لا يُخفى على أحد ذلك الدور الكبير للإيمان في حياة الانسان، فقد اثبتت دراسات وبحوث وتجارب لا حصر لها، على أن الايمان ينعكس بصورة مباشرة على شخصية الانسان ويُسم في تحسين حياة الفرد والجماعة، وأظهرت حالة الاقتران بين الايمان والنجاح، ترابطا كبيرا، لدرجة أن المعنيين أكدوا على أن الايمان أينما يتواجد سوف يتواجد النجاح، وطالما أن الأخير يمثل هدفا للجميع، فإن العامل المكمِّل والمحقِّق له هو الإيمان، ولكن هناك أكثر من وجه له، أي أن الايمان يمكن أن يتوزع بين وجهين، أحدهما ظاهر للجميع بحيث تتم ملاحظته ورؤيته بحواس الانسان المعروفة، ووجه آخر باطن للإيمان، لا يمكن معرفته وملاحظته بحواس الانسان، الامر الذي يجعل من كشفه ومعرفته على درجة من الصعوبة، كونها حالة بين الانسان ونفسه وضميره وقلبه، فهي تتعلق بسريرة الانسان وضميره الذي لا احد يستطيع الاطلاع عليه، ومعرفة بواطنه وما يضمره من نوايا وأفكار واهداف إلا الله سبحانه وتعالى.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيّم، الموسوم بـ (نفحات الهداية)، إذ يقول سماحته حول هذا الأمر: (اذا كان الانسان قادرا على خداع أخيه الانسان بظاهره، فإنه لا يقدر على ذلك مع الله لان الله سبحانه وتعالى يعلم ما في الضمائر وما تخفي الصدور).
ولكن قضية الايمان الظاهر لا تشكل عيبا او قصورا في سلوك الانسان، أي أنه عندما يكون ذا مظهر حسن يدل على الايمان والورع ظاهريا، فهذا لا يتناقض مع الايمان، ولا ينتقص من قيمة الانسان، بل على العكس، من الأمور الجيدة في شخصية الانسان أن يكون إيمانه ظاهرا في شكله المرئي وفي سلوكه المسموع بحواس الناس العادية، حيث يتحرك وينشط ويتفاعل الانسان في محيط اجتماعي أو عملي يحتوي على افراد او جماعات يحتك بها ويدخل معها في تعاملات عديدة، وهذه هي طبيعة الحياة، فهل سيكون مظهره الجيد وكلامه الذي يوحي بالايمان والورع سبّة عليه؟، وهل يحق للاخرين الانتقاص من هذا الشكل والسلوك والكلام المؤمن؟، بطبيعة الحال من الامور الجيدة والايجابية ان يكون ظاهر سلوك الانسان وكلامه وافعاله جيدة وتوحي بالايمان، وليس العكس (مخافة الاتهام بالخداع والتمثيل والإدّعاء وما شابه)، فالظاهر الجيد، مطلوب أن يظهره الانسان للآخرين، ولكن ينبغي أن يرافقه الباطن الجيد.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله في الكتاب المذكور نفسه: (هذا لا يعني البتّة أن الظاهر لا ينبغي أن يكون جميلا، بل المقصود ان جمال الباطن مطلوب مع جمال الظاهر).
الإنسان وحسن المظهر
يستطيع من يتفحّص ويدقق في طبيعة البشر، أن يكتشف بأنهم مجبولون على إخفاء النواقص والعيوب، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى هم مجبولون ايضا على تحسين الظاهر، وليس ثمة إشكال في ذلك، بمعنى من الأفضل أن يسعى الانسان لأن يظهر أمام الآخرين بمظهر وظاهر حسن، على أن يكون متطابقا مع يتطلبه الايمان من الانسان من تشابه بين الظاهر والباطن من سلوكه وافكاره واهدافه، فيكون هناك تطابق بين طرفي المعادلة، وهذا هو ما يهدف إليه الايمان الحقيقي، بمعنى أكثر دقة، إذا أراد الانسان أن يحبّب نفسه وشخصه للآخرين فلا مانع من ذلك، بل هذه طبيعة بشرية، وهدف مزروع في ذات الانسان وتركيبته التكوينية، ولا إشكال في ذلك، على أن لا يتم استخدام الظاهر لخداع الآخرين، إذ يحدث هذا عندما يكون الظاهر شيئا ذا مواصفات جيدة، في حين يكون المضمَر في الذات والباطن ذا مواصفات سيئة، يحاول بعضهم إخفاءها من خلال الظاهر الحسن.
