الجدل الذي يثار حول هذه العلاقة لا يقتصر على سؤال ساذج من قبيل: هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الكاتب؟؛ بل يتجاوز ذلك إلى سؤال أكثر خطورة: هل يمكن أن يبقى للكاتب معنى، إذا كان الحاسوب قادراً على كتابة قصة، أو رواية، أو حتى مقال صحفي بهذا الحجم وبهذا العمق؟...
منذ أن بدأ الإنسان يحفر على جدران الكهوف أولى حكاياته، والكتابة تُعدّ واحدة من أعمق مظاهر الوعي الإنساني. لم تكن مجرد وسيلة للتواصل، بل فعل مقاومة ضد النسيان، وضد الفناء أيضاً. واليوم، بعد آلاف السنين من التطور، يقف الكاتب في مواجهة غريم جديد، لا من لحم ودم، بل من خوارزميات وأكواد: الذكاء الاصطناعي.
الجدل الذي يثار حول هذه العلاقة لا يقتصر على سؤال ساذج من قبيل: "هل سيحل الذكاء الاصطناعي محل الكاتب؟"؛ بل يتجاوز ذلك إلى سؤال أكثر خطورة: "هل يمكن أن يبقى للكاتب معنى، إذا كان الحاسوب قادراً على كتابة قصة، أو رواية، أو حتى مقال صحفي بهذا الحجم وبهذا العمق؟".
بين اليد التي تكتب والعقل الذي يتخيل
الكاتب لا يكتب الكلمات فحسب؛ هو يسكب ذاته في النص، يعيد تشكيل الحياة من خلال جمل قصيرة أحياناً، أو سرد طويل ممتد أحياناً أخرى. في المقابل، يعمل الذكاء الاصطناعي كمرآة ضخمة: يلتقط أنماط اللغة، يستنسخ الأساليب، ويعيد ترتيب الأفكار بدقة تكاد تربكنا.
لكن ما يفتقده الذكاء الاصطناعي حتى الآن هو ذلك "الجرح الإنساني" الذي ينساب عبر الكلمات. الجملة التي تنبض بوجع كاتبها، أو دهشته، أو شكوكه. هذه الفجوة الدقيقة، بين الحرف حين يكون حياً، والحرف حين يكون مجرد تركيب حسابي، هي ما يمنح الكاتب تفوقاً لا يُلغى بسهولة.
وهم التهديد أم فرصة للتحرر؟
الكثير من الكتّاب يشعرون بالتهديد. كيف لا، وقد صار الذكاء الاصطناعي قادراً على كتابة روايات قصيرة، صياغة مقالات، وحتى تقليد أساليب أدباء بعينهم؟ غير أن هذا الخوف برأيي يعكس قلقاً بشرياً قديماً من كل ما هو جديد. ألم يُتهمت الطباعة يوماً بأنها ستقضي على جمال المخطوطات اليدوية؟ ألم يُنظر إلى الصحافة في بداياتها كخطر على الشعر والقصص الشفاهية؟
الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للكاتب، بل هو أداة تعكس مهارة الكاتب أو ضعف خياله. الكاتب الذي يرى في هذه التقنية خصماً، ربما يكتشف بعد حين أنها مجرد "مسرّع" لطاقته الإبداعية، أداة لتوسيع أفقه، واختبار لغته، وربما تحريره من عبء الصياغة الأولية ليبقى له جوهر الإبداع: الفكرة، الرؤية، واللمسة الإنسانية.
الكتابة ليست مجرد كلمات
لو كانت الكتابة مجرد عملية ميكانيكية لترتيب المفردات، لهُزم الكاتب منذ زمن بعيد أمام القواميس. لكن الكتابة أعمق من ذلك. إنها موقف من العالم، وإعلان عن الذات، وصرخة أحياناً، وهمس أحياناً أخرى. الذكاء الاصطناعي يكتب "عن" الأشياء، أما الكاتب فيكتب "من" الأشياء، من الداخل، من قلب التجربة.
لذلك أرى أن الكاتب الذي يخشى فقدان دوره، هو في الحقيقة يخشى مواجهة سؤال مؤلم: ما جوهر كتابتي أنا؟ إذا كان النص الذي أكتبه يمكن لأي برنامج أن ينتجه بالصيغة نفسها، فربما عليَّ أن أعيد النظر في عمق تجربتي وفرادتها.
شراكة المستقبل
أتخيل المستقبل لا كمعركة بين الكاتب والآلة، بل كشراكة مثيرة. الكاتب قد يستعين بالذكاء الاصطناعي لاقتراح أفكار، أو لتجريب نهايات بديلة لقصة، أو لتحريره من العمل الروتيني في التحرير والتنسيق. في المقابل، يظل جوهر العمل الإبداعي حكراً على الإنسان: اللمسة الإنسانية، الحسرة، الشك، الفرح، والذاكرة العاطفية التي لا تُختزل في معادلات.
الكاتب الذي يحسن التعامل مع الذكاء الاصطناعي، لن يخسر هويته، بل سيضيف إليها بعداً جديداً. سيصبح أشبه بربّان يمتلك سفينة أسرع وأقوى، لكنه ما يزال بحاجة إلى مهارته في الملاحة، وإلى شجاعته في مواجهة العواصف.
الكاتب والذكاء الاصطناعي ليسا عدوين في ساحة صراع وجودي، بل هما – في تقديري – طرفان في معادلة جديدة ستعيد تعريف الكتابة ذاتها. ربما تتغير أشكال الكتابة، وربما يتراجع دور النص التقليدي أمام وسائط جديدة، لكن ستبقى هناك حاجة ملحة للكاتب الحقيقي: ذاك الذي يكتب من قلبه وعقله وتجربته، لا من ذاكرة إلكترونية عابرة.
وفي النهاية، لعل السؤال الأجدر بالطرح ليس: "هل سينقرض الكاتب؟"، بل: "أي نوع من الكتّاب سيبقى في زمن الذكاء الاصطناعي؟".



اضف تعليق