شهر رمضان الكريم يوفر فرصة كبيرة لخلق عملية التوازن في التعاطي مع الغرائز، ويمنح الإنسان فرصة كبيرة لتحقيق عملية التوازن بين مكافحة الغرائز ومكافأتها، فحين يصوم الإنسان أثناء ساعات الصوم المقرر من إشراقة النهار إلى الغروب وحسب الساعات المحدّدة شرعا للصوم، فإنه لا يكون حرّا في إطلاق العنان لغرائزه...
المكافحة والمكافأة، مفردتان متناقضتان في المعنى، فالأولى تعني مواجهة الغرائز ومحاصرتها والسيطرة عليها، وهذا يحتاج إلى قوة نفسية ومعنوية وأخلاقية قد لا تتوفر عند جميع الناس، وقد لا تتوفر لهم في كل الأوقات، بمعنى هناك أناس لهم القدرة على مكافحة غرائزهم كونهم يمتلكون وسائل وآليات هذه المكافحة، ومنها الإيمان، والتعقّل، والقوة النفسية، وامتلاك الحكمة في التعاطي مع الغرائز المنفلتة.
وهناك النقيض في التعامل مع الغرائز، ونعني بالنقيض ليس المكافحة وإنما المكافأة لهذه الغرائز من قبل أصحابها، فكيف تتم هذه المكافأة وما هي الأضرار أو الفوائد التي تنتج عنها، فالمكافحة واضحة ومعروفة، حيث يتعامل الإنسان مع غرائزه من خلال الردع المتواصل والمحاصرة والكبح لكي لا تذهب به غرائزه إلى منحدرات أخلاقية وسلوكية.
ولكن قد يحدث لدى بعض الناس نوع من المغالاة في مكافحة الغرائز، فيذهب بعيدا في أسلوب محاربة غرائزه خوفا من انفلاتها، فيمتنع حتى عن المسموح به كي لا تجرّه غرائزه إلى ما لا يُحمَد عقباه، وفي هذا النوع من المكافحة مغالاة واضحة وتزمت غير صحيح، لأن جسد الإنسان له حق على صاحبه، وهناك حدود معروفة ومشخّصة قانونيا واجتماعيا وأخلاقيا وشرعيا، تسمح للغرائز أن تتحرك وتتفاعل في المجال المسموح لها.
بعيدا عن التطرف لكبح الغرائز
مكافحة الغرائز لا تعني تدميرها كليا ومحاصرتها وكتم أنفاسها، لأن هذا النوع من المكافحة سوف يخرج عن التعامل السليم وسوف يؤدي إلى اعتلال الجسد، وينعكس ذلك على النفس فيؤدي إلى اعتلالات مختلفة فيها، فتنعكس عملية مكافحة الغرائز من الجيد إلى المسيء، وهذا النوع من المكافحة غير مرغوب به لا قانونيا لا شرعيا ولا اجتماعيا.
فمن غير النافع أن يكافح الإنسان غرائزه بطريقة متزمتة، لكي لا يتحول الأمر من حالة ضبط للغرائز إلى حالة تدمير لها، فيُستحسَن التعامل مع الغرائز في إطار المسموح وليس التطرف في المنع والكتم والقمع في مواجهتها.
شهر رمضان الكريم يوفر فرصة كبيرة لخلق عملية التوازن في التعاطي مع الغرائز، ويمنح الإنسان فرصة كبيرة لتحقيق عملية التوازن بين مكافحة الغرائز ومكافأتها، فحين يصوم الإنسان أثناء ساعات الصوم المقرر من إشراقة النهار إلى الغروب وحسب الساعات المحدّدة شرعا للصوم، فإنه لا يكون حرّا في إطلاق العنان لغرائزه، بل عليه أن يشكمها ويحد من عملية انفلاتها، وهو في هذا النوع من مكافحة غرائزه لا يتجاوز عليها، ولا تشكل هذه المكافحة نوعا من المغالاة، بل على الإنسان الصائم أن يعوّد نفسه ورغباته وغرائزه على أن تكون خاضعة للالتزام الذي يحدده الصوم على الإنسان.
وهذه فرصة جيدة يوفرها الصوم للناس، حيث يستطيع الإنسان أن يتدرب على هذا النوع من المكافحة ويلجأ إليه حتى بعد انقضاء شهر رمضان، بمعنى يستطيع الإنسان أن يدرّب ويمرن نفسه في شهر رمضان، على اكتساب القدرة على مكافحة الغرائز، وإمكانية تنمية هذا النوع من التعامل مع الغرائز، حتى في الشهور اللاحقة التي لا يوجد فيها صوم عدا الصيام الطوعي الذي يرغب به الناس خارج شهر رمضان المبارك.
مزايا الأجواء الروحانية الكبيرة
إذًا حين يستفيد الصائم في شهر رمضان من تجربة تعامله مع غرائزه، فإن هذا النوع من التعامل لا يسمى مكافحة وإنما مكافأة لهذه الغرائز، لأن الإنسان يعلّم غرائزه في شهر رمضان على الصبر والهدوء والانصياع للجانب الروحي الذي يحظر التعاطي مع حاجات الجسد الصائم، مثل تلبية الغريزة الجنسية أو الجوع وسوى ذلك مما لا يسمح به الصيام.
فمكافحة الغرائز في شهر رمضان، تتحول إلى نوع من المكافأة لها، لاسيما أنها تتم في أجواء روحانية كبيرة، وأجواء جماعية سواء على مستوى الاجتماع الكلي العام، أو على مستوى الأسرة وهي المجتمع الأصغر للإنسان، فالجميع في شهر رمضان يعملون على ترويض الغرائز بلطف وإيمان وصبر، فتصبح هذه الغرائز خاضعة للمتَّفق عليه اجتماعا وشرعا دونما قسوة أو قوة، ومع استمرار الوقت، تعتاد الغرائز على عدم الانفلات.
هذه المكافأة التي تحصل عليها الغرائز، هي نتيجة لصوم الإنسان في شهر رمضان، واستفادته من التعامل مع غرائزه بصبر وهدوء، بعيدا عن المكافحة الشديدة واللَّجم والتطرف في التعامل مع الغرائز التي تكاد أن تتحول إلى كائنات لها احتياجاتها، ولها حقوقها، وفي شهر رمضان تتم مكافأتها من خلال ما يحققه الصوم لها عبر خلق عملية توازن بين المباح لها والممنوع عنها، وأعظم ما يتحقق للصائم تدريب غرائزه على الانضباط بعد شهر رمضان.
اضف تعليق