هنا سوف يتناقض الأمر مع الإيمان، لأن الانسان المؤمن، لا يُظهِر خلاف ما يُبطن، وإذا حدث ذلك واختلف ما يظهره الانسان عن ما يخفيه، فسوف يكون هناك تناقض، وربما يكون هناك تحايل على الاخرين، إذ قد يبدو الفرد للآخرين من أصحاب الخير والاستقامة، ولكنه في دخيلته غير ذلك، أما لماذا يلجأ بعضهم لهذا التناقض، فالسبب واضح، عندما يكمن هدف استغفال الناس بالظاهر من اجل تحقيق ما يترسّخ في باطن الانسان.
في هذا المجال يقول سماحة المرجع الشيرازي موضّحا ذلك: (يحاول الانسان ان يحسن ظاهره، بل هو مجبول على ذلك، وعلى إخفاء عيوبه ونواقصه، ولذلك فهو يسعى ان يخفي حقيقته وباطنه، لئلا يكتشف الآخرون اختلافه عن ظاهره وما يتظاهر به).
وهذا ما يحدث في الواقع فعلا، فإننا غالبا ما نستدل على طبيعة الناس من ظاهرهم، كونه متاح لنا، ويمكننا من خلال القياس عليه رسم انطباع أولي على درجة استقامة وايمان الانسان، ولكن في الحقيقة ليس هذا هو المعيار الحقيقي لتقييم الانسان بصورة صحيحة، إن باطن الانسان وجوهره هو المقياس الصحيح لمعرفة درجة ايمانه ونيّاته التي لا تظهر للعلن.
ويدعم سماحة المرجع الشيرازي هذا الرأي بقوله في كتابه (نفحات الهداية) عن هذا الموضوع: (اذا رأيت شخصا يواظب على الحضور في صلاة الجماعة، تحكم بأنه انسان خير وانه ملتزم بالحضور الى صلاة الجماعة بدافع قلبي، وهكذا الحال اذا رأيت عالِما او شخصا يرتاد الأماكن المقدسة او المساجد، فإنك ستحمل عن واقعه فكرة ايجابية، اي انك تعتبر ظاهره هذا دليلا على انه انسان خير).
الله تعالى ينظر الى قلوبنا
إن حيثيات الإيمان وكل ما يتعلق به تنطوي على نقائض، اذا ما أخطأ الانسان في التعاطي معها، سوف يخسر الكثير، لأننا نتفق جميعا على القدرة الكبيرة للايمان في دفع الافراد والمجتمعات الى الأمام، فالحقيقة عندما نلاحظ رجلا متسما بالايمان، فإننا سوف نلمس نجاحه واستقامته وقدرته على التطور ومواجهة المصاعب بالبر والتعلّم وما شابه، على خلاف الانسان الخالي من الايمان، فهو في الغالب فاشل متسرع ومتعصّب وغير عقلاني، وهذا ينعكس على عموم المجتمع، فكلما كثر عدد غير المهتمين بالايمان كلما شكّل ذلك مشكلة للمجتمع وإخفاقا للافراد والجماعات غير المؤمنة، وقد يكون مصدر عدم الايمان الانسان، قياسه لقيمة نفسه على آخرين يشعر أنهم أفضل منه في المقام الاجتماعي او العلمي او الديني او غير ذلك ومع ذلك هم من المخطئين، ولكن الله تعالى لا يفرق بين انسان وآخر وفق المراكز او الجاه او المنصب، ولا يصح أن يكون الانسان نموذجا لغيره بمجرد كونه من اصحاب المراكز والنفوذ، إنما ايمان الانسان وجوهره هو المعيار الأهم، لأن الله سبحانه لا يقيس على المظاهر، بل يجعل من قلوب الناس هي المعيار الأساس للتمييز بينهم.
لهذا يشير سماحة المرجع الشيرازي الى هذه القضية قائلا في الكتاب نفسه: (هناك ظاهرة خاطئة في المجتمع، وهي أن كثيرين من الناس يقولون اذا كان فلان – مع ما له من المقام الاجتماعي او العلمي أو الديني- يعمل المنكرات او في حياته زلات، فماذا تتوقعون منا نحن الناس العاديين؟).
ويضيف سماحته قائلا في هذا المجال أيضا: (لا شك أن هذا الكلام ليس صحيحا، بل هو يمثل ظاهرة خاطئة، ويدل على ان قلب المتفوّه به غير مرتبط بالله، بل بغيره، وكأنه قد نسي ان الله سبحانه وتعالى ينظر الى قلوبنا ولا ينظر الى صورنا). لذلك نحن نتفق على ان الايمان هو مصدر نجاح الفرد والمجتمع، وان التطابق بين ظاهر الانسان وباطنه في انجاز اعمال الخير دليلا لا يقبل الشك على قوة الايمان التي يتحلى بها الإنسان.
اضف تعليق