عشرون عاماً من التجربة السياسية الديمقراطية في عراق ما بعد صدام، ومعها أكمل الإعلام العراقي عقدين كاملين من العمل تحت ظل الديمقراطية المستوردة، لكنه لم يبلغ سن الرشد بعد، وما زال هذا الإعلام غير البالغ يمارس سلوكيات المراهقة المبكرة عبر الضرب على الطاولة من أجل إثارة الجمهور ولفت الانتباه لشيء غير لافت...
عشرون عاماً من التجربة السياسية الديمقراطية في عراق ما بعد صدام، ومعها أكمل الإعلام العراقي عقدين كاملين من العمل تحت ظل الديمقراطية المستوردة، لكنه لم يبلغ سن الرشد بعد، وما زال هذا الإعلام غير البالغ يمارس سلوكيات المراهقة المبكرة عبر الضرب على الطاولة من أجل إثارة الجمهور ولفت الانتباه لشيء غير لافت.
وفي جانب آخر تجد الإعلام العراقي مثل شخص يردد نفس الكلام في كل مكان وزمان، فالبرامج الرمضانية قبل خمس سنوات تشبه برامجنا الرمضانية اليوم، وهنا أتحدث عن البرامج السياسية تحديداً، اللون الطاغي هو أسلوب المحاورة بين مقدم البرنامج، يقابله ضيف من الوزن الثقيل أو المتوسط، تعاد نفس الأسئلة التي سمعناها في شهر رمضان الماضي وفي شهر رمضان قبل خمس سنوات.
لا جديد، نفس الضيوف، نفس الموضوعات، نفس المعلومات، نفس الأسلوب، الجديد فقط هو رقم السنة ولحظة شهر رمضان التي كانت تأتي في الصيف بينما جاءنا هذه المرة ربيعياً.
يمكنني تقسم حياة الإعلام العراقي إلى مرحلتين فاصلتين:
المرحلة الأولى تبدأ من عام 2003 وتنتهي عام 2014، في بدايتها كانت السيادة للصحف والإذاعات، ثم ما لبثت ان بدأت القنوات الفضائية تأخذ حيزاً كبيراً منذ عام 2004 وتعاظم دورها خلال سنوات الحرب الطائفية وما بعدها حتى عام 2014.
في تلك السنوات كانت مشاهدة البرنامج الحواري منجزاً بحد ذاته، لأنها كانت تجربة جديدة بالنسبة للعراقيين الذين اعتادوا على الخطاب الأحادي لحزب البعث، وعدم قدرة مقدم البرنامج التلفزيوني على إحراج الضيوف، لتكون فكرة البرنامج الحواري التلفزيوني بعد عام 2003 شديدة الإثارة جماهيرياً ومن الطبيعي اعتماد القنوات الفضائية على هذا اللون.
كما إن التلفزيون في تلك المدة هو سيد وسائل الإعلام بلا منازع، لم يكن هناك يوتيوب ولا فيس بوك ولا تويتر ولا تيك توك.
اما فيما يتعلق بمغذيات الخبر التلفزيوني، أي الأحداث الجارية المثيرة (من قتل وتهجير) فقد كانت هي الطاغية على الساحة، لدرجة أنه لا توجد مساحة كافية لدى القنوات الفضائية لتغطيتها في نشرة إخبارية واحدة، أو برنامج حواري واحد.
الاحداث كثيرة ومتشعبة ومعقدة، والمساحة الزمنية للتلفزيون قليلة، لذلك تكون البرامج الإخبارية والحوارية مليئة بالجديد.
المرحلة الثانية: ما بعد عام 2014 وحتى يومنا هذا، وفيها نهاية الطائفية السياسية وبروز الدعوات للحكم المدني وفكرة إنهاء المحاصصة وبناء دولة المواطنة، إذ بدأت الأمور تتضح للرأي العام، والتحولات السياسية انغرست في النفوس ولدى غالبية مكونات الشعب العراقي.
لم تعد الطائفية عملة متداولة، والجدل تمحور حول السياسة بينما كان يتمحور حول الطائفة والقومية.
الاحداث الجارية لم تعد جاذبة للجمهور، والنشرات الإخبارية فقدت متابعيها، فيس بوك وتويتر ويوتيوب وتيك توك سحبوا جزءاً كبيراً من جمهور وسائل الإعلام العراقية.
التلفزيون لم يعد ذلك الجهاز الجذاب، ومعه البرامج الحوارية التي أصبحت عادية بالنسبة لجمهور تعود على إهانة السياسيين على الشاشات، بل وقيام بعض مقدمي البرامج بطردهم من البرنامج.
عوامل الجذب السابقة لم تعد موجودة، لكن الإشكالية التي ما تزال نفسها أن القنوات الفضائية العراقية ما تزال تعمل بنفس الأسلوب الذي دخلت عليه الكثير من العوامل والتي من شأنها إزاحة كل ما تم بناؤها سابقاً بفعل التطورات في مجال التقنية من جانب، وفي نوعية الأحداث من جانب آخر، والجزء الأهم ولادة جيل جديد من الجمهور على حياة تختلف تماماً عن السابق.
المعقد الجذاب
كل التطورات التي تحدثنا عنها تفرض تولد خبرة متراكمة لدى القائمين على القنوات الفضائية العراقية، وعلى جميع المستويات، في رصد تطورات الاحداث والربط بينها وتقديم رسالة تلفزيونية جذابة لجمهور يمكنه وصفه بـ"البدوي الرقمي"، يتنقل من قناة إلى أخرى ولا يثب على مشاهدة مادة إعلامية غير جذابة.
الجمهور الجديد ليس سطحياً بالمعنى المبتذل للكلمة، بل هو جمهور يبحث في تعقيدات الحياة على طريقة أحمد الغندور في برنامجه "الدحيح"، يريد معرفة كل شيء من أصل نشأة الكون، وصناعة الفضاء وشريحة إيلون ماسك، إلى أسباب تفوق ليونيل ميسي وكيفية صناعة وجبات الطعام.
الجمهور الجديد يحب فهم طبيعة الاقتصاد وكيف تعمل اقتصاديات العالم، لكن ليس من خلال النشرة الاقتصادية في قناة العراقية، إنما بالطريقة التي يقدمها أشرف إبراهيم في برنامجه المخبر الاقتصادي، ومع مصطفى الصعيدي في برنامج اقتصاد الكوكب.
وفي مجال السياسة لا يمكننا أن ننسى برنامج "زي الكتاب ما بيقول" لأحمد سلامة.
لا نريد من الإعلام العراقي تقديم برامج اليوتيوب على الشاشة، وما نقوله مجرد توضيح لنوعية البرامج التي بدأت تجذب ملايين الشباب وحتى الكبار، وتأخذهم إلى جانبها ليتقلص رصيد التلفزيون من المشاهدة إلى مستويات متدنية جداً.
أصبحت البرامج الحوارية التلفزيونية أشبه بندوات حوارية وورشات مغلقة تجري بين مقدمي البرامج والسياسيين، وقليل من النخبة التي ترصد وتشاهد لأغراض محددة لا علاقة للجمهور بها.
اضف تعليق