الإنسان المتبرّع سوف ينشأ في داخله شعور يلازمه بشكل دائم، وهو الأمل بتقديم شيء ما للآخرين، خدمةً أو مساعدة أو تذليل لمشكلة، بمعنى يبقى في حالة أمل بأنه أسهم في فعل إنساني مؤثر ساعد فيه الآخرين على عبور محنة معينة، وهو شعور يمنح الإنسان نوعا من السعادة والتصالح مع الذات...
(المالُ وهمٌ ينتهي معَ موتِ الإنسان) المرجع الشيرازي
المال وسيلة مهمة لصنع الحياة لاسيما في جانبها المادي، هذا أمر متَّفق عليه، لكن لا يصح أن يكون المال غاية الإنسان في الحياة، من حقه أن يستثمر مؤهلاته للحصول على المال، لكن ليس صحيحا أن يفضّل المال على سائر مجريات ومبادئ الحياة الأخرى، هناك من يرى عكس ذلك ويقرّ بل يؤمن بأن جلّ أهدافه في الحياة جمع (الأموال)، لكن المال ينصرف عن الإنسان حين يؤول مآلهُ إلى القبر.
حريّ بنا، لاسيما من يجد فائضا من الأموال لديه، أن نبادر إلى دعم المؤسسات الخيرية التي تقدّم خدمات مختلفة اجتماعية أو ثقافية وسواها، بهذه الطريقة سوف ننجح في نزالنا المستمر مع رغبة كنز الأموال فوق حاجتنا لها، بالإضافة إلى أننا نسهم في بناء مجتمع متماسك يعتمد في علاقاته على التعاون والدعم المتبادَل، فضلا عن أن المتبرّع أو الداعم للمؤسسات والمشاريع الخيرية هو من يحصل على شهادة نجاح ضد رغباته، ويزداد تقرّبا من الله.
دعم المؤسسات الخيرية والتبرّع بالأموال لا يعني عدم الانتماء للحياة، والسعي في تطوير موارد الإنسان المالية وسواها، كلا، ليس هذا هو المقصود، لأن الناس المؤمنين هم أولا بالحياة وتطويرها، ولا يجب أن تُترك الفرصة للجشعين الظالمين كي يتحكموا بمصائر البشر، وهذا يعني أن دعم المشاريع الخيرية بمختلف مهامها يأتي في إطار ردع أرباب الجشع، وجعل الأخيار في المرتبة الأعلى دائما.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله) يقول في كلمة توجيهية قيّمة له:
(إن من أنكر ذاته لا يرجّح المال على الله، ولا يرجّح الشهوات ولا البطن ولا الشهوة ولا التجارة على الله، وهذا لا يعني أن يترك الإنسان الدنيا ويتخلّى عنها فإن الله خلق الدنيا للمؤمنين وهم أولى بها من الظالمين وأعداء الله).
إذاً هنالك نوعان من التحدّي يخوضهما الإنسان غالبا، الأول وهو الأقوى والأشد سطوة ذلك التحدي الذي تدورُ رحاه في دخائل الإنسان، ونعني به الصراع الذي يخوضه مع نفسه، فهو من جهة يجد رغبة عارمة تدفع به لجمع المال وكنزه وإكثاره بشتى السبل حتى لو فاض عن حاجته، كما أنه يعاني من رفض نفسه للتبرع أو دعم المؤسسات الخيرية لأنه سوف يفقد قسماً من أمواله.
هو تحدٍّ داخلي ذاتي مرير يجري بين الإنسان ونفسه، فمنهم من ينتصر عليها، ومنهم من يُهزَم في هذه المعركة العصيبة، فمن ينتصر هو المؤمن الذي يفهم ويؤمن بأن (رحلة المال تنتهي مع الإنسان حين يصل قبرهِ)، ومنهم من لا تعنيه هذه النتيجة ولا يعبأ بها كونه يُهزَم في صراعه مع نفسه.
استمراء اللهاث الجري وراء المال
النوع الثاني من التحديات يدور بين الإنسان ومنافسيه أو أقرانه، فهو يرى الآخرين يلهثون في مسارب جمع الأموال، ولا يدّخرون جهدا في ذلك، حتى لو كانت الأساليب والوسائل خارجة عن المشروعية، فإذا صار مثلهم ولهث لهاثهم واستمرأ الجري العشوائي وراء المال، سوف يسقط في الاختبار ولا يختلف عن الجشعين الظالمين بشيء، لهذا عليه أن ينجو بنفسه وينأى بها عن المغرمين بكنز الأموال.
كيف ينجو من هذا الفخ؟، حين يؤمن بأنه يسيّر حياته فيما يري الله، ويبتعد عن غضبه تعالى، ويعيش قانعا بما لديه من الأموال وإن كانت قليلة أو معدومة، فالمهم هنا ليس المال، وإنما كيف يعيش الإنسان حياته، هل هو مطمئن النفس راضٍ عن حياته؟ هذا هو السؤال الأهم، وما بعد ذلك عليه أن يفهم ويؤمن بأن المال وهم لا أكثر، وما عليه سوى المبادرة بدعم المؤسسات والمشاريع الخيرية والمحتاجين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(من كان يعيش راضياً مطمئنّاً فهو متمتع بالحياة وإنْ كان عديم المال أو الولد؛ لأن المال ليس أكثر من ميل بل وهم، ينتهي مع موت الإنسان).
