أرى في شهر رمضان المبارك فرصة ذهبية للتدريب على مهارة استخدام الفكرة والعِبرة في مخاطبة الآخرين، بل ومحاولة إعادة صياغة الافكار وبلورتها، بالاستفادة من تراث عظيم خلفه لنا المعصومون (ع)، الى جانب القرآن الكريم، وهذا يدعونا لقراءة خاصة ومتأنية للثقلين، ودراسة التاريخ لاستخلاص الدروس والعبر من الماضين لما يفيد حياتنا اليومية...
"من صام صامت جوارحه"
الإمام الصادق، عليه السلام
للمكان والزمان مدخلية واسعة في التحكم بالسلوك والتصرفات مراعاة لحرمة المكان المقدس، او حتى لشخصية ذات مكانة اجتماعية او سياسية، وكذا الحال بالنسبة للزمان عندما يكون الانسان في أجواء الحزن، يستذكر الناس فيه ذكريات حزينة، كما هو الحال في ذكرى عاشوراء الامام الحسين، عليه السلام، وسائر المناسبات المتعلقة بأهل بيت رسول الله، صلى الله عليه وآله، أو في أجواء كالتي نعيشها في هذا الشهر الفضيل من كل عام، حيث يلتزم الناس بفريضة الصيام والإمساك عن المفطرات نهاراً، وقد أكد الإسلام، في القرآن الكريم، وعلى لسان المعصومين على أن هذه الفريضة لها مقاصد بعيدة تبدأ من ذات الانسان، وتشمل جميع أنحاء الكيان الاجتماعي، ومصداقيتها متعلقة بمستوى التحكم بالسلوك والتصرفات، والبداية تكون من الأسرة داخل البيت، ثم تتسع التجربة الى الاصدقاء والزملاء، ثم عامة الناس، يشعرون فيها بالفارق في لحن القول وطريقة الخطاب في ايام شهر رمضان المبارك عن سائر أيام السنة.
الفكرة والعِبرة
أرى في شهر رمضان المبارك فرصة ذهبية للتدريب على مهارة استخدام الفكرة والعِبرة في مخاطبة الآخرين، بل ومحاولة إعادة صياغة الافكار وبلورتها، بالاستفادة من تراث عظيم خلفه لنا المعصومون، عليهم السلام، الى جانب القرآن الكريم.
وهذا يدعونا لقراءة خاصة ومتأنية للثقلين، ودراسة التاريخ لاستخلاص الدروس والعبر من الماضين لما يفيد حياتنا اليومية، وايضاً؛ يساعدنا على حل مشاكلنا، والاجابة على تساؤلات عدّة عن قضايا مختلفة، فنحن نعيش أزمات حادّة مثل؛ الفساد، على الصعيد الاجتماعي والسياسي، كما نعيش التشكيك واليأس، الى جانب ظواهر سلبية تفتك بالعلاقات الاجتماعية مثل؛ الجشع والطمع والحسد والغرور والكِبر، كلها حالات تنتجها النفس البشرية منذ أن وجدت، إنما المطلوب؛ الفكرة البديلة للمعالجة.
هذا ما كان يفعله رسول الله، صلى الله عليه وآله، في بدايات تشييده للمجتمع الاسلامي الأول، فقد كان يعيش بين أناس يحنّون الى الربا، والزنا، وشرب الخمر، ومختلف اشكال الظلم والانحرافات الخلقية، فهو قبل ان يُظهر اشمئزازه ممن كان في طريقه، او يراه حاضراً في مجلسه مع اصحابه، كان يقدم البديل الحضاري والانساني المشرق بحيث يُشعر الطرف المقابل بالخجل من نفسه، فكان –مثلاً- يحثّ على الزواج، ليس فقط لحل المشكلة الجنسية، وإنما لتحقيق غاية كبرى، وحل مشكلة اقتصادية عويصة مازلنا حتى اليوم نتخبط فيها، وهي؛ الفقر، فكان يُدهش من يسأله عن مساعدة مالية فيقول له: "تزوّج"! وجاء في حديث له، صلى الله عليه وآله: "استنزلوا الرزق بالنكاح".
