ونحن نحتفل في هذه الأيام الجليلة بميلاد سيد الكائنات، النبي محمد (ص)، ليس أمامنا سوى أن نستذكر هذه الشخصية العظيمة التي أكرمها الله تعالى بملَكات وصفات وخصال، ميزته في سابقا ولاحقا عن البشرية جمعاء، فهذا القبس الإلهي النوراني حباه الله مزايا لم يحصل عليها بشر، فتمكن أن ينهض بقومه (قريش)، والمجتمع الجاهلي في الجزيرة العربية كلها، ليرفع عنهم كتل الظلام وما أثقلها، فحررهم من العادات البالية والقبلية السمجة والعصبية والتطرف المقيت.
واستطاع أن يبني بقومه من (ذوي الفهم البسيط بعد أن قوّمهم تدريجيا) تدريجيا، أعظم دولة في ذلك الحين أي قبل أكثر من 1400 سنة، لكنها تضاهي أقوى دول العصر، من حيث البناء والعلم والمواهبَ والاقتصاد والقوة ومتانة النسيج الاجتماعي، لدرجة أن جميع إمبراطوريات ذلك العصر شعرت بهيبة دولة الإسلام ونظرت الى المسلمين باحترام، حتى من طرف الأعداء، وكما هو معلوم، تم بناء المسلمين بقوة القيم النبيلة أولا وأخيرا، بعد أن قائدهم الأعلى الرسول (ص) قدوة وأسوة لهم من حيث الفكر والسلوك والقيم العظيمة.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في الكتاب الموسوم (من عبق المرجعية):
(لم يأت مثل رسول الله صلى الله عليه وآله فيما مضى، ولا يأتي نظير له إلى الأبد).
ونظرا لهذه المواصفات النادرة، واستنادا الى السيرة النبوية الخالدة، سواء في السياسة أو العلم، أو الأخلاق، أو الإدارة، والعفو واللين، وجميع القيم التي اعتمدها الرسول في بناء الإنسان أولا وبناء الدولة، يستدعي من جميع المسلمين، النخب أو عامة الناس، أن يسترشدوا بهذه الشخصية المثالية ومبادئها وسيرتها وفكرها وسلوكها، حتى يضمنوا النجاح تبعا لهذا التطبيق والالتزام والتأسّي بهذه الشخصية التي لم يعرف التاريخ البشري مثالا لها ولن يأتي مثله في القادم من الزمان.
لذلك ينصح سماحة المرجع الشيرازي ويطالب بما يلي: (على المسلمين, بل العالمين, إن أرادوا لأنفسهم خيراً، الاقتداء بسيرة النبي الأكرم صلى الله عليه وآله، والتأسّي بأخلاقه صلى الله عليه وآله).
القرآن معجزة الرسول (ص)
وفي الوقت الذي كان يعاني فيه مجتمع الجزيرة من قلّة الوعي وتدّني المستوى الثقافي، فإنهم عانوا تبعا لذلك من ضعف القيم الإنسانية، فسادت الفتن وحالات الاحتراب والأنانية فيما بينهم، واشتدّ أوار العصبية القبلية، وسالت دماء غزيرة على لا شيء، فيما كان الآباء يتطيّرون جزعا عندما يكون مولودهم الجديد بنتاً، فكانوا يئدون المواليد من الإناث ويدفنونهن وهن أحياء، حتى جاء الرسول الأكرم (ص) ليقضى على جميع هذه القيم والعادات البالية، ليحل محلها قيم الإسلام النبيلة، فجعلت من هذا المجتمع المغطّى بالجهل من أخمص قدميه الى قمة رأسه، من أعظم المجتمعات إن لم يكن الأعظم قاطبة بعد أن اتخذوا من نبيهم وقائدهم أسوة لهم في الفكر والقول والسلوك والقيم.
سماحة المرجع الشيرازي يصف ذلك بالقول: (كان رسول الله صلى الله عليه وآله في جميع حالاته مثالاً أعلى للأمانة والإخلاص، والصدق والوفاء، وحسن الخلق، وكرم السجية، والعلم والحلم، والسماح والعفو، والكرم والشجاعة، والورع والتقوى، والزهد والفضيلة، والعدل والتواضع، والجهاد).
ولكي يكون التأثير النبوي قويا ومثاليا في الأمة، فإنه لم يكتف بتغيير الفكر، ولا بتطوير القيم فقط، ولا في تمتين النسيج الاجتماعي، ولا في بناء الدولة ونظامها السياسي على وفق مبدأ الشورى، ولكن هناك عامل أهم من كل العوامل التي استخدمها الرسول الكريم (ص)، لبناء الدولة والأمة، تلك هي المعجزة الخالدة التي تتمثل بالقرآن الكريم، فهو الكتاب السماوي الوحيد الذي بقي محفوظا من التحريف والتشويه والتزوير، بعد أن حفظه الله وصانه من كل المخربين، وقد أنزل الله تعالى نصا مباركا يؤكد الحفاظ على القرآن الكريم من كل نيّة تحريف أو تزوير.
