لكل حدث سواء كان جيدا أم سيئا، نافعاً أم مضرّا، سبب يؤدي إلى هذه النتيجة، وعراق اليوم الذي يعاني من نواقص تبدو للرائي والمتابع كبيرة وخطيرة، يخضع لقاعدة النافع والضار، إذ لابد أن تقف أسباب قريبة وبعيدة وراء ما يحصل للعراق اليوم، فاضطراب السياسة ومتاعب الاقتصاد العراقي، وسوء الخدمات، والهزة التي تعرضت لها البنية الاجتماعية واهتزاز بعض القيم، وسوى ذلك من نواقص يعاني منها العراقيون، لم تكن كلها وليدة اليوم، فالماضي البعيد والقريب يتحملان جانبا من المسؤولية، وربما الجزء الأكبر منها، لكنَّ الحاضر له حصة أيضا من مسؤولية ما يتعرض له العراق من مشاكل بعضها يصنَّف بأنه خطير.
فهذا البلد الغني بثرواته الطبيعية وموارده البشرية، وعلمية العقول التي يزخر بها، لم تتهيأ له الفرصة الكاملة كي يمضي قُدُما إلى أمام في الصناعة والزراعة والسياسة والعلم والثقافة، وحالات النقص التي تخللت هذه الحقول أسهمت برداءة وتدنّي أوضاع العراق والعراقيين، على الرغم من كونه يقف إلى جانب أكبر الدول في غناه وثرائه الطبيعي والبشري.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في الكتاب القيّم الموسوم بـ (من عبق المرجعية) في ثراء هذا البلد:
(إن في العراق كل مقوّمات التقدّم والتطوّر، والرفاه والراحة، فهو يملك المال، والنفط، والأرض الخصبة).
إذاً نحن نقف وجها لوجه أمام بلد غير فقير، بل أهم ما يميزه هو الثراء والعز والاقتدار العالي في الجانبين المادي والروحي، فضلا عن غناه في المجالات الفكرية والمعنوية وذكاء أهله بشهادة الغرباء قبل الأصدقاء، حتى أن العراق سمّيَ منذ أزمنة بعيدة، بأنه (أرض السواد)، أي أنه الأرض التي تغص بالثمرات والخيرات والبساتين التي تجعل من أرضه مغطاة باللون الأسود بسبب كثرة البساتين والثراء الزراعي الضخم الذي يتحلى به هذا البلد.
لهذا يصف سماحة المرجع الشيرازي بقوله:
إن (العراق... أرض السواد... فلا أتصوّر ولم أسمع ببقعة أخرى في العالم تسمّى بأرض السواد؛ بما يعني أنها أرض كلّها خير وبركة).
العراقيون شموع في خدمة العراق
أمر طبيعي أن كثرة الثروات والأموال والموارد البشرية وحدها لا تبني بلدنا مرفّها متطورا، ولا يمكن أن تمنح الشعب رغيد العيش والبحبوحة التي تعيشها الشعوب الغنية، ذلك أن الأموال الضخمة، والثروات الهائلة تستدعي إدارة متمرسة حريصة صادقة تمتلك الخبرة التامة، والوطنية العالية والأمانة، ومخافة الله التي تعد رأس الحكمة.
فلا فائدة قط، في ثروات كثيرة وموارد غنية متنوعة، بلا إدارة حريصة ذكية مؤمنة، وهذا بالضبط ما عاناه ويعانيه العراق والعراقيون، فعلى مرّ الأزمنة لم يحظى العراقيون بطبقة سياسية وحاكم منصف إلا ما ندر، نعم كان ولا يزال العراق جزءا من المسلمين، وحصل على فرصة سياسية وإدارة ناجحة، ولكن الغالب كان حكامه ظالمين وحكوماته جائرة، وفي التاريخ القريب، رزح العراقيون تحت نير الدكتاتورية، فبُعثرت الثروات، وضاعت الأموال، وانتهكت الموارد بشقيها المادي والمعنوي، ولم يتم التعامل مع الثروات بحرص وذكاء وأمانة، فلم تدخل في خدمة العراقيين ولم يستفيدوا منها إلا ما ندر.
لذلك يتطلب الحال أن تتضافر الجهود والطاقات والعقول لجعل العراق بلدا متقدما، وشعبه مرفّها، ينال حقوقه ويتمتع في ثرواته كالشعوب المتقدمة، فكل إنسان يهمه هذا الشعب وهذا البلد ينبغي أن لا يدّخر جهدا في الإعلاء من شأنه، وعلى جميع العراقيين أن يكونوا شموعا تضيء عذابات العراق وتطرد ظلمته، وتمكّن شعبه من العيش بحرية ورفاه ووئام، وتمنع الأيدي التي تعبث بأمنه وثرواته، فالعراقيون يستحقون حياة أفضل مما يعيشونه الآن.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا الشأن:
(كل إنسان من الممكن أن يكون شمعة في مجال.خدمة العراق.. وكل كلمة لها قيمتها، وكل عمل، فإنها مثل قطرات المطر؛ فإذا كثرت القطرات يتولّد عنها السيل الجارف).