الفكرة تبدو للوهلة الاولى مستحيلة، ولكن في حقيقتها، فكرة حضارية بامتياز، تحفّز على العمل المضاعف، كما تثير في النفوس مشاعر الحب والمودة، ثم التكافل والتعاون، وقد لمس هذا من جربها بإيمان ويقين، فكم من فاقد للمال الوفير، والوظيفة المرموقة والبيت، ثم تزوج بهذه النية دون احتساب تكاليف الأثاث الجميل والمجوهرات البراقة ومراسيم الزفاف و....ما الى ذلك، ومن ثمّ أصبح يملك الدار، وفرصة العمل الكريمة، وحتى السيارة وسائر وسائل العيش الكريم، له ولأولاده.
وفق هذا المنهج انتشر نور الاسلام، وكان الناس –ومايزالون- يعززون ايمانهم بفضل هذه الافكار العظيمة والمتموجة في النفوس مع الزمن والاجيال، "فالفكرة هي القادرة على بعث الموج وليس السيف". (شهر رمضان شهر البناء والتقدم- المرجع الديني الراحل السيد محمد الشيرازي).
معالجة نفسية
نحن نقرأ في الروايات عن ضرورة الارتقاء بالأخلاق الحميدة في هذا الشهر الفضيل، وأن المفترض صون اللسان وغضّ البصر والامتناع عن سماع المحرم، الى جانب كبح جماح الغضب والغرائز، وايضاً؛ كبح جماح الطمع فيما يتعلق باسعار المواد الغذائية في السوق، كل هذا وغيره يحتاج لعملية تفعيل داخل النفس لتكون مهيئة لارتداء ثوب رمضاني ذو وقار وبهاء.
ولعل هذا يفسّر جانباً من مفهوم الجهاد الأكبر الذي كشفه رسول الله لأول مرة لجمع من المسلمين القادمين من غزوة، وقد علاهم الغبار وتملّكهم التعب، فقال: "مرحباً بقوم قضوا الجههاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، فقالوا يا رسول الله! وما الجهاد الأكبر؟ قال جهاد النفس".
وسوى ذلك يكون الكلام عن الأخلاق الحميدة في شهر رمضان مجرد نصائح شفهية، او مواعظ في المجالس ينتهي مفعولها لحظة انتهاء المجالس، وعودة الناس الى حياتهم الطبيعية في البيت والشارع والسوق، لأن النفس والقلب هما من يقودان الانسان ويوجهانه الوجهة التي هما عليه، لذا نحتاج الى بذل جهد خاص وخفي في وقت واحد يمكننا من التحلّي المستمر بالأخلاق الحسنة التي تفيدنا شخصياً واجتماعياً، "فمن الخطأ أن يفكر سيئ الخُلق بأنه يستطيع في أية لحظة أن يحسّن أخلاقه اذا اراد ذلك"، يقول سماحة المرجع الشيرازي في كتابه المشار اليه.
التدريب على تنمية الأخلاق الحسنة في مخاطباتنا يحتاج خطوات عملية أوردها سماحة المرجع الراحل –طاب ثراه-:
1- التذكّر الدائم بنتائج الاخلاق الحميدة في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا يكون صاحب الاخلاق إنساناً محترماً ناجحاً في المجتمع، وفي الآخرة يكون مصيره الجنة والراحة الأبدية.
2- مطالعة قصص ذوي الأخلاق الحميدة الذين نجحوا في الحياة بسبب أخلاقهم، ومطالعة من هم على العكس ممن أخفقوا في حياتهم بسبب أخلاقهم السيئة.
3- الإيحاء الدائم بأننا نريد أن نكون افراداً مُتحلين بالأخلاق الحسنة، ونبذ الأخلاق السيئة.
4- معايشة ذوي الأخلاق الحميدة وعدم التقرب من ذوي الأخلاق السيئة.
فاذا كانت الاخلاق الحسنة والصفات الحميدة محبوبة لدى الجميع، وتهفو اليها قلوب جميع الناس لحاجتهم الفطرية اليها في حياتهم، فان الاستحقاق المنطقي بذل المزيد من الجهد والمتابعة والحرص على ايجاد مصاديق عملية لهذه الأخلاق في حياتنا اليومية، ومحاصرة أي حركة او فعل او قول غير سليم وخارج عن اللياقة والأدب وإبعادها عن الكيان الاجتماعي لتحقيق النسبة الأكبر من النقاء والسلامة التي تنعكس فوراً على طريقة تفكيرنا فتجعله ايجابية على طول الخط، وعلى أعمالنا فتكون وفق نوايا صادقة، وصوب أهداف سامية.
اضف تعليق