وقد فشلت جميع الخطط التي تم وضعها لكي تنال من هذه المعجزة، ليبقى هذا الكتاب المبارك، مصونا من التحريف بقوة الإرادة الإلهية، وكي يبقى دستور المسلمين ودليلهم في تهذيب وتشذيب وترتيب حياتهم على وفق المثل والنبوية التي تمثلت في شخصية النبي محمد (ص)، وانعكس على شخصية المجتمع الإسلامي كله، فكان مثالا للمجتمعات القوية المتوازنة المتعلمة المتقدمة.
كما نلاحظ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي بالكتاب نفسه: إن (القرآن معجزة الرسول صلى الله عليه وآله الحيّة الخالدة، لأنه هو الكتاب السماوي الوحيد الذي أرادت له الإرادة الإلهية أن يبقى مصوناً من الزيادة والنقصان، والتبديل والتغيير، رغم كثرة المتصدّين لتحريفه، والمخطّطين لتزويده، ليكون الكتاب الخالد، والدستور الدائم للحياة).
نموذج القيم النبيلة
ليس سهلا أن يتمكن القائد بتغيير مجتمع عاش في ظلام القيم والعادات مئات السنين، في وقت قياسي في عمر الزمن، ففي غضون عقدين تمكنت القيم الجديدة التي بثها وزرعها النبي محمد (ص)، في أمته، استطاعت أن تغيرها وتدفع بها الى أمام بما جعل منها من أكثر الأمم آنذاك تنويرا وعلما، ففي الوقت الذي كانت شعوب الغرب تنام تحت أكداس الظلام، كان المسلمون يحققون قفزات عظيمة في مجالات الحياة كافة، وقد ظهر ذلك في البون الشاسع في تقدم المسلمين وتأخّر غيرهم من الأمم التي تتقاسم معهم المعمورة.
بالطبع لم يكن هذا ممكنا في أي حال، إذا لم يكن السبب ظهور شخصية قيادية عظيمة، ليس في مجال (القوة، والإدارة، وجمع الموارد وما شابه)، وإنما بتغيير القيم السائدة وتطوير الجيد منها، ليتحول الإنسان من آلة جوفاء تحكما القبلية والجهل، الى عقل واع ينضح بالنور والعلم والأخلاق والقيم النبوية العظمى.
لهذا يرى سماحة المرجع الشيرازي بأنّ: (النبي صلى الله عليه وآله أكبر وأفضل شخصية خلقها الله تعالى، حتى أن الإمام أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب سلام الله عليه عندما سئل: أنبيّ أنت؟ قال: أنا عبد من عبيد رسول الله صلى الله عليه وآله).
ولعل أهم الأسباب والعوامل التي ساعدت على بناء الإنسان في الجزيرة ودولته المتوازنة القوية، يكمن في شخصية الرسول الكريم (ص)، فهذه الشخصية العظيمة أنتجت أعظم القيم والتشريعات والقوانين، وطالما أنها صدرت من النبيّ الأكرم (ص)، فإنها تماثله في الانتماء الى الخير والحقيقة والجمال والإنسانية، واستنادا الى ذلك تمثّل المسلمون شخصية قائدهم الأعلى، وجعلوا منها مثالا لهم يقتدون بها في كل شيء يطوّر حياتهم وتفكيرهم وعقولهم.
وهكذا حصل المسلمون (المجتمع الجاهلي في الجزيرة سابقا)، على فرصة ذهبية لكي يتحوّلوا من الجهل والضياع والخنوع والقبلية، الى قيم جديدة (نبوية)، جعلت منهم أمة عظيمة تفوقت على أمم عصرها بعد أن كانت عبارة عن مجاميع قبلية تتقاتل فيما بينها، من دون أن يلوح لها أي أمل بالتطور والتغيير، حتى جاءها الرسول الكريم هبة من الله، فتغيرت أحوالهم رأسا على عقب، وصارت الأمم الأخرى تغبطهم وتتمثل بهم بعد أن كانت أمة منسية في قاع الحياة، لينقذها النظام أو السنّة والقوانين والأحكام النبوية ولتصبح من أرقى الأمم في عصرها، وهذا ما يدعو المسلمين اليوم، قادة ومجتمعات أن يستفيدوا من السيرة النبوية العظمى في تطوير حياتهم وتغيير أحوالهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: إن (السنّة أو النظام والأحكام والقوانين التي قرّرها نبيّ الإسلام صلى الله عليه وآله للمسلمين، مثلها مثل النبي صلى الله عليه وآله نفسه؛ فهي أفضل وأكمل القوانين والأحكام).
اضف تعليق