أعطى الله تعالى الانسان مزايا كبيرة وكثيرة، أهمها الفهم والشعور والادراك، وأضفى عليه طاقات متنوعة، وذكاءً، وقدرات ظاهرة واخرى كامنة، وكل هذه المزايا والطاقات، ميَّزتْ الانسان عن الكائنات الاخرى كافة، فصار سيدا عليها، بوساطة مزاياه التي وهبها الله له، ومقابل ذلك، فإنه تعالى يطالب مخلوقاته البشرية بالعمل وفق هذه الطاقات إيجابيا، بما يحقق الفائدة للذات وللآخر، ويبني الحياة بصورة صحيحة، لكي تشكل هذه الأعمال خطوة تمهيدية صحيحة للعبور الى الدار الأخرى.
فعندما يُمنح الانسان كل هذه الهِبات والعطايا في الفهم والادراك والشعور، ومن ثم القدرات الجسمانية على استثمار تلك المزايا، فإن طريقة الاستثمار ينبغي أن تكون سليمة، هذا أولا، أما الشرط الثاني للإفادة من قدرات الانسان، فهو يتمثل بوجوب أن تُستثمَر طاقاته في المكان الصحيح لها، وفي النسبة المقبولة مما يصرفه الانسان في سبيل الله تعالى، علما انه سبحانه منح الانسان هذه المزايا والهبات بنسب مختلفة، بمعنى هناك تفضيل بين الناس مما يحصلون عليه من هذه القدرات، ولكن ينبغي أن يبذل الانسان نسبة مقبولة من طاقاته وقدراته في الاتجاه القويم.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي دام ظله، في احدى كلماته التوجيهية للمسلمين: (إنّ الله تعالى منح كل إنسان فهماً وشعوراً وإدراكاً بمقدار معيّن، كما في قوله عزّ وجلّ: وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ). وهناك حكمة تقف وراء هذا التفضيل، لأن الامر المهم هو النسبة التي يبذلها الانسان في فعل الخير بما يتناسب مع ما يمتلكه من ثروات وإمكانيات وطاقات، علما أن مفردة (الرزق) التي وردت في الآية الكريمة المذكورة، تعني ما حصل عليه الانسان من الفهم والعلم.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في كلمته نفسها: إذ يقول سماحته (وجاء في الحديث الشريف أن – الرزق- في الآية الكريمة المذكورة يعني العلم. فقد يكون أحدهم أذكى من الآخر، أو يكون أقوى حفظاً من الآخر، أو يكون أفهم من الآخر. والمهم هنا هو ان كل واحد، أو كل إنسان، كم ينفق في سبيل الله تعالى من هذا الفهم ومن هذا الذكاء والإدراك؟).
النسبة المطلوبة لعمل الخير
في تعريف العمل لله تعالى، يقول العلماء المعنيون، انه بمثابة كل ما يقدمه الانسان من عمل صالح لنفسه وللبشرية، من اجل إدامة الحياة الراهنة، بما يجعلنا الخطوة التمهيدية الصحيحة لانتقال الانسان الى الآخرة بحصيلة النجاح والتوفيق، وعندما نلقي نظرة على معنى العمل لله تعالى، فإننا سوف نصل الى نتيجة مؤداها، انه سبحانه، رحيما بعباده وخلقه، لهذا يضع على الجميع واجب العمل الصالح، بنسبة متساوية بين الجميع، شرط أن تتساوى هذه النسبة مع حجم الطاقات التي حباها الله للإنسان، فنسبة ما يقدمه الاكثر ادراكا وفهما وشعورا، لا يصح أن تتساوى مع نسبة ما يقدمه الأقل منه إدراكا وفهما وشعورا، بمعنى على الانسان أن يُسهم بتطوير الحياة وجعلها افضل بما يتناسب مع ما يمتلك من مؤهلات وقدرات، وفي هذه الحالة فإن الثواب سوف يشمل الاثنين، (الأكثر والأقل) لأنهما قدما ما هو مطلوب منهما وفقا لما يمتلكان من مزايا وقدرات ومؤهلات.
كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (فقد يعمل شخصان معاً في سبيل خدمة أهل البيت صلوات الله عليهم، فترى الأول يعمل خمس ساعات يومياً مثلاً، والثاني يعمل عشر ساعات. فسيكون أجر الأول كأجر الثاني. أو أحياناً يكون أجر الأول أكثر من الثاني، لأن الأول ربما قد صرف كل طاقاته، أو عمل خمس ساعات مع ابتلائه بمشاكل عديدة كأن تكون مالية أو اجتماعية وغيرها. والثاني يعمل عشر ساعات لكنه لا يصرف كل طاقاته أو غير مبتلى بأية مشكلة).