الإنسان المتبرّع سوف ينشأ في داخله شعور يلازمه بشكل دائم، وهو الأمل بتقديم شيء ما للآخرين، خدمةً أو مساعدة أو تذليل لمشكلة، بمعنى يبقى في حالة أمل بأنه أسهم في فعل إنساني مؤثر ساعد فيه الآخرين على عبور محنة معينة، وهو شعور يمنح الإنسان نوعا من السعادة والتصالح مع الذات، فهناك من يقول أن سعادتنا تكمن في إسعاد الآخرين، وإذا آمنا بهذا المبدأ، فإننا سوف نكون من أنجح المجتمعات وأكثر ازدهارا واستقرارا.
كذلك فإن من يُنفق أمواله في المشاريع الخيرية أو المساعدات الفردية، فإنه سوف ينال الثواب الإلهي على مبادرته هذه، وفي هذه الحالة يكون قد حقق هدفين مهمين، فضلا عن الهدف المباشر الذي سعى فيه إلى دعم المؤسسات الخيرية التي تقوم بدورها في تقديم أشكال الدعم المتعددة للمجتمع.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يشير إلى هذه النقطة فيقول:
(المال الذي تنفقه في سبيل الله تعالى، خير من جهتين، الأولى: أنه سينقلب ثواباً لك عنده تعالى، والثانية: أنه خير أمل تعوّل عليه في حياتك؛ فإن لكل إنسان يعمل عملاً، أملاً يصبو إليه ويتمنّاه).
ماذا تعني مبادرة التبرع للمشاريع الخيرية؟
ومما يجدر الانتباه له، أن ما يتبرع به الإنسان في حياته أجدى وأفضل وأكثر نفعا مما يوصي به بعد مماته، صحيح أن هناك خطوة يسيرة يمكن أن يقوم بها الإنسان بعد رحيله، وهي أن يوصي بمنح جزء من ثروته للمؤسسات أو المشاريع الخيرية، وهو فعل جيد، لكن حين يتم هذا الفعل الخيري في وجود الإنسان وحياته، يكون ذلك أفضل من ناحيتين:
الأولى: تدل مبادرة التبرع للمؤسسات والمشاريع الخيرية على أن الإنسان قادر على مواجهة نفسه ورغبتها في الاحتفاظ بالمال، وهو اختبار صعب يخوضه الإنسان ضد رغباته الطامعة بكنز الأموال وزيادتها.
الثانية: سوف يرى ثمار مبادرته بعينه، مما يجلب له السعادة، ويجعل منه مثالا حيّا للآخرين.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) أكد هذه النقطة في قوله:
(من اليسير على الإنسان أن يكتب وصيّة يوصي فيها أنْ تُنفق أمواله في سبيل الله، ولكن الأهم أن يفعل ذلك بنفسه وفي حياته، لأن المهم هو قطع هذا الميل وهذا هو الأصعب).
المراقبون لتطوّر المجتمعات، تمكنوا من تأكيد النتائج الإيجابية للمبادرات الداعمة للمؤسسات الخيرية، فقد أظهرت الكثير من الاستبيانات والدراسات الميدانية، أن أكثر المجتمعات نجاحا هي تلك التي تنتشر فيها ثقافة التبرع والدعم المستمر للمؤسسات والجمعيات الخيرية التي تأخذ على عاتقها ملء الفراغ الاقتصادي والعلمي والثقافي الذي قد تتركه الحكومات والمنظمات بسبب ضعفها أو سوء إدارتها.
وكلما كانت مدخلات الإنفاق الخيري جيدة ومتعاظمة، كانت النتائج مذهلة، حيث تتطور القدرات وتنمو الطاقات، وتتضاعف المؤهلات، لنصل إلى مجتمع راقِ أسهمت في ارتقائه المبادرات الداعمة للمؤسسات والجمعيات الخيرية.
هذا يدعونا جميعا، لاسيما من يجد له القدرة على تقديم الدعم والمبادرة، إلى تقديم الإسناد المالي للمؤسسات التي تقيم وتطور مشاريع مختلفة من شأنها مساندة المجتمع وزيادة قدراته وتماسكه.
يدعونا سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا: (لنشمّر عن ساعد الجدّ، ولنضع بعض أموالنا في خدمة المشاريع والمؤسسات الخيرية، فمن لم يستطيع وحده، فليساهم وليبذل مقدار استطاعته، فهذه هي الباقيات الصالحات).
وهكذا تصبّ مخرجات المبادرات الفردية أو الجماعية الداعمة للمؤسسات الخيرية، في تطوير المجتمع، وتسهم في مضاعفة قدرات الأفراد، وتسد الكثير من الثغرات الاقتصادية والثقافية وسواها، وهذا يدعو من يهمه الأمر (الإعلام، منظمات المجتمع المدني مثلا) إلى نشر هذه الثقافة الإيجابية الفاعلة، أملا في خلق مجتمع فاعل متماسك يصبو إلى مستقبل وضَاء.
اضف تعليق