فالقِراءةُ الصَّحيحةُ هي التي تأخُذَ حاجة الزَّمان والمَكان بالحُسبانِ، فليسَ كُلُّ قِراءةٍ مطلُوبةٍ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ وإِلَّا تحوَّلت من حاجةٍ إِنسانيَّةٍ إِلى لهوٍ لقضاءِ الوقتِ، كما أَنَّهُ ليسَ كُلُّ مادَّةٍ مطلُوبةٍ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، وإِنَّما يجب أَن يأخُذَ جوهرَها بالحُسبانِ الحاجةِ الزمكانيَّةِ إِن...
{عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}.
٣/ ثالثُ الفوائدِ التي نَجنيها من كتابةِ العلمِ وتدوينهِ هو البحثُ والإِستقصاءُ والتثبُّتُ وهيَ قواعِدُ أَساسيَّةٌ قبلَ أَن تبني رأياً أَو موقِفاً أَو خُطَّةً على ما نقرأَهُ مِن أَفكارٍ وآراءٍ ونظريَّاتٍ وما تكسِبهُ من معلُوماتٍ.
يقولُ عزَّ مِن قائِلٍ في مُحكَمِ كتابهِ الكريم {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا}.
بمعنى أَنَّكَ غَير معذُور إِذا اتَّبعتَ أَيَّ خبرٍ أَو علمٍ أَو رأيٍ أَو معلُومةٍ بمجرَّد مروركَ عليها ومن أَيِّ مصدرٍ كانَ، فمسؤُوليَّتكَ التَّمحيصِ قبلَ أَن تقفُو أَثرهُ، وهذا هوَ الفَرق بين العاقلِ الذي يُمحِّص كُلَّ ما يقرأ قبلَ أَن يتبنَّى أَو يرفُض {فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ} وبينَ المجنُون الذي يقبَل ويتبنَّى ثُمَّ يُروِّج كُلَّ ما يقرأ مِن دونِ تثبُّتٍ وتمحيصٍ حتَّى إِذا كانت المعلُومة غَير منطقيَّة لا يُمكِنُ استيعابَها!.
يصفُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) هذا النَّوع اللَّاأُبالي عندما يقرأ أَو يسمع أَو يُشاهد بقولهِ {جَاهِلٌ خَبَّاطُ جَهَالَاتٍ عَاشٍ رَكَّابُ عَشَوَاتٍ لَمْ يَعَضَّ عَلَى الْعِلْمِ بِضِرْسٍ قَاطِعٍ، يَذْرُو الرِّوَايَاتِ ذَرْوَ الرِّيحِ الْهَشِيمَ}.
وفي الردِّ القُرآني التَّالي على مَن تساءلَ عن سببِ عدمِ نزُولِ القُرآنِ الكريمِ دُفعةً واحدةً إِلتِفاتةٌ لتوكيدِ المفهومِ.
يقُولُ تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً ۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا}.
إِنَّ العاقِلَ هوَ الذي يعضُّ على المعلُومةِ بضَرسٍ قاطعٍ قبلَ أَن يتعاملَ معها، بمعنى أَنَّهُ لا يأخُذَ بها إِلَّا بعدَ تمحيصٍ وتدقيقٍ وتثبُّتٍ، وفي غيرِ ذلكَ سيقفُ على حافَّةِ التَّفاهةِ التي يسوقُ الجهلُ النَّاسَ إِليها سَوقاً، عندما حوَّلتهُم وسائِل التَّواصلِ إِلى مكبٍّ للنِّفاياتِ.
فضلاً عن الذَّنبِ الذي يقترفهُ في هذهِ الحالةِ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}.
من جانبٍ آخر، فالقِراءةُ الصَّحيحةُ هي التي تأخُذَ حاجة الزَّمان والمَكان بالحُسبانِ، فليسَ كُلُّ قِراءةٍ مطلُوبةٍ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ وإِلَّا تحوَّلت من حاجةٍ إِنسانيَّةٍ إِلى لهوٍ لقضاءِ الوقتِ، كما أَنَّهُ ليسَ كُلُّ مادَّةٍ مطلُوبةٍ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، وإِنَّما يجب أَن يأخُذَ جوهرَها بالحُسبانِ الحاجةِ الزمكانيَّةِ إِن صحَّ التَّعبيرِ، فما كانَ الإِنسانُ بحاجةٍ إِلى أَن يتعلَّمهُ قبلَ قرنٍ مثلاً ليست نفسَها الحاجة التي تلحُّ عليهِ ليتعلَّمها اليَوم.