ولهذا السبب لا يحتاج العراق إلى من يبعثر ثرواته وأمواله، ولا يريد قادة لا يمتلكون الإنصاف وتعوزهم خاصية نكران الذات والإيثار، قادة يفضلون أنفسهم وعائلاتهم وأحزابهم على الشعب، وهذه هي الطامة الكبرى، فحين يتربع الفاشلون على سدة الحكم، ويسوسون البلاد بلا علم ولا كفاءة ولا تخصص، هذا سوف يسيء للبلد ولشعبه الذي ضحّى وصبر كثيرا، وهو ينتظر الآن من يعوضه عن عقود الحرمان والعذاب في عهود الدكتاتورية الشمطاء، وهذا ما يوجب على الجميع المساهمة في رفع معنويات العراقيين وتقديم الممكنات العلمية والفكرية والحياتية بشكل كامل لهذا الشعب، ليس اليوم فقط، وإنما في القادم من الأزمنة أيضا.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله:
(العراق بحاجة إلى سيل من المعنويات الماديّة والفكرية والعلمية والصحيّة، في هذا اليوم هو بحاجة إلى كل ذلك، وغداً أكثر احتياجاً إليها).
نعم للتعددية ولا للدكتاتورية
والدكتاتورية هي بيت الداء، فهي التي أورثت العراقيين الفقر والجهل وبعثرت أموالهم وثرواتهم ومواردهم في أرجاء الأرض، وبعثرتها شمالا ويمينا من دون وجع قلب، وكأن هذه الأموال تعود للدكتاتور وزبانيته، ولا يوجد أي حقوق منها للشعب المعذّب، ولأن حاجة العراق والعراقيين كبيرة، لكي تلتئم جروحه ويتعافى شعبه، وينهض ويواصل مسيرته بلا تلكؤ أو نكوص أو تراجع، فهو يحتاج إلى قادة يمكنها إدارة الثروات والأموال بدراية وروّية ونجاح، وهذا لن يتحقق في ظل الدكتاتورية كونها نظام عاجز أحادي مصلحي لا يفكّر إلا بحماية سلطته وعرشه.
أما ما يحتاجه العراق اليوم فهو نظام تعددي دستوري، يتألف من عقول متميزة وكفاءات مشهود لها بالخبرة والأمانة والحرص والإيمان، نعم يحتاج العراق إلى النظام التعددي حتى يتخلص العراقيون من شبح الدكتاتورية الذي يحوم حولهم وفوق رؤوسهم إلى الآن.
كذلك يحتاج العراق إلى أبنائه المخلصين المثابرين العاملين بجدية وإيمان، مع العمل الجاد المتواصل على درء خطر الارهاب وعزله وإطفاء بؤر التوتر والتطرف، ونشر ثقافة التعايش، حتى يعيش العراقيون مستقرين منشغلين بالفكر الراقي والابتكار، مع التوظيف الأمثل لثرواتهم وأموالهم ومواردهم.
إذ يتساءل سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا المجال:
(كم يحتاج بلد مثل العراق من جهود وإرادة وجديّة وعمل متواصل وإخلاص وأموال ودعاء، حيث عانى عقوداً طويلة من العزل والإرهاب والبطش والتجهيل وما إلى ذلك، في ظل أعتى ديكتاتورية في العالم؟!).
نعم هذه هي احتياجات العراق ولها الأولوية القصوى، ولكن هل يمكن للحاكم الدكتاتور تأدية هذه الحاجات وهو مشغول بتثبيت أركان عرشه؟، بالطيع هذا أمر محال، لذا يحتاج العراق إلى نظام ديمقراطي حر، يقوده رجال أحرا، يتميزون بالإيثار والتضحية من أجل بناء العراق وتعويض شعبه عن كل ما تعرض له من جوع وحرمان وعذاب.
هذه بالضبط الحاجة القصوى للعراق، نظام ديمقراطي، يقصي الدكتاتورية ويرميها بعيدا، وينشغل في بناء العراق ورفاهية العراقيين، وهذا لن يتحقق إلا بقادة أمناء مثابرين صادقين يؤثرون الشعب على أنفسهم ومصالحهم، ويعوضون الشعب العراقي عن كل ما عاناه في زمن الدكتاتورية.
يقول سماحة المرجع الشيرازي مؤكِّدا هذا الهدف:
إن (العراق بحاجة إلى التعدديّة لا الدكتاتورية، فبقدر ما تجرّع العراق آلام الدكتاتورية هو بحاجة اليوم إلى التعدديّة).
اضف تعليق