من منظور لا يقبل الازدواج أو الخطأ، يتضح أن شهر رمضان الكريم، يمكن أن يكون المنطلَق الصحيح لتحقيق الذات والنجاح والتميّز، من خلال خطوات مهمة يتخذها الإنسان، أهمها أن يراقب نفسه، ويهذبها، ويعدّل من نزواتها وهفواتها، وإذا فعل ذلك واعتاد عليه، يكون قد بلغ الهدف المرام حتما...
خُلق الإنسان لكي يحقّق ذاته، هذا ما قرأناه في أوائل رحلتنا مع القراءة في كتاب (مدخل إلى علم الفلسفة)، وتحقيق الذات يعني بلوغ الإنسان درجة الرضا والاطمئنان لما قدمه من إنجازات في حياته، وهذه الدرجة هي الهدف الأسمى لكل الناس، حتى من هم في مستويات اجتماعية وعلمية متوسطة أو واطئة، فالإنسان بطبيعته يُسعد بإعجاب الآخرين به، وهذا لا يتحقق إلا بالمنجز المختلف والباهر.
كيف يمكن لنا أن نحقق ما نصبو إليه في هذا المضمار، كيف نجعل الناس فخورين ومعجبين بنا، حتى نشعر بأننا بالفعل حقّقنا ذاتنا، هل يُعجَب بنا الناس حين لا نشعر بمشاعرهم، أو حين نبخسهم حقوقهم، هل يفخرون بنا حين نخرج على القيم والأعراف التي تضبط تناغم المجتمع وتحافظ على القيم وتدعم العلاقات الإنسانية؟، بالطبع من يريد تحقيق ذاته وإعجاب المجتمع به، عليه أن ينسجم مع الآخرين، وأن لا يكون سببا في تعاستهم وتعاسة نفسه.
كيف يتحقق هذا؟، باختصار هذا الهدف لا يمكن الوصول إليه إذا أغفل الإنسان محاسبة نفسه، ذلك لأنه بطبيعته يتكاسل أو يغض الطرف عن مراجعة النفس أو الضغط عليها، وردع رغباتها، إلا إذا برع في توظيف الفرص المتاحة له، كي يضع نفسه تحت مجهر المراقبة الذاتية، وشهر رمضان المبارك، هو أنسب الأوقات، وأوفر الشهور على الأجواء الإيمانية التي تساعد الإنسان على وضع نفسه قيد المتابعة والحساب والتوجيه، وهذا يحتاج إلى عمل حثيث.
سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يقول في كتاب (من عبق المرجعية):
(على الإنسان أن يحاول في شهر رمضان المبارك، أن يعمل حتى يبلغ مرحلة يعتقد فيها أنه تغيّر فعلاً وأنه أصبح أحسن وأفضل من السابق).
كل إنجاز من أي نوع كان يحتاج إلى خطة عمل، ولعل الإنجاز النفسي أكثر صعوبة بمراحل من الإنجاز المادي، لهذا مطلوب من كل إنسان يضع في حساباته وضمن مخططاته، بلوغ المرحلة العليا لتحقيق الذات، أن يضع خطة عمل ذهنية أو حتى مكتوبة، لكي يطبّق في ضوئها خطوات متتالية، تقوده بالنتيجة إلى الهدف النهائي، ونعني به رضا الناس عنه وقبولهم به والنظر إليه على أنه إنسان ناجح.
خطط مهمة لمراقبة النفس
التفاصيل اليومية ذات أهمية كبيرة في مراقبة النفس ومحاسبتها، وشهر رمضان يمنح الإنسان هذه الفرصة إذا بادر إلى وضع الخطة المدروسة والكفيلة في نقله من إنسان لا مبالي، تارك الحبل على الغارب، إلى إنسان مسؤول، يفهم ما عليه من واجبات تجاه الجميع، حتى تجاه نفسه، ويعرف تماما ماهية الحقوق الملقاة على عاتقه، هنا عند هذه النقطة تصبح نفس الإنسان في قبضة العقل، ولا يمكنها أن تذهب إلى أبعد من الحدود الشرعية المقبولة، وبذلك ستكون النتائج باهرة نتيجة لمراقبة التفاصيل اليومية للأعمال والأفعال.
سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يؤكد ذلك في قوله:
(ليخصّص المرء كل يوم من شهر رمضان بعض وقته ويخلو فيه، ليراجع ما قد مضى منه خلال الساعات الماضية، فينظر ما عمل وما قال وما سمع وما رأى وما أخذ وما أعطى). ويضيف سماحته:
وتوجد خطوات محاسبة ومراقبة ومتابعة للنفس، لا يصحّ إغفالها أو التنصّل من تبعاتها، حتى لو كانت مجهِدة، فالمثابرة على الحساب اليومي، ومراجعة ما بدر منك من أقول وسلوكيات، وأنت تنشط بين الآخرين، أمر بالغ الأهمية، وعليه يتوقف مدى نجاحك في تشديد القبضة على رغبات النفس، وردعها، وإجبارها على الانصياع إلى المنطق المعلّى الذي يجعلك محبوبا مقبولا مثيرا لإعجاب الجميع بإنسانيتك، وحفاظك على حقوق الناس، وحرصك على أداء واجباتك ليس منّةً على الآخرين، وإنما واجبا تمليه عليك رغبتك في تحقيق الذات والفوز بقبول جمعي من المجتمع.