لذلك فإن الانسان مطالَب بالمشاركة في تطوير الحياة باستثمار حواسه وادراكه وفهمه وذكائه، بالصورة الصحيحة بما يحقق فوائد للذات وللآخرين، لأن العمل لله تعالى حتما سوف يصب في جانب عمل الخير، والأخير سوف يشترك في تحسين مواصفات الحياة، وسوف يجعلها أكثر تناسبا ولياقةً بالانسان، وكلما كانت حياة الانسان أفضل واكثر حفظا لكرامته وقيمته وكيانه، كلما كان اكثر استعدادا لعمل الخير والعمل من اجل الله تعالى، لذلك نلاحظ ان المجتمعات التي يكثر فيها الظلم والفساد والتجاوزات، تقل فيها نسبة الاقبال على تقويم الحياة وتحسينها، من هنا يدعونا الله تعالى ودعاة الدين والمراجع العظام، الى أهمية ان نستثمر قدراتنا لتطوير الحياة، حتى نتخلص من حالات الظلم التي قد تجعل الانسان اكثر استعدادا للانحراف.
من هنا يوجد تأكيد متواصل على اهمية بل حتمية، أن يقدم الانسان ما يتمكن عليه وبما يتناسب مع قدراته الحسية والادراكية والعملية من الاعمال الصالحة، تطويرا لحياته هو والمحيط الاجتماعي الذي يشاركه حياته بكل تفاصيلها، لاسيما أن الانسان حصل بالخلق على مزايا كثيرة ومهمة تتعلق بالفهم والادراك والحس وما شابه، من هنا لابد أن يبذل الانسان اقصى ما يستطيع في هذا المجال، إذ يقول سماحة المرجع الشيرازي في كلمته التوجيهية نفسها: إن (كل إنسان، منحه الله تعالى مقداراً من الطاقة ومن القدرة كاللسان والبصر والقلم والحضور والمال وغيره، فكم ينفق منه في سبيل الله تعالى).
وفي ذلك فليتنافس المتنافسون
عندما تكون الاعمال الصحيحة محط تنافس الاخرين، فهذا سيكون مدعاة للفخر، وسبيلا مفتوحا ومتاحا لتطوير الحياة، شريطة أن يتوافر الدافع الذاتي لدى الانسان لكي يقيّم ويعرف المزايا الحسية والشعورية التي يمتلكها، ومن ثم كيف يوظف هذه القدرات بما يخدم الذات والاخر والحياة، فمجال المنافسة في عمل الخير متاح للناس كافة من دون استثناء، خاصة أن التعاليم الواردة في النصوص القرآنية تبيّن ذلك بوضوح.
لذا يؤكد سماحة المرجع الشيرازي قائلا في هذا المجال: (على كل إنسان أن يرى كم منحه الله تعالى من فهم وشعور وإدراك، وكم منحه من طاقات، وكم يصرف من ذلك في سبيل الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم يقول: وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ).
من هنا ينبغي أن يستثمر الانسان كل الطاقات التي وهبها الله تعالى له، استثمارا سليما، لأن هذه القدرات في حالة عدم فهم الانسان لها وعدم إعطائها حق تقديرها، فربما يذهب استخدامها في الاتجاه المضاد، بمعنى ربما تكون في خدمة الشر، فالفهم والذكاء والحس والشعور، يمكن أن تكون ادوات لصالح الانحراف، لذا على الانسان أن يحترس من الزلل، وعليه أن يسعى للحصول على درجة عالية من العمل الصالح، لأننا جميعا مطالبون بمثل هذه السعي والاستثمار، وتبقى الدرجات متفاوتة بين الناس حسبما يقدمونه للخير من افعال واقوال واعمال، وسوف يكون الافضل من بينهم، هو ذلك الانسان الذي يستثمر طاقاته في سبيل الله تعالى، بأعلى نسبة ممكنة.
كما نقرأ ذلك فيما يقوله سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب بكلمته نفسها، إذ يقول سماحته موجها خطابه الى المسلمين: (فليسع كل واحد منكم إلى أن يحصل على الدرجة العالية من العمل في سبيل الله تبارك وتعالى. وهذا قد يكون فيه صعوبة، بل فيه الصعوبة لا شكّ، ولكنه ممكن). ويضيف سماحته أيضا مخاطبا الجميع: (ابذلوا قصارى طاقاتكم في سبيل الله تعالى).
اضف تعليق