q
هناك العديد من الفلاسفة الرقيقين ولكن ليس كلهم. المهنية الفلسفية ترتبط بالذكاء وليس باللطافة. تاريخ الافكار يكشف عن عباقرة كانوا ايضا شديدي المراس واحيانا غير موثوق بهم. غير ان هناك فرق بين مجرد عدم كونك انسان لطيف وهو امر قد يحدث لأي شخص...
"أهم شيء مثير للانتباه في هذا الزمن هو اننا لازلنا لا نفكر"

 

هذا الاقتباس يعبّر عن الاحباط الذي شعر به العديد من المفكرين الكبار بدءاً من هيرقليطس وحتى نيتشة. ما يجعل هذا الاقتباس ذو خصوصية هو انه جاء من اكثر الفلاسفة اثارة للجدل وهو مارتن هيدجر(1889-1976). ذلك من المؤكد انه كان يفكر. هو كان من اعظم فلاسفة التقاليد الغربية. بعض القرارات الاساسية في حياته تبيّن انه كان انتهازيا لا ولاء له للاصدقاء، او للتلاميذ او لإستاذه هسرل ولا حتى لزوجته. دفتر ملاحظاته الشخصي يحتوي على مقاطع معادية للسامية بشكل واضح. هو كان متعاطفا مع النازية منذ عام 1933 فصاعدا، يؤمن بذاته كمدافع عن الفكر الاكاديمي والجامعة في العصر الجديد. هو بقي غير نادم طوال حياته.

يرى بروفيسور الفلسفة بيتر ركمان ان هيدجر لايرى اي عيب فيه، هو يبدو كأنه توقّع من هتلر ان ينهض من قبره معتذراً له لأنه لم يحقق له ما كان يتوقع. هناك العديد من الفلاسفة الرقيقين ولكن ليس كلهم. المهنية الفلسفية ترتبط بالذكاء وليس باللطافة. تاريخ الافكار يكشف عن عباقرة كانوا ايضا شديدي المراس واحيانا غير موثوق بهم. غير ان هناك فرق بين مجرد عدم كونك انسان لطيف وهو امر قد يحدث لأي شخص، وبين عمل أحكام قوية كنتيجة لتفكير عميق بأدوات تفكير عالية. الاول هو شيء مخجل لكن الثاني يمثل ازمة كبيرة.

عند النظر الى افلاطون وكانط وبرتراند رسل، نعتقد بقوة بالنوعية الجيدة للتفكير ودورها في تحسين نوعية الخطاب العام والحياة العامة. هذا يبين لماذا كان هيدجر لغزا محيرا للناس. ما الغرض من الفلسفة ان لم تتمكن من منع فيلسوف بمستوى هيدجر، من عمل أحكام وخيارات حياة مرعبة؟

هذه ليست الطريقة الوحيدة التي يجعلنا فيها هيدجر نعيد النظر في معنى وحدود الفلسفة. اعتقد هيدجر ان سؤال "ماذا"هو سؤال مركزي للفلسفة ذاتها. ما يميز الانسان عن الحيوانات الاخرى هو انه يمتلك لغة وهذا يعني ان الانسان لديه طرقه الخاصة في الارتباط بالوجود، بكلمة اخرى، امكانية الفعالية الفلسفية. يسأل هيدجر سؤال المعنى وتعريف الفلسفة مرات ومرات طوال حياته وبمختلف السياقات. احد السياقات هو تاريخ الفلسفة. كيف نستطيع تحقيق عدالة لرموز تاريخية في الفلسفة لا يمكن انكارها دون ان نصبح مجرد موجهين وقادة للماضي؟ يؤكد هيدجر على ان الفلسفة هي اكثر من تقاليدها، وهذا يقوده الى سؤال الوجود كقضية يراها افلاطون، "تشعل معركة، تشبه معركة الآلهة والعمالقة". هو لديه رؤية عن الطريقة المتفردة التي يوجد بها الكائن البشري ويرتبط فيها بالعالم، وكيف يؤثر هذا على منْ نكون وكيف نتعامل مع كل شيء.

احدى المعالم الاساسية في فلسفة هيدجر هو ملاحظته بان الفلسفة عبر الألفين سنة الماضية تعاملت مع جميع الوجودات التي يمكن ان توجد في هذا العالم (بما فيها العالم ذاته)، لكنها نسيت ان تسأل عن ماهية الوجود ذاته. اعتقد هيدجر ان حضور الاشياء امامنا هو ليس وجودها، وانما هو فقط تفسير لها كأشياء طبقا لنظام معين من المعاني والاهداف. فمثلا، عندما نستعمل المطرقة بفاعلية في الطرق على المسمار، فنحن لم نعد واعين بها.هيدجر يرى ان(ماض) معين يكتسب حضوره بطريقة مبسطة عندما يُختزل بفائدة مستقبلية محتملة لنا. هو يؤكد ان الفلسفة والعلوم منذ اليونان القديمة اختزلت الاشياء الى حضورها والتي هي طريقة سطحية للفهم. هذا هو الشيء الاساسي في التحقيق الفلسفي. تفكير هيدجر هنا أثّر بعمق على كل مفكر جاء بعده ضمن تقاليد القارة. ولهذا نرى لماذا هو مهم جدا؟