هذا الشهر الكريم لا نبالغ قطّ، إذا قلنا بأنه الفرصة الأندر والأنسب للإنسان، كي يحقق درجات عالية في مدار كسب الإعجاب الجماعي الذي سينعكس على مكانة الإنسان الاجتماعية، ورضاه النفسي عن ذاته، ولعل الإجراء المطلوب ليس عصيبا، إنه في غاية السلاسة، ليس عليك أكثر من أن تخصص وقتا قد لا يتجاوز الدقائق لتراجع نفسك عما بدر منها، كي تقوّم وتصحح لتنجح.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ينبغي التوجّه في شهر رمضان الكريم إلى محاسبة النفس كل يوم, ولو دقائق, يستعرض الشخص فيها ما قال وعمل، وما سكت عنه وترك، خلال يومه وليلته).
عوامل مساعِدة لبلوغ القمة
ولهذا السبب يركّز سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) على قضية (محاسبة النفس)، فمن لا يحاسب نفسه يوميا، لاسيما في شهر التقوى والسلام، فإنه لا يستطيع أو يصعب عليه حجرها والتحكم بها في أيام الشهور العادية التي تخلو من نفحات شهر رمضان العابقة بالطهر والنقاء.
أما في حال قام الإنسان بوضع الخطة الكفيلة بمراقبة النفس يوميا، فإنه سوف يعتاد ذلك، ويصبح هذا الفعل أو الإجراء جزءا من المنظومة الفكرية والسلوكية اليومية له، وفي هذه الحالة سوف يكسب الرهان، وسوف يقوده ذلك إلى تحكّم منضبط لنفسه، وسوف يشعر بأنه إنسان يقف على بوابة تحقيق الذات التي لن تغدو عصيّة عليه أو بعيدة عنه، وفي حال تحققت هذه الآلية العقلية السلوكية، سوف تنعكس على الإنسان، وسوف يظهر تأثيرها عليه واضحا وقويا، لهذا فإن المحاسبة اليومية المنظَّمة للنفس، شرط أساس من شروط تحقيق الذات.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(ليس هناك طريق للتوفيق في بناء الذات أسهل من طريق محاسبة النفس، لأنَّ المحاسبة مطلوبة جدّاً ولها تأثير كبير على الإنسان).
وهناك عوامل مساعدة كثيرة، يمكن للإنسان أن يلجا إليها لتحقيق ما يبتغي، بالأخص في هذا الشهر الكريم، فكما ذكرنا أن تحقيق الذات هدف مهم بل مصيري للجميع، لكن بلوغ هذا الهدف غير متاح لكل من يرغب دون أن يسعى وفق الاشتراطات التي تقوده إلى ما يهدف، فالاختبار الصعب لا يبدأ من اتخاذ قرار محاسبة النفس وردعها، بل يتحقق الاختبار عندما يباشر الإنسان الخطوات الفعلية أو الإجرائية، حين يخصص وقتا محددا من كل يوم ليبدأ بالمحاسبة.
وعادة ما يكون ذلك في نهاية النهار الطويل، وما يتخلّله من أعمال وأقوال، وكم درجة التزامها ومراعاتها لحقوق الآخرين، وما مدى الثبات على الواجبات، هذا هو الاختبار العسير الذي يمكن أن يتجاوزه الإنسان بالدعاء وزيارة مراقد الأولياء والصلاة، طلبا للعون على النفس ومزالقها، فالصلوات والأدعية والزيارات، عوامل روحية كبيرة ومهمة، تساعد الإنسان في بلوغ قمة تحقيق الذات، عبر خلق التوازن النفسية، والهدوء والاطمئنان والثقة، وهذه كلها تصبّ بالنتيجة في صالح الإنسان الذي يعتمدها، لأنها معدّات أكيدة وضامنة لتحقيق الذات.
يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):
(الصلوات والأدعية والزيارات والأعمال الواردة في شهر رمضان المبارك بنفسها معدّات لتحقّق بناء الذات).
ومن منظور لا يقبل الازدواج أو الخطأ، يتضح أن شهر رمضان الكريم، يمكن أن يكون المنطلَق الصحيح لتحقيق الذات والنجاح والتميّز، من خلال خطوات مهمة يتخذها الإنسان، أهمها أن يراقب نفسه، ويهذبها، ويعدّل من نزواتها وهفواتها، وإذا فعل ذلك واعتاد عليه، يكون قد بلغ الهدف المرام حتما.
اضف تعليق