقبائل المتناحرة، والتشرذم الذي شاب أقوام الجزيرة، والصراعات المتعصبة، والعادات التي تعدَّت على حرمة الإنسان وقيمته ووجوده، كلّ هذا تغيّر إلى النقيض، وبُنيَت دولة عظمى، ومجتمع متماسك في إطار منظومة أخلاقية أسسها وطورها الرسول الأكرم، لتصبح تلك المجاميع الجاهلة المتخلفة أمة علم ونور وأخلاق ومبادئ منحتها التفوّق العلمي والمعنوي والمادي على الأمم الأخرى.
لذلك فإن عامة الناس تبقى بحاجة إلى النموذج الذي تجد فيه مثالا لها، وهذا ما حرص عليه الرسول الأكرم (ص) كل الحرص، فالتأثير الأخلاقي السلوكي في الموقف لا حدود له على الناس، وهذا هو العامل الأهم الذي جعل الناس يتأثرون بشخصية الرسول (ص)، وبمواقفه الأخلاقية النموذجية.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(تزخر حياة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله بالكثير من النماذج المؤثّرة، في العقل والنفس والروح).
القائد هو النموذج الأخلاقي للناس
التركيز على دور النموذج القيادي بالنسبة لعامة الناس أمر بالغ الأهمية، هذا ما كان يحرص عليه قادة المسلمين العظماء بدءاً بالرسول الأكرم (ص) وتلميذه الإمام علي عليه السلام، لذلك من الأخطاء الشائكة التي وقع فيها قادة العرب والمسلمين لاسيما في عصرنا الحالي، أنهم أهملوا قضية القائد النموذج في كل شيء، لاسيما في جانب القيم والأخلاق التي تحكم قراراته وسلوكه.
لقد تحلّى قائد المسلمين الأعظم ونبينا الأكرم (ص)، بمنظومة قيم متكاملة، وأخلاق لا أرفع منها في الدرجة والتطبيق، وهذه المنظومة كان لها تأثيرها الحاسم في التغييرات الكبرى التي طرأت على المجتمع الجاهلي المتناحر، وهكذا تم تكريس القيم في تربة ذلك المجتمع المتخلف، ومع مرور الأيام والسنوات وتوالي المواقف والسياسات، مدعومة بالصبر والمثابرة على تعظيم الأخلاق ونشرها، أزهرت بوادر أمة الخير، وتم تثبيت أركان دولة العدل والإنصاف.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(كان رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع حالاته مثالاً أعلى للأمانة والإخلاص، والصدق والوفاء، وحسن الخلق، وكرم السجية، والعلم والحلم، والسماح والعفو، والكرم والشجاعة، والورع والتقوى، والزهد والفضيلة، والعدل والتواضع، والجهاد).
تُرى هل يدرك قادة المسلمين اليوم ذلك التأثير المتعاظم للأخلاق والقيم في ارتقاء الفرد والمجتمع، وهل حرصوا على أن يكونوا نماذج صالحة لعامة الناس؟، لاسيما بعد أن أظهرت الدلائل التاريخية أن نموذجية القيادة لا بديل عنها في تطوير الأمة، وأن الناس تبقى عيونها شاخصة وأسماعها مشنَّفة لمن يقودها، وفي ضوء من يبديه من أخلاق ومواقف منصفة، يؤمن به الناس ويتشبهون به ويمتثلون لتوجيهاته ونصائحه وحتى أوامره!!
بهذه الأخلاق العظيمة والقيم النبيلة كسب الرسول الأعظم (ص) تأييد الأمة، وأحدث فيهم ذلك التغيير الحاسم، فالتفوا حوله وأنصتوا له وأحبّوه وأيّدوه وتشبّهوا بأخلاقه التي مسحت الكثير من العادات المسيئة، وأنبتت الكثير من القيم التي تشكل مرتكزا حاسما نحو التطور والتقدم.
