وما ثورة الإمام الحسين (ع) إلا ردعاً للطغيان والاستهتار بقيمة وكرامة الناس التي مُرِّغتْ بالوحل، وهذا ما تعيشه البشرية في ظل نظام عالمي فاقد للتوازن، وفي ظل أنظمة تقوم على الاحتكار وغياب العدل والرحمة، لهذا نحن نحتاج إلى الفكر الحسيني ومبادئه، ونحتاج إلى كراماته الإلهية كي نهتدي...
بعض المسلمين، وفي بعض الدول الإسلامية نِسَبٌ كبيرة منهم، يجهلون مقام الإمام الحسين (ع) عند الله تعالى وعند رسوله الكريم (ص)، وهناك أسباب كثيرة تقف وراء ذلك، منها التعتيم الإعلامي المقصود على هذا المقام المتفرِّد، ومنها التقصير الإعلامي غير المقصود لمحبّي ومناصري الإمام الحسين (ع) الذي يتجسَّد بضعف الإعلام في نقل الحقائق التي تتعلق بعاشوراء وواقعة الطف وماهيّة الفكر الحسيني ومبادئه الإنسانية المناصرة لحقوق الإنسان.
وإذا كان هناك جهل بمقام الحسين (ع) بين المسلمين، فما بالك بالعالم كلّه، لا شك أن هنالك تقصيرا توضيحيا وفكريا أكبر في هذا المجال، لذلك من أوائل المهام الملقاة على المعنيين بنقل حقائق الطف، ومزايا زيارة الأربعين، ومبادئ الفكر الحسيني، وتفاصيل عاشوراء بكل أحداثها، أن يضاعفوا من خططهم وجهودهم وأدواتهم وأساليبهم التي تعرّف العالم كلّه بمقام الحسين (ع) ومبادئه.
على الرغم من أن مقام الحسين (ع) ذا طبيعة موسوعية شاملة، وأن ملحمة الطف وقفة ثورية فريدة من طرازها، إلا أننا كمؤيّدين حسينيّين مؤمنين بالفكر الحسيني، تقع علينا جميعا مهمة توضيح المقام المتفرّد للإمام الحسين (ع) عند الله ورسوله، وما تحمله مبادئ عاشوراء، من قيم عظيمة يمكنها في حالة فهم المسلمين لها جيدا وإطلاع الآخرين عليها أن تجعل من عالمنا أكثر عدلا وإنصافاً.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في إحدى محاضراته القيّمة:
(من المؤكد أن مقام الإمام الحسين (ع) يحتاج إلى موسوعة ضخمة لبيانه، وحال الإنسان بإزائه كحاله وهو يقف على ساحل البحر، فكيف يبدو أمام هذا العالم الواسع؟ وما البحر في مقابل مقام الإمام الحسين (ع)؟؛ فلا يُقاس بمقام الحسين (ع) لا بحر ولا أرض ولا سماء).
المقام الإلهي للإمام الحسين (ع)
المقام الأعظم للإمام الحسين، يستوجب جهودا استثنائية فردية وجماعية، ومنها تلك المتخصصة في نشر الفكر الحسيني، أما الإحاطة الكلّية بهذا المقام فهي تقع خارج القدرات المحدودة للإنسان، وهذا بحد ذاته يشكل دافعا إضافيا للإنسان، مسلما كان أو غير ذلك، كي يحث نفسه لمعرفة شخصية الإمام الحسين (ع)، وطبيعة ثورته، وأسبابها، ومن ثم مبادئ هذه الثورة وأهدافها.
إذا كان عصّيا على قدرات الإنسان الإحاطة بمقام الحسين (ع)، فهذا مدعاة للغوص في فكره وأهدافه، فهذه الإحاطة هي تمهيد للخلاص من الدنس والشر الذي يحيط بالفرد وبالبشرية أينما وُجدتْ، وكلما عرفنا استحالة الإلمام بمقام الحسين (ع) ومقامه عند الله تعالى، صار لزاما علينا أن نتمسك بفكره ومبادئه أكثر، كوننا نعيش اليوم في متاهة هذا العالم الهش المتداخل في خيره وشرّه!
إننا عاجزون وفق قدراتنا التكوينية عن أن نحيط بمقام الإمام الحسين (ع)، مع كل ما يسعى إليه محبّوهُ في نقل مكارمه عبر المؤلَّفات أو المحاضرات أو المجالس الحسينية وسواها، فقدرة البشر لها حدودها، وهذا يجعلنا أكثر إصرارا في التمسك بالفكر الحسيني والمبادئ الإنسانية العظيمة لهذا الفكر الذي يهدف أولا وأخيرا إلى حماية كينونة الإنسان وكرامته وقيمته ورفض أي تجاوز عليها.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكّد على:
إن (الإنسان محدود في بدنه وهو محدود الصلاحيات والقابليات، فعندما يقف على ساحل البحر، والله وحده يعلم ما يحمله من مليارات ومليارات الأطنان من المياه، فيغرف غرفة صغيرة من البحر، ويقول هذا الماء من البحر؛ فهو لا يمكنه أن يسع البحر بأصابع يده.. ونحن كذلك أمام مقام الحسين (ع)، إذ ننقل لقطات صغيرة من مكارمه وفضائله بحيث يستحيل علينا بهذه الوريقات أن نسع مقامه).
