q

ما العلاقة الرابطة بين الفكر، والربيع؟، هذا الفصل الذي يوصف بأنه المحطة الطبيعية الأولى لانطلاق الحياة بعد فصل السبات، وشائج عدة تجمع بين الفكر والربيع، حين البحث فيها سنعرف أن ثمة تشاكلاً وتعالقاً بين الاثنين، فالربيع والفكر يلتقيان في الطبيعة الانطلاقية لكليهما، والأول هو مبتدأ الحياة، فيه تعود الأزهار الى الوجود واخضرار الأشجار، وتغريد الطيور، والبشر يملؤها الحبور، كل هذه المظاهر التحديثية تجد في فصل الربيع محطة انطلاق لها، والفكر أيضا دائما هو محطة تحديث فيدفع العقل الى نزع جلده الفكري كما تنزع الأفعى جلدها لتزهو بجلد لامع جديد.

في مثل هذا البزوغ والاحتدام والتجدد، يلتقي الربيع بالفكر، واليوم تنبت من جديد جينات الفكر العاشورائي، فمحرم هو رحمها وربيعها، في كل عام وفي مثل هذه الأيام من شهريّ محرم وصفر، يعيش العالم الشيعي الإسلامي الإنساني ربيع الفكر الحسيني، لتبدأ نقطة الشروع من لحظة (تغيير الراية في كربلاء المقدسة)، حيث أجواء الخشوع الصاعق، والإعلان المدوّي عن تغيير الزمن والمشاعر والأحداث، والبدء بلحظة الصوت الحسيني الأعظم، هنا في هذه التربة قد تدفق دم الشهادة الأعظم، دم سيد الشهداء، دم الأوصياء والأولياء والأنبياء، هذه هي تربة النبع الأكرم لدم الحسين (ع)، ومعها يبدأ ربيع الشعائر.

هكذا وصفه سماحة المرجع السيد صادق الشيرازي، فقال في كلمة بالغة الصفاء (إننا نعيش في هذه الأيام ربيع الشعائر المقدسة)، وفي هذا الربيع كل شيء يُصبح مختلفاً، فالقلوب تهفو الى كربلاء السموّ والقداسة والرفعة، كربلاء الفكر الحسيني العاشورائي المحدَث، والنفوس كلها تمتلئ بالدعة والعرفان، والألسن تلهج ليل نهار بهذه الواقعة الأعظم على مر التاريخ، تلك هي المزاوجة بين ربيع الفكر وجلال الواقعة، كلاهما منتخَب من عصارة الفكر وربيع المجد الحسيني.

ما يلاحظه الجميع، أن محرم وهذه الأيام لا تُشبه سواها من ألوان الزمن المختلفة، كما أن الجموح الشعائري يبلغ منتهاه، وتصدح الحناجر، وتصطف المواكب الحسينية (كالبنيان المرصوص) الى جانب بعضها، في منظر إنساني تكافلي قلّما نجده في التاريخ أو الواقع وعلى مساحة العالم أجمع، سفرة من الزاد هي الأطول والأكبر في العالم أجمع، ووجبة من الفكر تتجدد وتتحدث على مدار الساعة، مواكب بعضها يتلو بعضها، تتقدمها لافتان تعلن عن أسمائها وانتمائها السيل والفرعي، هذه المواكب الهادرة مكونة من مجموعات بعضها يتبع الآخر، تعلو أصوات المشاركين فيها (آلاف مؤلّفة)، فترعب كل من قصَّر في أمر للناس، صوت هادر يضع (على جبين كل مقصِّر طينته)، صوت يقول للفاسد أنت فاسد وهذا دليل فسادك، ويقول للمختلس أن (حرامي) وهذا دليل اختلاسك، ويقول بلسان قوي فصيح وحناجر مؤمنة لا يشوبها الخوف، نحن على نهج الحسين، لا نخشى أحدا، لا نخاف اللصوص ولا المتعاونين معهم، الله وحده هو من نخشاه لأننا أبناء علي والحسين (ع).

هذه الأيام ودقائق الزمن المدجج بالخشوع والشموخ والجلال، ربيعية التحديث، حسينية الهوى في المنهج والمبدأ والفحوى، ينتظرها المسلمون ومنهم العراقيون وبالأخص الكربلائيون على أحرّ من الجمر، كي يسترجعوا عبق التاريخ الجليل، وحتى تعيش الكلمة ربيعها والفكر الحسيني حضوره الأزلي، حيث تتجه قلوب المسلمين في العالم عبر بوصلة كربلاء الخشوع والأمن والسلام والسطوع الأبدي، فتتقاطر الأرواح قبل أجسادها الى هذه البقعة المقتطعة من رياض الله، وكيف لا وهي معطّرة بأنقى الدماء وأندرها وأكثرها عزّة ومجدا لانتمائها الى الدوحة المحمدية.

وفي مثل هذه الأيام العاشورائية تنتعش صور أخرى من صور الربيع المبدئي، إنه ربيع الحياة العظمى إذ ترنو عيون العالم نحو سيد الشهداء ومرقده الملهم وأنواره المشعة في حياض كربلاء المكللة بالنور النبوي، فهذه أيام الحسين (ع) ودمائه العابقة بدقائق وتفاصيل الواقعة التي أذهلت العالم، وهزّت ضمير التاريخ، وألهبت القلوب والنفوس حماسة، لنصرة الحق والإنسان والفكر المبدئي، وبهذا الاندفاع الإيماني العميق تكون المزاوجة منتجة للفكر العاشورئي المحدث، بما يتسق والتطلعات الكبرى لصناعة عالم يقوم على الوشائج المبدئية والأواصر الأخلاقية، وتثبيت حرمة الإنسان ليس في العراق وحده، ولا في بلاد المسلمين وحدهم، وإنما العالم المضطرب كله، بأرجائه وبقاعه والبؤر المحتقنة فيه.

ونحن نعيش هذه الذكرى العظيمة، ذكرى عاشوراء، ونتحسس حالة الاتحاد بين تحديث الفكر الحسيني وواقع العراقيين والمسلمين عموما، فإننا نقف إزاء طور معرفي ثقافي يتضاعف في كل لحظة ليشمل الملايين من الناس، عقولاً وقلوباً ونفوساً، فهناك منهج فكري ثقافي سلوكي يرافق الحشود المتدفقة على كربلاء المقدسة، وهذه الحشود تعيش الأنشطة الفكرية الدينية الثقافية الحسينية المبدئية، وهي تعيش لحظة بلحظة جميع الأنشطة الفكرية والثقافية والدينية والصحية والخدمية على نحو العموم، فتلمس ربيع الفكر العاشورائي بصورة مباشرة، أي ترى ذلك بالعيون والبصائر، وتستمع لأشعار و(ردّات المواكب) وتفهم مضامينها وتعرف مدى تأثيرها ليس في المجال الديني وحده، وإنما تؤثر في السياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية والفكر.

إذاً نحن نعيش ربيعا مائزا للفكر الحسيني المبدئي، وهذه المزاوجة بين الفكر وحماسة الأداء الجماهيري، مجسَّداً بوجود الحشد البشري الهائل في بقعة كربلاء المقدسة، تضاعف من زخم الاستيعاب والقبول والتفاعل مع ما يجري في هذه البقعة التي تعد من رياض الله، وجنائنه، فيعيش المسلمون في العراق والقادمون من خارجه، ربيعا مكلّلا بالفكر الحسيني المتوهج، فتصبح المدينة المقدسة في مثل هذه الأيام في شهريّ (محرم وصفر)، قبلة للمسلمين أجمع وهم يستذكرون محافل المجد الحسيني المتنامي دائما وأبداً.

اضف تعليق