تبادل الهدايا أسلوب قديم في توطيد العلاقات الفردية والجماعية، وهو أسلوب لا غضاضة فيه إذا انحصر في مجال العلاقات الفردية، وتمتين العلاقات بين الأفراد والجماعات وحتى في مجال توطيد وتحسين الأجواء الأسرية، فغالبا ما يستغل الناس المناسبات الجيدة فيقدموا الهدايا لبعضهم تعبيرا عن الاحترام والتقدير والمحبة، في هذا الإطار لا مشكلة ولا ضير في استخدام تبادل الهدايا أو تقديمها للآخرين.
ولكن تبدأ المشكلة عندما تتدخل المصالح وتدفع بالناس الى تقديم الهدايا لبعضهم ليس من أجل توثيق أواصر الاحترام والتقدير فيما بينهم، بل من اجل تسهيل الوصول الى مصلحة معينة وغالبا ما تكون ذات مردودات مادية، تجري على أسس وقواعد غير عادلة، فتلحق الأضرار بالآخرين، من خلال التجاوز على حقوقهم ومنحها لغيرهم، هنا تبدأ رحلة الكيل بأكثر من مكيال، ومن ثم إلحاق الظلم بأُناس سُابت منهم حقوقهم وتم تقديمها مجانا لغيرهم، لأسباب يقف في المقدمة منها التملق وتقديم الهدايا.
في عصرنا المادي الحالي، غالبا ما يتم تقديم الهدايا للمسؤولين وأصحاب القرار، والقادرين على استخدام نفوذهم الوظيفي في تقديم الفوائد والمصالح المادية للآخرين، طبعا لا ضير في مساعدة الناس في إطار القانون والمساواة والعدل، ولكن المشكلة تتضاعف وتكبر وتنمو عندما تأتي مساعدة المسؤول خارج إطار الاستحقاق، فيمنح حقوق الغير لمن لا يستحقها، مقابل هدايا يتم تقديمها له أطلق عليها (هدايا السحت)، بسبب إلحاقها الغبن بالآخرين بعد التجاوز على حقوقهم ومنحها للآخرين. إن المسؤول والقائدة هو قدوة المجتمع، لذلك أي عمل يقوم به يمكن أن يكون تجسيدا لشخصيته وبالتالي يتأثر الناس بذلك باعتبار أن القائد نموذج لهم.
نقرأ لسماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (السياسة من واقع الإسلام): إن (القائد تكون أعمالُهُ درساً للشعب، ومنهاجاً للأجيال، ولذلك كان القائد متحملاً لما يمارسه الشعب نتيجة تعلمه منه، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر. والحياة الشخصية للقائد أدق مدرسة للأجيال المتمسّكة بذلك القائد، ولهذا كان من سياسة أمير المؤمنين عليه السلام بناء حياته الشخصية على الإيمان والزهد). فكل حركة تبدر من القائد، وكل كلمة وسلوك، ينعكس في تأثيره على عامة الناس، وهذا يفرض إلزاما قاطعا على الحاكم في الكلام والفكر والسلوك والمظهر والجوهر.
يقول سماحة المرجع الشيرازي: (كان أمير المؤمنين علي عليه السلام كأقل الفقراء مالاً، يستقي الماء من البئر بنفسه، ويحتطب بيديه الكريمتين، ليكون أسوة حسنة لعامّة المسلمين عبر التاريخ الطويل، وقدوة عملاقة لزعماء المسلمين.. وكذلك كان يقوم بسائر شؤونه الشخصية بنفسه).
أساليب لكسب ود الحاكم
وكما ذكرنا سابقا، ليس المشكلة في تقديم الهدايا أو تبادلها، وإنما في الغاية التي تقف وراء ذلك، فإذا جاءت الهدية في إطارها الطبيعي لا ضير في ذلك، ولكن المشكلة حينما تستخدم الهدية لكسب قلب المسؤول وتستميله الى جانبها، هنا تبدأ رحلة من الأخطاء التي تتوالد وتتناسل مخلفة وراءها جيوشا من التجاوزات والمشكلات والأذى الذي يتم إلحاقه بالآخرين نتيجة لغمط حقوقهم.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: إن (الهدية التي تهدى لأصحاب الحكم كثيراً ما يراد بها استمالة قلب الحاكم لكي يبطل بها الحق، أو يحق الباطل). فالهدف المعلن من الهدية قد يختلف عن الغاية المبطنة، وهنا تكمن الطامة الكبرى، حيث يسعى حامل الهدية الى المسؤول للحصول على حقوق اضافية ومصالح لا يتحقها من خلال تقديم الهدايا للمسؤول، وهناك من يرفض هذا الأسلوب ولا يقبل الهدية، لكن هناك مسؤولين ورؤساء وقادة يشجعون على هذا الخطأ الجسيم فيسيطر الباطل على الحق كما أشار الى ذلك سماحة المرجع الشيرازي
ولهذا تطرقت الأحاديث الشريفة الى هذا الموضوع (الهدايا المقدمة للمسؤولين)، وحذرت بشدة من الوقوع في هذا الفخ الخطير، فعندما يقبل المسؤول هدية شخصية من أحدهم فإنه لابد أن يكون لهذه الهدية ثمن يتم دفعه لصاحب الهدية من حقوق الناس الآخرين، هنا يبدأ الالتباس، وتبدأ رحلة فقدان الحقوق وإلحاق الغبن بمن لا يستحقونه.
