يتّضح هنا أن الأفعال والإجراءات هي التي تمنح الإنسان أو الحكومات مكانتها وصفاتها، فإن كانت العدالة منهجهم، والضمير قائدهم، والحق طريقهم، هنا تكمن حكومة العدل، وعند الاستهانة بالحريات والحقوق واعتماد المراوغة والخداع والتضليل والاستئثار بحقوق الناس، فإن الحكومة التي تقول بأنها عادلة...
الحكومة هي إحدى السلطات الثلاث للدولة التي تضم السلطة التنفيذية (الحكومة)، بالإضافة إلى السلطتين التشريعية (مجلس النواب) والقضائية (دار القضاء)، هذه السلطات الثلاث تترتب وظائفها تبعا لنوع النظام السياسي في الدولة، فإذا كان برلمانيا (كما هو الحال في العراق) تكون هذه السلطات منفصلة عن بعضها، ولا سلطة للحكومة على السلطتين الأخريين.
وهذا ما يسمى بالنظام الديمقراطي الذي تتم فيه مراقبة الحكومة من قبل السلطة التشريعية، وهذه السلطات تكون مستقلة عن بعضها، ويكون فيها القضاء خارج سلطة الحكومة والكتل والأحزاب التي تشارك في السلطة التنفيذية، أما في الأنظمة الأخرى، النظام الرئاسي مثلا، فهناك خطر حصر السلطات في شخص الرئيس مع إفراغ السلطتين التشريعية والقضائية من ميزة الاستقلالية عن الحكومة التي يقودها رئيس الدولة في النظام الرئاسي، وهو نظام ضعيف يمكن أن تتحول فيه الحكومة إلى القمع لأنها تختصر كل السلطات في شخصية رئيس النظام.
قد تكون هناك أنظمة رئاسية جيدة كالنظام الفرنسي مثلا، وهذا يتبع الدستور وعمق التجربة الديمقراطية، أما في الدول التي تنتقل حديثا من النظام الدكتاتوري الرئاسي إلى الديمقراطي كما حدث في العراق، فإن النظام الرئاسي يشكل خطرا عليه، وقد يقول قائل، ألم يفشل النظام الديمقراطي في العراق، الجواب إن السبب ليس في الديمقراطية وإنما بسبب الكتل والأحزاب المشاركة في العمل السياسي.
وأعظم الحكومات هي تلك التي تتسم بالعدالة والإنصاف، وهي الحكومة التي تسعى لتهيئة كل الظروف التي تساعد الشعب على العيش في سلام ووئام وانسجام، عبر ترسيخ المساواة وتكافؤ الفرص ونشر الحريات وحماية الحقوق، من خلال عدم إطلاق صلاحيات الحاكم وتحديد عمل الحكومة وفق الدستور والنظام الديمقراطي، ومراقبتها من البرلمان ومحاسبتها عند الخلل من القضاء المستقل.
نعم ليس سهلا أن تكون الحكومات عادلة إذا غابت التشريعات، وجُمعت السلطات وأصبحت رهناً للحاكم وحكومته، وكذلك لن تكون الدولة عادلة عندما يقودها نظام ديمقراطي (شكلي) يدّعي الديمقراطية ويبتعد كل البعد عن تطبيقها، فلا تكون المؤسسات مستقلة، لهذا عندما تصبح الحكومة عادلة فعليا فإنها تستحق أعظم المراتب وأعلاها عند الله تعالى، ويصح العكس تماما، أي أن جهنم بانتظار الحكومات الظالمة، لأن الحكومة تمتلك كل الإمكانيات والقدرات.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كلمة توجيهية قيمة:
(الحكومات العادلة مراتبهم عظيمة عند الله، والظالمين منهم، دركاتهم في جهنّم شديدة وشديدة، لأن الحكومات بإمكانها أن تفعل كل شيء).
استخدام الصلاحيات في إطار الإصلاح
الشطر الأخير من كلمة سماحتهِ في أعلاه، تؤكّد أن الحكومات بإمكانها أن تفعل أي شيء، وهذه الإمكانية يمكن أن تكون لصالح الشعوب أو ضدها، فالحكومة الظلمة حتى لو كانت ثروات الأرض كلها تحت تصرفها، تبقى غير عادلة ولا يمكن أن تنصف الناس، وتلحق الظلم بالناس وتنشر الفقر والجهل، وتعتمد المحسوبية والكيل بأكثر من مكيال في التعامل مع شعبها.
ولكن يمكن للحكومة أن تستخدم إمكانياتها في إطار الإصلاح، وحماية الحقوق، والحفاظ على الحريات، وتنشر السلام والعدل والرفاهية، وبهذا يمكن أن تكون مكانتها عالية عند الله تعالى، فضلا عن تأييد الناس لها ودعمها، لأنها أنصفت الناس ولم تستحوذ على الثروات والحقوق ولم تقمع الحريات.