ولا ننسى تغيُّر أَدوات القِراءة التي تتطوَّر وتتقدَّم معَ تقدُّمِ وتطوُّرِ البشريَّة، والتي تُؤثِّر حتَّى على حاجةِ الطِّفلِ في اللَّعبِ، فما كان يلهُو بهِ الطِّفل قبلَ [٥٠] عاماً مثلاً ليست هيَ نفسَها التي يلهُو بها اليَوم، فضلاً عن أَنَّ أَدوات القِراءة كذلكَ اختلفَت كثيراً فرُبما كانت القِراءة قبلَ ذلكَ بالكتابِ الورقيِّ أَمَّا اليَوم فبالكتابِ الإِليكترُوني وما كُنَّا نقرأَهُ بالأَمسِ بالنَّظرِ نقرأَهُ اليَوم بالإِصغاءِ من خلالِ الكُتبِ الصوتيَّةِ، وهكذا.
ولذلكَ نرى مثلاً أَنَّ عددٍ من كُبرَياتِ الصُّحُفِ العالميَّةِ اختفَت ورقيّاً لتظهرَ إِليكترُونيّاً.
ومع كلِّ هذهِ المُتغيِّرات تبقى الثَّوابت الأَساسيَّة التي لا ينبغي التَّغافُلَ عنها، أَلا وهيَ؛
أ/ التَّفريقُ بينَ الثَّابتِ والمُتحوِّل، بين الثَّوابتِ والمُتغيِّراتِ.
ب/ التفكُّر والتأَمُّل كشرطٍ مُكمِّلٍ للقِراءةِ السَّليمةِ والنَّافعةِ.
ج/ خطأ تبنِّي والتَّرويجِ لكُلِّ ما تقرأ واعتمادهِ كمَصدرٍ لبناءِ الرُّؤيةِ.
قد يسأَلَ أَحدٌ؛ وكيفَ نُميِّز بينَ المصدرِ المَوثُوقِ لنعتمِدَ عليهِ والآخر غَير الموثُوقِ لنرمي معلوماتهِ في سلَّةِ المُهمَلاتِ؟!.
الجواب؛ بالإِختباراتِ المُستمرَّةِ والمُراقبةِ الدَّائمةِ، فإِذا عجزتَ عن التَّمييزِ {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}.
إِنَّ القراءةَ فقط تعني الإِستنساخ وقد تكُونُ خطيرةً أَمَّا القراءةَ بتفكُّرٍ وتأَمُّلٍ فتعني التَّحديثِ والإِنتاجِ، وللأَسفِ فإِنَّ جُلَّ قراءاتِنا هيَ من النَّوعِ الأَوَّل، وكأَنَّنا نحشُو عقولَنا بما نقرأَهُ من كُتبٍ ومُجلَّداتٍ ودورَّياتٍ من دونِ أَن نبذِلَ جُهداً لإِعادةِ الإِنتاجِ من أَجلِ التَّحديثِ والإِبداعِ.
أَو نكُونَ كما وصفتهُم الآية الكريمة {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا ۚ بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
وهوَ مثلُ الذي يقرأ ولا يتفكَّر فلا يفهم وبالتَّالي لا يتركُ العِلمُ أَثراً على سلوكيَّاتهِ فلا يُساعدهُ على التَّغييرِ نحوَ الأَفضل.
يقولُ أَميرُ المُؤمنينَ (ع) {أَوْضَعُ الْعِلْمِ مَا وُقِفَ عَلَى اللِّسَانِ وأَرْفَعُه مَا ظَهَرَ فِي الْجَوَارِحِ والأَرْكَانِ}.
وبذلكَ يكونُ [يحمِلُ] ثمَّ [لا يحمِلُ] كما وردَ في الآيةِ الكريمةِ أَعلاهُ.
اضف تعليق