الأصالة

طبقا لهيدجر، في الشكل غير الأصيل للوجود (لا يُمارس التفكير)، نحن يتم امتصاصنا باستمرار في طلبات الحاضر، حيث الاستراتيجيات وحسابات الوسائل والغايات كلها تُوجّه من جانب الميديا الواسعة لتقول لنا ان ذلك الشيء جيد او ثمين او ناجح. في هذا الشكل من الوجود نحن نفقد انفسنا، الحياة تصبح مجرد سلسلة من الاحداث المنعزلة الواحدة تلو الاخرى، يتم توجيهها خارجيا. هنا غايات العيش ثابتة لكنها لا تخضع لأي نوع من التساؤل. لكي نختبر هذا، لنرى كم عدد الدقائق التي صرفناها نتسائل عن غايات حياتنا بدلا من مجرد ملاحقة تلك الغايات.

في ثقافتنا الحالية نحن نستطيع البدء بتحديد بعض هذه الاشارات الخارجية المرشدة مثل الفاعلية، الانتاجية، ما يبدو جيدا، السيارة الملائمة، العيش قرب جيران جيدين، ارسال الاولاد الى مدرسة جيدة وهكذا. غير ان النتيجة هي اغتراب دائم للمرء. يحدث هذا لأننا ضمن هذا النظام نلاحق دائما القيم الخارجية. حالما نستهلك القيمة الاولى لم يبق لنا سوى السعي للقيمة القادمة التي قررها العالم. هذا يقود الى يأس وجودي بكل ما يحمل من تجليات.

يرى هيدجر انه ليس كل الامكانات التي اُلقيت لنا هي ضرورية، بل يجب ان نركز على الامكانات التي تسير في خط منسجم مع وضعنا المتماسك، هذا يسمح لنا ان نمتلك ونتبنّى مواقف متفردة، نوجّه بها انفسنا وفق خيار عميق. هذا النوع من الاختيار الاصيل يصنع الحياة، يصنع الشخصية. انه يعني امتلاك اتجاه محدد وواضح. هذا يسمح بنشوء نوع من الهوية الفردية المنسجمة فيها نستطيع الانخراط بتصحيح الطريق واعتماد ستراتيجيات ذاتية ندرك انها تسير في خط منسجم مع منْ نحن. هنا نحن لا ننخرط فقط في سلوك لأجل غاية نراها ضرورية، بل ان الوسائل ذاتها تمثل طريقة في الحياة، طريقة في الوجود المتناغم مع مشروعنا العميق، انه التزام ثري بحياة نختارها فكريا.

ماذا كان يشبه هيدجر ؟ كفيلسوف شاب وسيم وذو شخصية ساحرة يقف في تناقض صارخ مع الصورة الخشبية التي نمتلكها عنه. هو شعر براحة كبيرة في الطبيعة وأمضى معظم وقته في الجبال منزويا في كوخ ليس فيه الاّ القليل من الأثاث. كان يجب عليه نقل الماء من بئر قريب. هيدجر يفتخر بالعزلة. حبه للفلسفة وحاجته لمتابعتها في سياق اكاديمي هما الوحيدين اللذين سحباه خارج عزلته نحو حياة الجامعة المزدحمة. هنا هو كان نجما، كتابه الشهير "الوجود والزمن" الذي صدر عام 1927 لم يفهمه الاّ نفر قليل. ماثيو برنارد يتحدث في مقال له عن هذه الشخصية الغامضة: هو كان دائما يتجنب المدن الكبرى، رافضا عرضا بالعمل في برلين مفضلا ان يمضي وقته المهني في مدينة صغيرة اقل اضطرابا، كالمدينة التي تحتضن جامعتي فريبرغ وماربيرغ. هو كان شعبيا لكنه محاضرا صعبا، طريقته في الحديث تكشف عن مفكر يتحرك متخفيا بعناية: شديدا، مركّزا، يحفر عميقا في المشكلة، لن يتنازل ابدا، ولن يصرف ذهنه.

لم يؤمن هيدجر بالإعلام الواسع كوسيلة ملائمة للنقاش الفلسفي. هو فضّل الحوار المباشر وجه لوجه. هو يرى ان الكتب هي ايضا تحقق هذا الشرط طالما ان القارئ يستطيع الانخراط بها وفقا لشروطه، بينما التلفزيون او الراديو لا يوصلان الى الفهم. هذا يرتبط بشك عام في التكنلوجيا. هيدجر لم يكره التكنلوجيا لكنه كان قلقا من القبول اللانقدي لها. هو كان مصرّا على اننا يجب ان نسعى للفهم الكامل لهذا المظهر الحياتي المتغير من وجودنا الانساني.

............................
المصادر:
1- The fight for the soul of philosophy, Philosophy Now,April/May 2018
2- Wikipedia, The free Encyclopedia
3- Heidegger and Authenticity,EPIS Worldwide Blog
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق