q

في حرب داعش الوحشية ضد العراق كان الاعلام احد اسلحتها، بل هو السلاح الاقوى والاكثر تأثيراً، انه يرعب النفوس ليطاردها كي تهرب بأجسادها خشية الوقوع بيد الجماعة الارهابية الاكثر وحشية من بين الجماعات التي تمارس نشاطاتها في العراق.

الماكنة الدعائية لداعش استطاعت اختراق الروح المعنوية للقوات المسلحة العراقية والمدنيين على حد سواء، لكنها لم تكن بتلك القوة لو لا الاسناد القادم من قنوات تلفزيونية عالمية سواء بقصد او بدون قصد، والتي اسهمت بتعزيز الصورة السلبية عن العراق، ومحاولة تلميع صورة داعش نكاية بالعراق او تحقيقا لمصالح دولية. مهمة عناصر داعش على الارض، (احتلال المدن وارتكاب الجرائم)، فيما توفر القنوات الفضائية العالمية الغطاء المنطقي لهذه الجرائم تحت ذريعة (غياب العدالة الاجتماعية كانت نتيجته داعش، وكأنها تبرر ابشع الجرائم نتيجة اخطاء سياسية).

محكمة الموضوعية

قناة بي بي سي البريطانية الاشهر والابرز من بين هذه القنوات التي كان لها موقفا سلبيا في الحرب العراقية ضد داعش، عملت محاميا للجماعة الارهابية، وتسلحت الايحاء لاختراق العقل العراقي (عسكريا ومدنيا)، لا تتبنى الخطاب الاعلامي المباشر، انما تتخفى تحت شعارات الحياد والموضوعية، مستغلة غياب النقد الاعلامي من قبل الاكاديميين العراقيين والمهنيين لهذه القناة المؤثرة جدا.

الموضوعية بالنسبة لهذه القناة لا ترتبط بالمضمون، وانما بالشكل، اي أن الكثير من النصوص لن يكون موضوعيا في عرف الجميع ولكنه حينما يكتب بطريقة محترفة يقارب الموضوعية باعتباره يقدم المضمون بصورة منطقية، تسلسل الحجج الاقناعية واستغلال الجهل بالمعايير المهنية يجعل الرسالة الدعائية تمر بكل سهولة لاختراق العقل العراقي والعالمي.

وفي كل الازمات التي تعصف بالعراق والمنطقة لا بد للمحلل الاعلامي ان يستحضر كتاب "المتلاعبون بالعقول" للمؤلف هيربرت شيللر، الذي يتحدث عن اليات التلاعب بالوعي التي تقوم بها وسائل الاعلام الامريكية ويمكن ان تنسحب هذه القواعد على كل وسائل الاعلام العالمية الاخرى، ويرى شيللر أنه عند وقوع أزمة حقيقية أو مفتعلة، ينشأ جو هستيري محموم بعيد تماما عن العقل والمنطق ويؤدي إلى الإحساس الزائف بالطابع الملح للأزمة ونتيجة لذلك تضعف قدرة الجمهور على التمييز بين درجات الأهمية، ويتحول العقل إلى غربال تصب فيه التصريحات والإعلانات أقلها مهم وأكثرها لا أهمية له، وبدلا من أن يساعد الإعلام في تركيز الإدراك وبلورة المعنى، نجده يسفر عن الإقرار الضمني (اللاشعوري) بعدم القدرة على التعامل مع موجات الأحداث المتلاحقة التي تطرق بإلحاح وعيَ الناس فيتعين عليه دفاعا عن النفس أن يخفض درجة حساسيته واهتمامه.

وهكذا يبقى الجمهور في دوامة من الأحداث والتدفق والإغراق ولا يجد فسحة للتأمل والتفكير والتحليل، وعندما يجد البعض فرصة للتساؤل والشك، فإنهم يتحولون إلى أقلية تفكر عكس التيار وتخالف المجموع العام ويبدون مغفلين ومجانين ولا يفهمون، وقد يضطرون -وهذا ما يحدث غالبا- إلى إخفاء تساؤلاتهم وقناعاتهم بدلا من أن تتولى آلات الإعلام الضخمة نبذهم وحشرهم في الهامش باعتبارهم متعصبين او متطرفين وربما مجانين أما غير الأميركيين فهم إرهابيون يكرهون نمط الحياة الأميركي او يحسدون الأميركيين على ما لديهم.

فهل يمكننا ان نضع قناة البي بي سي البريطانية في محكمة المهنية والاعلام الموضوعي ام نخشى ان نوضع نحن في قفص التطرف والحسد ضد التجربة البريطانية التي اجبر الكثير على اليمان بانها رمز الحياد والموضوعية، لكننا نرى من مقتضيات تقييم المرحلة السابقة والاستعداد للمرحلة المقبلة يجب اخضاع القنوات الفضائية التلفزيونية للتحليل لما تقوم به من انشطة لا سيما مع التاثير الكبير لوسائل الاعلام، وبعد النصر الذي حققته القوات العراقية برزت الكثير من الحوادث التي كانت شاهدا على انحياز قناة بي بي سي البريطانية للمعسكر المعادي للعراق وهي:

الحدث الاول: تقرير أعور

نشرها تقريرا موسعا حول فيديو نشر في مواقع التواصل الاجتماعي بعد يومين من اعلان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي تحرير مدينة الموصل، وادعت ان الفيديو يظهر معتقل "اعزل" (بحسب وصفها) من داعش تقوم القوات العراقية برميه من فوق جرف، ثم يطلقون النار على جثته الهامدة. الخبر الذي كان لا يتجاوز جوهره سطرا واحدا افردت له القناة تقريرا موسعا في موقعها الالكتروني، قالت انها لم تتأكد من صحة الفيديو اصلاً!!

رسالة التقرير كانت اعمق من ذلك، فقد اتبعته بتصريح خاص لبلقيس ويللي، كبيرة الباحثين الخاصة بالعراق في منظمة هيومن رايتس ووتش، تقول فيه "في الأسابيع الأخيرة من معركة استعادة غرب الموصل، لاحظت أن الاتجاه السائد بين أفراد القوات المسلحة هو الرغبة الشديدة في الانتهاء من المعركة بأقصى سرعة، وعدم الالتزام بقوانين الحرب".

وتضيف بي بي سي شاهدا اخر وتقول انه في نهاية يونيو/حزيران نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرا مفصلا عن شهادات أربعة شهود عيان، قالوا إنهم رأوا قوات عراقية تنهال بالضرب رجالا عزلا، وصبية فارين من القتال في الموصل، وحصلت أيضا على معلومات عن قتل قوات عراقية رجالا غير مسلحين.

تعقب ايضا بمعلومات عن صحيفة إكسبريسن السويدية عن ضابط عراقي في الشرطة الاتحادية قوله إنه قطع رؤوس 50 رجلا على الأقل بالسكاكين، وضرب آخرين. وقالت الصحيفة إن الضابط ساند أقواله بالصور ولقطات فيديو.

هنا ينتهي التقرير الخاص بفيديو تنشره مواقع التواصل الاجتماعي لم يتم التأكد منه اصلا! وربما يكون لمسلحي داعش يريدون تشويه صورة القوات العراقية. ويبدو في مجمله تقريرا حياديا باعتباره خالٍ من الآراء الخاصة بالقناة فضلا عن الادلة والشواهد التي قدمتها القناة.

اما من جانب اعلامي مهني فان القناة لم تكن حيادية بالمرة، وتبنت رأيا مسبقا حول حادثة صغيرة غير مؤكدة لإصدار حكم سلبي مسبق على القوات العراقية بصورة عامة، والراي هنا موجود في الادلة التي ارفقت مع الخبر والتي تتضمن تقارير لمنظمات حقوقية وتقارير صحفية تدعي وقوع انتهاكات سابقة، ما يعني ان القارئ لا بد وان يستنتج ان هذا الحادث صحيح والقوات العراقية هي من قامت بهذا العمل لانه يشبه افعالا سابقة قام بها. لكن في المقابل لم تظهر القناة اي تصريحات عراقية بنفي الحادثة كما انها لم تذكر حوادث واتهامات مشابهة ضد القوات العراقية تبين فيما بعد انها لم تكن صحيحة اصلا.

الحدث الثاني: البحث عن الحقيقة!

تقرير تحت عنوان (بي بي سي تطلع على أدلة على استخدام تنظيم الدولة الإسلامية دروعا بشرية في الموصل). ونشر 3 أبريل/ نيسان 2017 ويدور التقرير عن البحث الذي تقوم به مراسلة القسم الفارسي بالقناة نفيسة كوهنافارد عن ادلة تثبت استخدام داعش للمدنيين كدروع بشرية، وجوهر التقرير تصريح للعقد محمد الذي تم تعريفه بانه يحظى بشعبية كبيرة، وتقول المراسلة: "ووصف (العقيد محمد) لنا مشهدا رآه في الآونة الأخيرة في الموصل القديمة. وكان قناص ينتمي لتنظيم داعش قد أطلق النار على امرأة في الشارع لكي يستخدمها كطعم لاصطياد عناصر الشرطة الاتحادية. واستدعي العقيد محمد لتقديم دعم جوي".

ويضيف التقرير: "يعد هذا مجرد مثال على المعاناة التي يعيشها شعب الموصل على أيدي مسلحي التنظيم. لكن أوجاعهم لا تأتي من الأرض فقط، إذ أن وقوع ضحايا من المدنيين بسبب الغارات الجوية للتحالف بات مصدر جدل وإحراج للحكومة العراقية".

تتساءل المراسلة: كيف يكون العقيد محمد متأكدا أثناء إطلاق صواريخ شديدة الانفجار على وسط المدينة أنه لن يضر المدنيين الأبرياء؟ قد تكون الإجابة الوحيدة التي يستطيع أن يقولها هي أنه "يضع ثقته في الله".

وهنا تكمن الحقيقة التي تقول بي بي سي انها تبحث عنها، انها تريد ان تقول بان القوات العراقية تقتل المدنيين، ولم تبحث عن اي دليل لتجريم داعش، وكما في التقرير السابق اسهبت القناة في التاكيد على وقوع انتهاكات او اختراق لقواعد الحرب من قبل القوات العراقية، في المقابل لم تتحدث القناة في تقريرها عن الصعوبات التي يواجهها افراد الجيش العراقي من اجل تفادي وقوع خسائر، ولم تذكر المراسلة كم مرة الغيت مهمات عسكرية قبل تنفيذها حفاظا على ارواح المدنيين، وهذا ما تحدث به رئيس الوزراء حيدر العبادي في اكثر من مناسبة.

القناة البريطانية التي تدعي الحياة لم تكلف نفسها في البحث بالارشيف او الحصول على تصريح حول عدد المدنيين الذي يتم انقاذهم، وعدد الضحايا من القوات العراقية الذين يسقطون في كل يوم من اجل انقاذ اهالي الموصل.

الحدث الثالث: التغطية المفقودة لحدث انساني

يوم 9/تموز 2017 قامت امرأة داعشية بتفجيرعبوة ناسفة خبأتها في حقيبتها بعد تسللها مع الفارين وهي تحمل طفلها الرضيع على يدها لتخدع الجنود الذين كانوا يحمون النازحين. ومستغلة عطف الجنود على الاطفال لتقوم بخطتها من اجل قتل اكبر عدد من القوات العراقية.

لم تغطي قناة بي بي سي البريطانية هذا الحدث ولم تتطرق له من قريب ولا من بعيد واستخدمت اسلوب غض الطرف لعدم توافقه مع توجهات القناة رغم قيمة الغرابة والصدمة التي يحملها فضلا عن الطابع الانساني الكبير، حيث تتظاهر القناة بتغطية الموضوعات التي تخص حقوق الانسان.

هكذا اذن تعمل القنوات الفضائية الدولية تتبع سياسات معينة وتتخذ مواقف مسبقة من الاحداث وتحشد كل الادلة التي تدعم وجهة نظرها وتستبعد الادلة المضادة لتنتج لنا رأيا مشوها وترسم صورة متهرئة عن العراق الذي استعاد هيبته وسيادته على ارض من اشد الجماعات الارهابية توحشا.

وكما هو معروف فإن كنا نريد تحريض الناس ضد جماعة او دولة ما فلابد من تشويهها وشتمها والسخرية منها وتشويه صورتها كليا ثم الطلب من الجمهور العالمي ان يدين هذه الصورة المرسومة اعلاميا، والادانة يجب ان تتبعها اجراءات اشد قسوة، وقد تمهد للحرب كما تم ذلك قبل عام 2014 حينما شوهت صورة الجيش العراقي وبعدها تم تثوير الناس ضدهم.

هكذا تعمل القنوات الفضائية الدولية على تضليل الجمهور العربي والعالمي، انها تخاطب العقل الباطن وتنقش افكارها بفاس الموضوعية، تستخدم احدث التقنيات لابهار العيون وتغشية التفكير لتمرر بضاعتها الفاسدة. وكما يقول شيللر ان اهم منجزات صناعة التضليل تتمثل في إخفاء شواهد وجوده، فالتضليل لا ينجح حين يعرف المخدوعون أنهم يتعرضون للخديعة، لكنهم حين يشعرون أن ما يعرض عليهم هو الحقيقة الطبيعية وأن الامور يجب أن تجري على هذا النحو وإلا فإن شيئا ما قد أخل بالنظام مما يستدعي إعادة تصحيحه.

ولتحقيق هذا الهدف وإخفاء آثار الخديعة كان لا يد من الترويج لاسطورة الحياد التي تستعرض بها قناة بي بي سي البريطانية، وهي خديعة مكشوفة لو ان النخبة العراقية نزلت قليلا من برجها العاجي وتخبرنا بما تقوم بها القنوات الفضائية الدولية من اعمال تضر بالمصلحة العراقية وتزيد من تمزيق الجسد العراقي.

قناة بي بي سي البريطانية هي نموذج من عشرات النماذج التي تحمل راية الاعلامي المهني، وحماية السلام للإنسانية، وهي راية لا نراها الا حينما تشتد المعارك وتضعف عناصر الجماعات الارهابية، وكانها تدافع عن شيطان يبطش بالعراقيين منذ عام 2003 وحتى والان. وفي الختام نتساءل: هل يحق لنا ان نخضع وسائل الاعلام العالمية لمحكمة المهنية الاعلامية ام اننا سوف نوضع في خانة الرجعيين والمتطرفين؟.

اضف تعليق