فكم نحن في حاجة إلى شخصية عظيمة كالإمام الحسين (ع)، ونحن نتطلع إلى عالم أكثر عدلا ورحمة، وإلى تعاقد اجتماعي سياسي وأخلاقي يحفظ للإنسان قيمته في ظل انفلات مادي غير مسبوق، يدفع بالبشرية بالانزلاق نحو الحروب والسقوط في براثن قوانين الغاب التي تضيع فيها الحدود بين ما هو مجْدٍ نافع وبين ما هو عكس ذلك، فالبشرية تعيش في متاهة الجشع والمصالح، وخلاصها يكمن في التمسك بالفكر الحسيني ومبادئ ثورته الإنسانية التي تُعنى بالإنسان.
الكرامات العظيمة للإمام الحسين (ع)
هذا التمسّك مبعثه مقام الإمام الحسين (ع) عند الله، والكرامات العظيمة التي تكللّ ذكره ومسعاه وفكره، فهو (ع) سفينة النجاة التي تنقذ كلّ من يصعد فيها أو إليها، وهذا ما يجب أن يدركه المسلمون في كل أصقاع العالم، ومن الأفضل أن يعرفه الناس طرّاً في المعمورة كلّها، فالحسين (ع) فكر ومبادئ وقضية تخص البشرية كلّها، فمن يسعى لصنع عالم متوازن قائم على قواعد إنسانية متوازنة، مفتوحة أمامه بوابة الدخول والانضمام إلى قافلة الخلاص الدنيوي والأخروي.
ويُستدَل على هذا من طبيعة المقام الأعظم والمكانة المتفرّدة للإمام الحسين (ع) عند الله تعالى، وهي مدعومة ومثبتة في براهين لا تقبل الشك، فالأسانيد موثوقة ومتوافرة، وهي في مجموعها تؤكّد بل وتجزم على فرادة ذلك المقام الأعظم للإمام الحسين (ع)، مما يشكل دافعا للمسلمين وغيرهم للالتحاق بالركب الحسيني، والتمسك بسفينة النجاة التي تتكفل بإنقاذ كل من يلتحق بها.
في محاضرة المرجع الشيرازي (دام ظله) نفسُها قال سماحته:
(ورد عن الإمام الحسين بن علي (ع) أنه قال: دخلت على رسول الله (ص) وعنده أبيُّ بن كعب، فقال لي رسول الله (ص):
مرحباً بك يا أبا عبد الله يا زين السماوات والأرضين، فقال له أُبيّ وكيف يكون يا رسول الله زين السماوات والأرض أحد غيرك؟ فقال: يا أُبيّ والذّي بعثني بالحق نبياً إن الحسين بن علي في السماء أكبر منه في الأرض فإنّه لمكتوب عن يمين عرش الله: (مصباح هدى وسفينة نجاة وإمام غير وهن (خير ويمن) وعزّ وفخر وذخر). المصدر: (7) بحار الأنوار: ج 36 ص 204 باب 40 ح 8.
هذه هي مكانة الإمام الحسين (ع)، وهذا هو واقع البشرية كلّها، فهو واقع معروف، ليس للمسلمين وحدهم إنما لكل الأمم التي تسكن الأرض، إنه واقع الضلال بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، واقع المادة بمخالبها الشريرة، واقع الغابة التي يأكل أقوياؤها ضعفاءَها، واقع الضغينة والتطرف والإلغاء والظلم.
وما ثورة الإمام الحسين (ع) إلا ردعاً للطغيان والاستهتار بقيمة وكرامة الناس التي مُرِّغتْ بالوحل، وهذا ما تعيشه البشرية في ظل نظام عالمي فاقد للتوازن، وفي ظل أنظمة تقوم على الاحتكار وغياب العدل والرحمة، لهذا نحن نحتاج إلى الفكر الحسيني ومبادئه، ونحتاج إلى كراماته الإلهية كي نهتدي ونتآلف ونعيش في عالم أكثر أمنا وعدالة، ونحتاج أولا وأخير إلى الانتماء الحسيني كي ينقذنا من خراب هذا العالم المختلّ.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(من مآثر الإمام الحسين (ع)، وقيمته عند الخالق عز وجل ورسوله الأكرم (ص)، أنه (مصباح الهدى وسفينة النجاة)، وفي الحديث بيان لمقامه (ع) من ناحية الشرف وبيان للمخلوق بأن إتباعه (ع) هداية ونور).
نستخلص مما تقدَّم، أن الإمام الحسين (ع) له مقامه الإلهي المتفرّد، وأن هذا التفرّد ينبغي أن يستثمره البشر بالطريقة الصحيحة، والأولى بالمسلمين أن يشرعوا بذلك قبل غيرهم، بل الأولى بالبشرية كلها أن تستثمر فرصة الانتساب للفكر الحسيني والاهتداء به، فما يحصل اليوم في ظل النظام العالمي الراهن استهانة بقيمة الإنسان، والحل يكمن في إعادة النظر بالقواعد المختلّة، والتمسك بالفكر الحسيني الإنساني العادل.
اضف تعليق