لهذا أكدت جميع الأحاديث الشريفة على الأهمية القصوى لرفض الهدية من قبل الحاكم والقاضي ومن تقع في يده مسؤولية الفصل بين المواطنين وتوزيع حقوقهم وما شابه، وأسهم هذا الأسلوب في بناء دولة المسلمين على أسس رصينة وباتت من أقوى الدول آنذاك وأكثر تطورا واستقرارا، بسبب تثبيت قواعد السلوك السليم لأصحاب القرار، من القادة والحكام والقضاة الذين يمكنهم الفصل في حقوق الأمة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (كان التأكيد شديداً في الأحاديث الشريفة على تحاشي الحكّام والقضاة ومن بيدهم الحول والطول، والحل والعقد، من قبول الهدايا. قطعاً لهذه الجذور التي تدع المجتمع غير آمن من الظلم والحيف والإجحاف).
علي (ع) لا يقبل الهدية الشخصية
وحتى يكون الدرس بليغا واضحا مفهوما لا غبار عليه، رفض القائد الأعلى لدولة الإسلام العظمى في حكومة الإمام علي قبول الهدايا الشخصية، فعندما كان الإمام حاكما على أمة المسلمين ومسؤولا عن إدارة شؤونهم وحقوقهم، قدم هذا الدرس لجميع عماله وموظفيه والمسؤولين في إدارة شؤون الدولة.
فقد ورد في بعض الأحاديث التي جاءت على لسان الإمام علي (ع) حول الهدية والموقف من قبولها ورفضها:
فقد قال عليه: (هدية الأمراء غلول).
وقال عليه السلام أيضا: (هدايا العمّال سحت).
وعندما يصف أمير المؤمنين (ع) (هدايا الحكام والقضاة والمسؤولين) بهذا الوصف، وأنها تدخل في باب (السحت الحرام)، فينبغي أن يكون هذا التوصيف العظيم درسا لكل مسؤول وكل حاكم ومدير وقاض، فعلى هؤلاء أن يعرفوا بأن قبولهم الهدية الشخصية يعني أنهم يخالفون بذلك منهج الإمام علي (ع) في التعامل مع الهدايا، بل هم يخالفون الرسول (ص) وتعاليم الإسلام، التي حثَّت على مراعاة أفراد الأمة والدولة بلا تمييز ولا تفريق ولا تجاوز على الحقوق لأي سبب كان.
وحتى تسود العدالة وتستقر المساواة، ويتعامل الحاكم او القاضي او المسؤول مع الجميع وفق معيار العدالة، عليه يغلق الأبواب وحتى الشبابيك التي تأتي منها الهدايا الشخصية لأنها نادرا ما تكون بلا مقابل، وهذا المقابل حتما سيكون على حساب العدالة والمساواة بين الناس، ذلك أن من يقدم الهدايا يوجد في رأسه غاية، وعندما يقبلها الحاكم أو المسؤول، فإن صاحب الهدية يحدّ أسنانه للحصول على ما يريد.
وهكذا يطمع حاملو الهدايا بالمسؤول، عندما يضعف الأخير ويقبل الهدية الشخصية التي تشبه الى حد كبير عقد صفقة بين طرفين من شأنها أن تلحق الضرر بآخرين، فضلا عن أنها سوف تشجع المسؤولين الآخرين على قبول وترويج مثل هذا الأسلوب الخاطئ، ومصدر الخطأ أن هذا الأسلوب ينشر ويشيع ثقافة قبول الهدايا بين القادة والمسؤولين، وبالتالي يكون المتضرر الدولة والأمة.
يرد في هذا الإطار قول لسماحة المرجع الشيرازي يقول فيه: (الإمام أمير المؤمنين عليه السلام كان سيّداً في كل الفضائل، لذلك كان لا يقبل الهدايا الشخصية لنفسه، كي لا يطمع فيه أحد، ولا يأمل أحد في إمكان استمالته عليه السلام).
اضف تعليق