السلوك الصحيح للحكومة وللفرد بشكل عام، هو أن يحقّ الحق، ويجعل من الأخلاق عنونا لقوله وسلوكه وإجراءاته، أما الحكومة فإن العدل والتسامح والعفو هو الذي يعلو بمكانتها ويزيد من شأنها، فحتى لو كانت الشعوب خارجة عن السلوك الصحيح، مطلوب من الحكومة أن تكون أقرب إلى العفو في تعاملها من سواه، فما بالك حينما يسلّم الشعب كل مقدّراته بأيدي الحكومات ولا تعدل ولا تنصف؟؟
وإذا كان العفو والتسامح والعدل وإحقاق الحق يجعل الإنسان والحكومة مقبولة بل مؤيَّدة من الجميع، فلماذا لا تلجأ إلى هذا السلوك الحقوقي المتحضّر؟.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:
(العفو يجعل الإنسان عزيزاً ومحبوباً في الدنيا وفي الآخرة، فلم لا تستعمل الحكومات العفو مع شعوبها؟).
من الفضيلة أن عفو عمّن يسيء لنا، وهذا ينطبق على الحكومة، فما بالك حينما تسيء الحكومة للناس من دون وجه حق، وذلك عندما تتحول إلى حكومة ظالمة، وتنسى أو تتجاهل كل الخطوات والإجراءات التي تجعل منها حكومات عادلة، الأخلاق والدين يدعوان إلى الصفح والعفو عن المسيء، إلا الظلم والظالمين، والحكومات حينما تكون ظالمة فإن العفو عن سلوكها ليس فضيلة، فمن الأفضل للحكومات أن تبتعد عن ظلم الناس.
تجربة العراقيين مع الدكتاتورية
فأن لا تعدل الحكومات بين الناس هذا ظلم، وأن لا تحمي حرياتهم هذا ظلم، وحين لا تحمي ثرواتهم هذا ظلم، وعندما لا تعدل بينهم، هذا في قمة الظلم، فكل هذه وسواها أسباب تدفع الناس إلى عدم مقاضاة حكوماتها، وعندما تغلط بحق الشعوب لا تستحق العفو.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظلّه):
(الظالم الذي يغلط عليك ويسبّك ليس من الفضيلة أن تعفو عنه).
ولكن يوجد من يستحق العفو حتى حينما يظلمك، فمن هؤلاء الذين يستحقون أن نسامحهم حتى بعد ظلمهم لنا، إنهم (الزوج، والشريك، والجار)، هؤلاء أناس يشاركون حياتك في أدق تفاصيلها، كما إنك يمكن أن تغيّر في مواقفهم بشكل سريع، ولكن ماذا يمكن أن نفعل من الحكومة إذا كانت ظالمة، وكلنا نمتلك تجارب قاسية مع أنظمة وحكومات دكتاتورية أذاقت الناس الأمرين.
بالأخص ما عاناه العراقيون من الأنظمة الانقلابية، وأقرب تجربة دكتاتورية مريرة عاشها العراقيون، كانت مع النظام البعثي الذي اختصر جميع السلطات في حاكم فرد، عقله هو الوحيد الذي يدير البلد من أقصاه إلى أقصاه، حتى في أصعب القرارات وأخطرها، فإن رأيه وقراره هو الوحيد الصحيح من بين جميع الآراء قاطبة، حتى آراء المقربين والمؤيدين خير مقبولة.
لذلك الحكومات يمكن أن تكون عادلة، ويمكنها أن تكون العكس حين تجعل من وسائل وأساليب الظلم طريقا لها، والعفو، واللين، والعدالة، والإنصاف، وحماية الرأي وحريته، وحفظ الحقوق كافة، وتوزيع الثروات على نحو عادل، هذه هي أساليب الحكومة العادلة التي تحظى بتأييد الشعب، كونها ترعى الجميع، من دون سياسة الكيل بمكيالين، وهذه هي سياسة الرسول صلى الله عليه وآله، وهي سياسة الإمام علي عليه السلام التي لم يرضَ بها الظالمون.
أما حكومات الغبن والاستحواذ واتخاذ العنف والقمع وسائل لحماية الكرسي والسلطة، فهذه الحكومات سوف تصطف في خانة الحكومات الظالمة التي قد تجهل مصيرها عندما تكون في السلطة، لكن الحكام الظالمون يعرفون ما النهاية التي تنتظرهم حتما، كما انتهى إليها من سبقهم من الحكام الذين فضّلوا ظلم شعوبهم.
أما علاقة الإنسان مع زوجته أو شريكه في العمل أو سواه بالإضافة إلى الجار، فالأمر هنا مختلف، فأنت لن تكون أمام حكومة ظالمة أو شخص ظالم لا يستحق العفو، إنما الصحيح هو تقديم العفو والتسامح على كل أسباب القطيعة.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) قائلا:
(يمكنك أن تقوم بهذا الأمر أي العفو، مع زوجتك ومع شريكك وجارك).
يتّضح هنا أن الأفعال والإجراءات هي التي تمنح الإنسان أو الحكومات مكانتها وصفاتها، فإن كانت العدالة منهجهم، والضمير قائدهم، والحق طريقهم، هنا تكمن حكومة العدل، وعند الاستهانة بالحريات والحقوق واعتماد المراوغة والخداع والتضليل والاستئثار بحقوق الناس، فإن الحكومة التي تقول بأنها عادلة، سوف لا تستحق سوى صفة وتسمية الحكومة الظالمة.
اضف تعليق