ولو أن قادتنا اليوم عرفوا قيمة الأخلاق في كسب عامة الناس، وسعوا إلى استنبات القيم الصالحة، لكانوا يعيشون اليوم في قلوب الناس، ويكسبون تأييدهم واحترامهم، ولأصبح المسلمون في طليعة العالم، تطورا وتقدما وإنسانية، هذا ما كان سائدا في قيادة رسولنا الكريم، فأخلاقه الأرفع هي التي طوّعت له القلوب والعقول ومنحته تأييدها دون شائبة أو تردد.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أشار إلى ذلك في قوله: (حين يريد الله أن يثني على نبيّه الحبيب صلى الله عليه وآله يثني عليه بكرم أخلاقه فيقول: (وَإِنّكَ لَعَلَىَ خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وعندما يريد أن يذكّر الأمة الإسلامية بالرحمة المهداة إليهم، يذكّرهم بأهم سمات هذه الرحمة, ألا وهي: لين أخلاقه صلى الله عليه وآله, ويقول تعالى: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مّنَ اللهِّ لِنتَ لَهُمْ)، مما يدل على أهمية الأخلاق والآداب في الإسلام).
خلاصنا في تطبيق المنهج النبوي
وهكذا تم استبدال قيم شائنة إلى قيم عظيمة، وتم طمر عادات متوحشة كوأد البنات مثالا، لتنهض عليها قيم تكفّلت بتمتين النسيج المجتمعي، وارتقت بالأمة إلى مصاف الأمم المُثلى، وشُيَّدت دولة عظمى لم تبارِها دولة أخرى في عصرها، كل هذا كان نتاج المنظومة الأخلاقية المنصفة، والأحكام التي جاء بها النبي الأكرم (ص)، مُضافاً إليها التطبيق الفعلي لها في الخطوات الإجرائية.
ما يعني بأننا اليوم نحتاج إلى هذه المنظومة أيما حاجة، ونفتقر للقيم القادرة على رأب الصدع، والعودة بأمة المسلمين إلى مكانة الصدارة التي كانت تحتلها، بمعنى لو أن مسلمي اليوم لاسيما قادتهم، عادوا إلى تلك المنظومة، واستخلصوا منها ما يصحح قيادتهم، والتزموا تلك القوانين العظيمة، لأصبح المسلمون في مقدمة الأمم والدول وفي جميع المجالات، بسبب أفضلية تلك المنظومة والأحكام.
يقول سماحة المرجع الشيرازي عن ذلك: إن (السنّة أو النظام والأحكام والقوانين التي قرّرها نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله للمسلمين، مثلها مثل النبي صلى الله عليه وآله نفسه؛ فهي أفضل وأكمل القوانين والأحكام).
ولا يكفي أن يطبق القادة وحدهم تلك الأحكام، فما نحتاجه أيضا هو الفعل والالتزام الشخصي للفرد، بمعنى نحن جميعا علينا مسؤولية دراسة المنظومة الأخلاقية النبوية وقيمها، وفهمها وهضمها والعمل بها كلٌ بأقصى قدرته، فالتطور وإن كان فعلا وتخطيطا قياديا، لكن الفرد والجماعة عليهما مسؤولية الالتزام والتطبيق والدعم، لكن التأثير النموذجي للقائد يبقى صاحب المرتبة الأهم.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك حين يقول: (إذا ما طبّق، اليوم أو أي يوم آخر، منهج النبي الأكرم صلى الله عليه وآله والإمام أمير المؤمنين عليّ سلام الله عليه، في بيوتنا، ومحال عملنا، وفي شركاتنا وبلداننا، لَتحقّق ما تحقّق في العالم قبل ألف وأربعمائة عام).
خلاصنا إذاً يكمن في تطبيق المنهج النبوي الغني والمؤثر والضامن لحاضرنا ومستقبلنا، وهذه مسؤولية جمعية شاملة، لذا ونحن نعيش ذكرى استشهاد الرسول الأكرم (ص)، حريّ بنا معرفة وفهم وهضم وتطبيق منهجه، لأننا حين أخفقنا في التمسك بالقيم النبوية، تعرضنا للضعف والتخلف وتراجعنا كثيرا، وهذا لا يليق بخير أمة!!......
اضف تعليق